q
إن تَطابُقَ ما يراه الأفراد في عالم التلفاز مع الواقع المحيط يزيد من تأثيرات الغرس، بحيث يصبح الأفراد كأنهم تعرَّضوا لجريمة مزدوجة، وهو ما يُطلَق عليه التضخم أو الرنين، وقد أشارت العديد من الدراسات التي أُجريَت حول العنف التلفازي، إلى تضخم تأثير المواد التي يعرضها التلفاز...

لأن المشهد العربي مشهدٌ مركّب ومعقد؛ فإن الحديث عن الإعلام لا يمكن فهمُه بطريقة أُحادية الجانب، فهو نسق مرتبط بالأنساق الأخرى، السياسية والاجتماعية والثقافية، مثلما هو مرآة لكل الأنساق؛ بل هو الأخطر في بنائها. هو الأداة في بناء العقول، وتغيير الاتجاهات والسلوك. فالمنطقة العربية تشهد نمطًا من الحروب يُجسّد في صيرورته العنف، والعنف المضاد بين الأطراف المتحاربة، والتي تدور رحاها داخل كل بلد على حِدة، وبين الدولة الواحدة ومحيطها الإقليمي؛ فهناك عنف طائفي ومذهبي وديني وإثني. وقد اختلط العنف بالأيديولوجيات والأديان لينتج أنماطًا من العنف تستمد شرعيتها من الخطاب السياسي أو الديني للأطراف المتحاربة؛ حتى تحوّل العنف إلى واجب مقدس!

لقد ساهم الإعلام العربي في تعميق الصورة السلبية للعنف، من خلال تداول مقاطع العنف والصور الوحشية وتكرارها، وحسب النظريات العلمية، فإن المشاهدة لها (تؤدي إلى اعتياد الناس على المشاهد الدموية؛ فلا تُحدِث بهم نفس رَدَّة الفعل مع مرور الوقت؛ حيث تتضاءل وتقلّ حساسية الشخص مع اعتياده على المناظر، وقد يتحول القلق والنفور إلى إدمان ورغبة في مشاهدة المزيد، قد تصل إلى حد الاستمتاع بها). وهذا ما يؤثر على سلوك الشخص ليتسم بالعنف والغلظة، ويصبح إحساسه بالآخرين أقل، ويفتقد القدرة تدريجيًّا على التصرّف المهذَّب، ويمارس العنف على الآخرين، دون أن يَشفي غليلَه!

وهناك أضرار إضافية، فحسَب الدراسات العلمية الحديثة؛ فإن مشاهدة التلفاز بشكل مستمر تؤدي إلى تجلُّط الدم في عروق الساقيْن والذراعيْن والحوْض والرئتيْن، تلك التي تُعرف باسم الجلطات الدموية الوريدية، أو الخثار الوريدي، مثلما يؤدي إلى: السمنة، والغباء، والكأبة، وضعف الكفاءة الجنسية، وارتفاع ضغط الدم. وبشكل عام، يُركز الإعلام العربي على الحدث، أكثر من تركيزه على الظاهرة؛ فيتفنَّن في عرض تفاصيل الأحداث، وإبراز الدمار والجرح والدم والأجساد المشوَّهَة، أكثر من التركيز على العنف كظاهرة لها عواملها وأسبابها. مثلما تغيب عن تحليلات الإعلاميين كثيرًا، معالجة جذور الظاهرة وأسبابها العميقة، الثقافية والسياسية والاقتصادية.

واستنادًا على ذلك، يتم التعامل معها وكأنها ظاهرة مجرَّدة ومطلقة، وتتم معالجتها كظاهرة معزولة في الزمان والمكان، لأشخاص معزولين أيضًا، وليس لكونها مرتبطة بسياق سوسيو ثقافي واقتصادي وسياسي واجتماعي. هذا بالإضافة إلى طغيان الجانب الإخباري على الجانب التحليلي التفسيري؛ وهو ما يجعل الإعلام يعيش على الهامش، وعلى سطح الحدث، ويجعله بالتالي عاجزًا عن الإقناع، ويفقد القدرة على التأثير؛ لأنه سطحي وظاهري.

