q

عرف الانسان الهجرة منذ أقدم الأزمان، فهي بمعناها الواضح تعني انتقال شخص او جماعة من مكان الى آخر، بحثا عن فرص عيش كريم وآمن، ويكون هذا المكان اما ضمن حدود الدولة الداخلية التي ينتمي اليها المهاجر، او تتعدى حدود دولته وتكون هجرة خارجية، وهي تعني ترك الشخص او الجماعة المهاجرة لبلاده الى بلد آخر تحت أسباب عديدة منها توافر حياة افضل واكثر امنا، ولم تكن الهجرة وليدة العصر الراهن او الظروف المعقدة التي يعيشها العالم اليوم، فمنذ أحداث 11 سبتمبر 2001، أصبحت سياسات الهجرة موضوعًا ساخنًا للغاية، و ارتبطت سياساتها بشكل متزايد بغيرها من الموضوعات، مثل الأمن الوطني والإرهاب.

منذ أيام أصبح موضوع الهجرة هو الشغل الشاغل للعراقيين وخصوصاً فئة الشباب، حيث شهدت الأسابيع الماضية موجة هجرة واسعة إلى أوربا، وأضحت الظاهرة الجديدة في ظل ما يمر به العراق حديث الجميع من ابناء الشعب بمختلف انتماءاتهم، منهم من يحذر واخر يعدها امرا طبيعيا واخرين يعدونها محاولات مخفية لإفراغ البلد من الكفاءات، ووصل الحال إلى وجود صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع الكترونية تقوم بتعليم الشباب طريقة الهجرة غير الشرعية.

فعلى المستوى الرسمي فقد دعت وزارة الهجرة والمهجرين السفراء المعتمدين في الدول التي يهاجر اليها الشباب العراقي لغرض الالتقاء بهم ومعرفة استقبال الدول اليهم، فضلا عن وجود تحرك على المنظمات الدولية لكي تتضح الصورة الحقيقية عن اعداد المهاجرين ووضعهم، محذرة من ارتفاع معدلات الهجرة غير الشرعية للشباب العراقي، معتبرة ان العراق تحول الى دولة طاردة لشبابها جراء تفاقم الظروف الأمنية والعسكرية.

الناطق باسم الوزارة اكد "ان ملف هجرة الشباب من الامور المهمة التي تستحوذ على اهتمام وزارة الهجرة"، مشيرا الى "ان الهجرة الحالية للشباب تعد غير مسبوقة بسبب الاوضاع الامنية والاقتصادية التي يمر بها البلد".

واوضح ان "لقد اصبحت لا تقتصر على الشباب فقط بل شملت العائلات أيضا"، مبينا ان "هذا الملف يحتاج الى تدخل جميع القطاعات، والوزارة ليس لديها عصا سحرية لحل هذا الموضوع"، على حد تعبيره.

من جانبها المفوضية العليا لحقوق الانسان في العراق حذرت من مخاطر زيادة الهجرة غير المشروعة ولا سيما من الشباب والعائلات، لأنها تؤثر على مستقبل البلاد، مطالبة الحكومة بضرورة وضع الخطط الكفيلة باستقطاب الطاقات الشبابية.

فيما أعربت المرجعية الدينية، عن قلقها من اتساع ظاهرة هجرة الشباب العراقي إلى الخارج وحذرت من إفراغ العراق من الطاقات الشبابية.

وقال ممثل المرجعية في كربلاء الشيخ عبد المهدي الكربلائي خلال خطبة صلاة الجمعة التي اقيمت في الصحن الحسيني، إن "ظاهرة هجرة الشباب العراقي الى بلدان اخرى اتسعت خلال الآونة الاخيرة حتى لوحظ أن الشباب يستعينون بمجاميع التهريب المنتشرة في بعض البلاد المجاورة".

واهاب الكربلائي بالمسؤولين إلى "إدراك حجم خطورة هذه الظاهرة وتداعياتها على البلد، والعمل بصورة جادة على اصلاح الاوضاع بخطة تنموية شاملة في مختلف المجالات الاقتصادية والصناعية والزراعية"، حاثا على "تنشيط القطاع الخاص لاستيعاب العاطلين عن العمل".

من جانب آخر فقد اعلنت الامم الأمم المتحدة ان أكثر من 300 ألف مهاجر عبروا البحر المتوسط نحو أوروبا منذ مطلع 2015 واكثر من 2500 غرقوا في البحر أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا، حسب ما أعلنته المفوضية العليا للاجئين في الأمم المتحدة، موضحة أن هذا الرقم لا يشمل القتلى والمفقودين قبالة سواحل ليبيا.

وان اختلفت الأسباب لهذه الهجرة من بلد إلى آخر ولكن تبقى هذه الظاهرة تمثل خسارة لجميع المجتمعات ومنها المجتمع العراقي وفي دراسة لمركز الخليج للدراسات الإستراتيجية التي جاءت لتقول أن ما تكلفه هجرة العقول العربية من خسائر لا تقل عن [200] مليار دولار وان الدول الغربية الرأسمالية تعد الرابح الأكبر من هجرة ما لا يقل عن [450] ألفا من هذه العقول ورأت الدراسة أن المجتمعات العربية أصبحت بيئات طاردة للكفاءات العلمية وليست جاذبة لها الأمر الذي أدى إلى استفحال ظاهرة هجرة الخبرات العلمية العربية إلى بلدان الغرب.

ولا ننسى دول الغرب في هذا المجال، فهي ايضا لديها أسبابها التي تجعلها تستقبل الشباب العراقي المهاجر إليها من دون تردد، فهي شعوب تفتقر للطاقات الشبابية، وتسودها شريحة الشيوخ والعجزة من كبار السن، بمعنى أن نسبة الموارد العالية في البلدان الغربية يمكنها ان تستفيد من الشباب العراقي أفضل الفائدة، وتستخدم عقولهم وجهودهم العضلية في بناء بلدانهم، مقابل توفير السكن والمأكل والأمن لهم، وهو ما لا يستطيع ان يوفره لهم بلدهم الأم العراق، بسبب الفشل الحكومي والفساد الذي يدمر كل شيء.

ويتطلع العراقيون الى وضع الحلول اللازمة واتخاذ الخطوات التشريعية والإجرائية الفعالة التي تعالج هذه الظاهرة من الجذور، وهي في الحقيقة تقوم على الخطوات العملية التي يمكن أن تُدرَس ويتم التخطيط لها بصورة فاعلة وعلمية وفق خطط يضعها متخصصون.

وبعيدا عن المواقف الرسمية فان استقراءا لآراء عدد من الشباب الذين يرغبون بالهجرة يظهر اتفاق آرائهم على ان الخروج من البلاد في ظل الاوضاع الحالية افضل قبل ان تسوء اكثر!.

والملفت ان بعضهم من ميسوري الحال ولهم اعمالهم بحياة مستقرة نسبياً.. الا ان البحث عن حياة جديدة يعد شغلهم الشاغل.

وبات طريق الهجرة واضحاً بعد ان كان في السنوات التي سبقت عملية التغيير في العراق غير مرئي وصعباً على الكثيرين، فالدخول الى تركيا عن طريق اقليم كردستان اصبح امراً سهلاً وبعدة وجوه كسائح او للعلاج وغيرها من الاسباب.

وتبدأ معاناة العراقيين بعد ان يتم الاتفاق مع سماسرة الهجرة بمبالغ كبيرة على الخروج الى اوربا بإمكانات متواضعة وبقوارب بحرية ما لبث البحر الابيض المتوسط ان يبتلع الكثيرين منهم نتيجة رداءتها.

ومن يحالفه الحظ بالوصول الى اليونان او مقدونيا فأنه يبدأ بالمعاناة الاخرى بتلقيه التعامل القاسي من الاجهزة الامنية في تلك البلدان والتي لا تخلو ايضاً من استغلال بعض السماسرة لتمريرهم الى اماكن اخرى.

معضلة جديدة يظهرها الواقع للحكومة الحالية العراقية لاتقل خطورة عن باقي المشاكل الكبيرة، وهنا يظهر الامر تحديا واضحا في كيفية معالجة المشكلة والحد من أسبابها، ولحين النجاح في ذلك تبقى الاحتمالات مفتوحة الابواب في سيطرة الحكومة على هذا الملف ام فشلها فيه مع استمرار وجود مشاكل اخرى تنتظر في طابور الازمات العراقية.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
http://mcsr.net

اضف تعليق