هناك نظريتان رئيستان تطرحان مدى تأثير التغطية الإعلامية للعنف والإرهاب على الرأي العام: أولهما، نظرية العلاقة السببية بين الخطاب الإعلامي والعنف والإرهاب. ووفقاً لهذه النظرية؛ فإن التغطية الإعلامية للعنف تؤدي إلى انتشار ظاهرة العنف بأشكاله؛ حيث تتكاثر العمليات الإرهابية كنتيجة طبيعية للتغطية الإعلامية. وحسب هذه النظرية، هناك ثلاثة أنواع للتأثيرات الإعلامية، هي: (الوعي والتبنِّي، وانتشار العدوى، والوساطة). فالعلاقة بين الطرفين تأخذ شكلًا دائريًّا لا يتوقف ولا ينتهي؛ حيث يستفيد كل طرف منهما من الطرف الآخر.

ثانيهما، نظرية العلاقات المتباعدة التي ترى أنه: لا يوجد دليل علمي على أن التغطية الإعلامية للعنف هي المسؤولة عن مضاعفة العمليات الإرهابية؛ فليس هناك أي علاقة قائمة بين المتغيّريْن؛ ولهذا يدعو أصحاب هذه النظرية إلى عدم التدخُّل في أداء وسائل الإعلام عامة، وفي علاقتها بالإرهاب خاصة.

ومع ذلك، فإن موضوعات العنف المعروضة في وسائل الإعلام، لم تخضع للدراسة بشكلٍ كاف؛ لأنها أصبحت في كثير من الأحيان تُنتج الجريمة والعنف بمختلف أشكاله؛ لأن تواتر العنف في هذه الوسائل قد أصبح مَدعاةً للقلق في جميع الأوساط الاجتماعية في العالم. وتوصَّل العالم (بيير بورديو) إلى أن: (التلفاز يمارس جملة من الإكراه على الأفراد والمجتمع، فيها نوع من اللباقة واللطف والخفاء، وهذا ما يُسميه بالعنف الرمزي). وهناك علاقة متفاعلة بين وسائل الضبط الاجتماعي وظاهرتي الجريمة والجُنوح.

إن تَطابُقَ ما يراه الأفراد في عالم التلفاز مع الواقع المحيط يزيد من تأثيرات الغرس، بحيث يصبح الأفراد كأنهم تعرَّضوا لجريمة مزدوجة، وهو ما يُطلَق عليه التضخم أو الرنين، وقد أشارت العديد من الدراسات التي أُجريَت حول العنف التلفازي، إلى تضخم تأثير المواد التي يعرضها التلفاز، والتي تحتوي على عنف يتعرض له الأفراد الذين يعيشون في ظروف عنف غير عادية.

مع الأسف، صار الواقع العربي يغرق بدم قتلى الحروب الطائفية، ومغامرات جنرالات العسكر، والمليشيات المبتكرة لعمليات الذبح والقتل وسفك دم الأبرياء، وصار المواطن العربي مهووسًا بفعل القاتل، والمشاهد السيئة، والتلذُّذ بالدم، وفقدان الإحساس باللون الأحمر.

صار الدم على موائدنا وجبة دسمة لا تحرك المشاعر، ولاتثير الشعور بالغثيان والقيء. بل أصبحت فواجع القتل، وأنهار الدم؛ كأنها حبوب مخدرة مضادة للضجر والاكتئاب، صرنا بين خياريْن لمحتوى الإعلام العربي: تفاهات وخُزعبلات وبلادات في تفسير الحياة، ومشاهد لدماء تُغرق حارات الأوطان، ومعها تنتشر عناوين لمسلسلات تلفازية تُشعل الواقعَ العربي بدم جديد مهدور في فضاء الإعلام؛ فهناك: أُخوة الدم، والحنين إلى الدم، والدم على روما، وزهور الدم، والدم مقابل المال، وحمام الدم، وعرس دم، وأولياء الدم، وبحر من الدم، وعهد الدم، وأمراء الدم، والدم والنفط. مازال الدم يتدفق في شرايين الأرض العربية وبساتينها وزهورها!

لا يزال التاريخ بيننا: دمٌ يُراق غزيرًا ورخيصًا وشهيًّا، دمٌ يتساوى مع الماء. أصبحت إراقة الدماء خبرًا من أخبار اليوم العادية!

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق