يقدم تودوروف من خلاله رؤية للحضارة الإنسانية المعاصرة، وفيه، يدعو فيه لبناء جسور الحوار بين الحضارات وينسف أطروحة صدام الحضارات التي تبناها وروجها هنتنجتون. لذا يعتبر تودوروف الصوت الإنساني الحريص على دحض هذه المقولة، ليضمن تنوع الخصائص الثقافية، ضمن نزعة كونية تتيح إمكانية الانتماء الرحب من خلال تنمية...
”المتحضر هو الذي في كل مكان وزمان يعرف كيف يقر بإنسانية الآخر التامة. ولتحقيق ذلك لابد من المرور بمرحلتين: في الأولى، نكتشف بأن للآخرين أنماط عيش مختلفة عنا، وفي الثانية، نتقبل بأنهم يتشاركون معنا بالإنسانية نفسها“ (تزفيتان تودوروف: الخوف من البرابرة - ما وراء صدام الحضارات).
تعدد الثقافات وتقارب الهويات مدخل للتسامح والتآخي. وعلى الرغم أن البشر يحملون هويات عامة وخاصة، إلا أن الهوية الإنسانية هي المظلة الجامعة بينهم أجمعين، لذلك يتوجب احترام ما يجمعنا، كما يتعين علينا إعادة قراءة تلك الهويات في ضوء الهوية الجامعة، خاصة أن الإنسانية المشتركة تفرض التكامل والاندماج، حتى نتعايش بسلام. ما يحتم التصرف بروح التضامن، وتفعيل هويتنا الإنسانية في كل القضايا، فاحترامنا للهويات يجعلها أكثر تقارباً وتعايشاً في إطار الإنسانية.
في حقيقة الأمر، لم يكن تزفيتان تودوروف (1) Tzvetan Todorov (1939- 2017) فيلسوفاً عادياً، أو كباقي الفلاسفة الذين يظهرون على شاشات التلفزيون ويسدون النصح لرئيس البلاد حول سياسته اليومية، بل كان يدعو إلى نزعة إنسانية خالصة، مهاجماً الأصوات المتطرفة في الغرب، خاصةً آراء الكاتبة الإيطالية أوريانا فالاتشي (2) التي ترى أن "الحديث عن ثقافتين أمر مزعج، أما وأن نتحدث عن المساواة بينهما، فذلك أمر يثير غضبي".
تعتبر كتب تودوروف دعوة حقيقية إلى الحوار، لأنها تحمل الحكمة والنصيحة للغرب كي يكف عن احتقار الآخر، ولرجال السياسة كي يعملوا على وقف التدخل العسكري المدمر الذي يذكي جذوة الصراع ويُشعل نار الكراهية، لأن الخير لا يُفرَض بالقوة، بل بالحوار والاقتراح.
يرى تودوروف أن كل جماعة إنسانية تمتلك ثقافة، إنها الاسم الذي يطلق على مجموع خصائص الحياة الاجتماعية، على طرق العيش والتفكير الجماعيين، على أشكال وأساليب تنظيم الوقت والفضاء، الشيء الذي يتضمن اللغة، الدين، البنى الأسرية، طرق بناء المنازل، الأدوات، طرق تناول الطعام أو ارتداء الملابس. بالإضافة إلى ذلك، إن أعضاء الجماعة، مهما كانت أبعادهم، فإنهم يستبطنون هذه السمات في شكل تمثيلات. وتوجد الثقافة على مستويين مترابطين بشكل وثيق: مستوى الممارسة الخاصة بجماعة ما، ومستوى الصورة التي تتركها هذه الممارسات في أذهان أعضاء الجماعة، إلا أنه يسأل نفسه: ما هي التعددية الثقافية؟، ويجيب "يكفي القول: إنها نزعة إنسانية. إنها سمة سياسية تكمن في نقد الاختلافات بين المجتمعات داخل بلد ما".
يشكّل كتاب " تزفيتان تودوروف" نحو رؤية جديدة لحوار الحضارات - تأملات في الحضارة والديمقراطية والغيرية عام 2015، ترجمة وتحرير وتقديم: محمد الجرطي، فرصة حقيقية للوقوف على عالم وأفكار المفكر الفرنسي، بلغاري الأصل، وذلك من خلال ثلاثة فصول تضم حوارات ومقالات وقراءات نُشِرت في الصحف والمجلات الفرنسية. يتألف الكتاب من ثلاثة أقسام تنطوي على مباحث عديدة جاءت تحت العناوين الآتية:
- القسم الأول: رؤية تودوروف للحضارة والديمقراطية والغيرية.
- القسم الثاني: تزفيتان تودوروف: "من صدام الحضارات إلى حوار الحضارات".
- القسم الثالث: حوارات مع تودوروف بصدد الحضارة والديمقراطية والتعايش مع الآخر.
يقدم تودوروف من خلاله رؤية للحضارة الإنسانية المعاصرة، وفيه، يدعو فيه لبناء جسور الحوار بين الحضارات وينسف أطروحة صدام الحضارات التي تبناها وروجها صامويل هنتنجتون. لذا يعتبر تودوروف الصوت الإنساني الحريص على دحض هذه المقولة، ليضمن تنوع الخصائص الثقافية، ضمن نزعة كونية تتيح إمكانية الانتماء الرحب من خلال تنمية القدرة على الاعتراف بإنسانية الإنسان الآخر عن طريق ربط وحدة الإنسانية، عموماً، بتعدد أشكال تجلياتها الثقافية.
بذلك لا تستقيم الحضارة بهذا المعنى إلا بانصهار كافة الأشكال الثقافية والاعتراف بها على اختلافها وتنوعها إنها تعبير عن إنسانية مشتركة واعية بوحدتها العميقة وقادرة على الترابط والتلاحم في خضم تنوع أشكال التعبير الثقافي. من هنا تغدو البربرية حسب تودوروف إنكاراً للتعددية الإنسانية، إنها الموقف الذي بواسطته ننبذ شخصاً ما خارج دائرة الإنسانية من خلال نفي خالص لاختلافه أو لما يشكل سماته المشتركة.
بناءً على ما سبق حلل تودوروف الوجود الإنساني والصراع المحتدم بداخله بين الاحترام والحقد وبين التعايش والتدمير. وفي السنوات الأخيرة لاحظ تودوروف بأن الإنسانية تقف أمام امتحان أخلاقي كبير، يتوجب عليها أن تنجح فيه، إذا أرادت أن تستمر بالوجود كحضارة. وفي هذا العالم المعولم، تزداد حدة السؤال عن طريقة التعايش مع الآخرين، وتودوروف يشترك مع مفكرين آخرين في تخوفه من التدمير الذاتي للإنسان.
وبالأخص فيما يتعلق بالأخطار المحدقة بالديمقراطية الغربية، التي تدعي أنها تمتلك الحقيقة وأنها النموذج الأمثل للحياة الإنسانية، ولا يتعلق الأمر هنا بأخطار خارجية، ولكن من داخل الديمقراطية نفسها، التي تعمل على خلق "أعدائها المقربين"، وعبر هذا المفهوم يعني تودوروف معسكر الرأسماليين الجشعين من جهة والمعادين للأجانب من جهة ثانية. كما أنه حذر قبل من انتشار الأحزاب المعادية للأجانب في أوروبا وبالأخص ذات النزعة اليمينية المتطرفة، موضحاً أوجه الشبه المتعلقة بخطاب العنصريين الفرنسيين في القرن التاسع عشر وخطاب الجبهة الوطنية في وقتنا المعاصر.
يعتبر تودوروف أن التهجمات الروتينية على التعدد الثقافي -التي تصدر حتى من أحزاب جماهيرية ووسائل الإعلام المعروفة- أصحبت فعلاً ضاراً. وهو يستدل على ذلك فلسفياً، معتبرا بأن " الانسجام القومي " مجرد وهم، فهذا المفهوم يقوم على التصور العبثي الذي يقول بوجود كل اجتماعي ثابت. إن المجتمع هو برأيه صيرورة دينامية، والثقافات قابلة ويمكنها أن تجدد نفسها عبر الحوار واللقاء.
أما الآخر، فيتوجب اكتشافه لا تدميره. والأساسي بالنسبة للإنسان أن تكون له ثقافة، وهو يحتاجها كبديل عن محددات سلوكه التي تقوم على الغرائز والتي فقدها الإنسان خلال تطوره الطبيعي. إن تعدد الثقافات رحمة، لأنه في الحوار تكمن فرصة التعلم. وبدلاً من محاولة إلحاق الآخر بنظام الأنا، يتوجب على كل إنسان الاعتراف بأن بداخله يكمن بربري. لذا ينبه تودوروف الغرب من الخوف السائل والمرضي والمتزايد من الآخر، خصوصاً الإنسان المختلف عن المركزية الغربية وبالأخص الإنسان المسلم، والتحلي بالتسامح تجاه الآخر وإزاء الأقليات التي تعيش داخل الغرب من خلال الدعوة إلى التعايش مع الثقافات المختلفة.
وفي سياق متصل يصف تودوروف التقوقع على الذات، وعدم الرغبة في التعامل مع الثقافات الأخرى، كـ "شكل جديد من البربرية والهمجية". وهو يعتبر "البربرية" مفهوماً يملك قدرة تفسيرية مهمة، فهو يشمل كل ما تجعله الحضارة الإنسانية أمراً غير ممكن. ويحسب على ذلك الإرهاب والتعذيب الذي يرى في اعتماده من طرف إدارة جورج بوش الأمريكية أمراً مقلقاً.
وبعد عمليات الحادي عشر من سبتمبر يتوجه تودوروف ضد كل أولئك الذين أرادوا تفسير الإرهاب انطلاقاً من الإسلام. إن حافز الإرهابيين لم يكن الاعتقاد بنظام قيمي ديني، ولكن الانتقام من سياسة الإذلال والعدمية. فما صنع إرهابيي باريس لم يكن انتماءهم إلى ثقافة متطرفة، ولا انتماءهم إلى أي ثقافة كانت، إنهم بدون ثقافة. إن الأمر يتعلق بـ "اجتثاث للثقافة" كما يصف تودوروف الظاهرة، التي تسيطر على مجتمع الهجرة في أوروبا وهو ما يتوجب فهمه بشكل أساسي من أجل مواجهته. أما " الحرب على الإرهاب " فإنه يعتبرها مفرغة من أي معنى.
كتب تودوروف كثيراً عن خيانة المركزية الثقافية، والعنصرية، والقومية، والفاشية، والستالينية لأفكار التنوير والتسامح. شبح جديد، يتغذى على عناصر قديمة، قابلة للانفجار، يراود عصرنا. يكتشف تودوروف في النزعات العنصرية الأوروبية وفي سياسة حكومة بوش، نواة خيانة جديدة.
لقد رأى في تلاعب حكومة بوش بالوقائع، خاصية أساسية لها. وضد معرفة موضوعية، زعمت الإدارة الأمريكية وجود أسلحة بيولوجية للدمار الشامل في العراق. "إنه أمر ممكن إذن -رغم التعددية الحزبية وحرية الصحافة- إقناع بلد تحكمه ديمقراطية ليبرالية بأن الحقيقي خاطئ والخطأ حقيقة"؟ هذا ما كتبه تودوروف عام 2008، وهو عبر ذلك يفضح نواة المشكلة التي تواجهها اليوم الديمقراطيات الليبرالية. ففي رؤوس السادة الجدد في أمريكا، يلعب الإسلام دوراً أكبر من الدور الذي لعبه في رؤوس الغزاة الإسبان في الماضي.
وفي النهاية، لا يتوانى تودوروف عن هجاء الديمقراطية الغربية بالقول: المسيحية السياسية للمحافظين الجدد تقدم نفسها كحامل للتقدم وحقوق الإنسان والازدهار الاقتصادي للجميع، غير أنها تتناسى أن تطلب رضا وموافقة هؤلاء الناس الذين تتوجه إليهم، وترسل إليهم جيشها ليحررهم. وكنتيجة لهذا النزوع، يتم إضفاء طابع الشرعية على التعذيب الذي، فضلاً عن ذلك، وافقت عليه الدول الأوروبية بلا تردد. إن الديموقراطية، في الولايات المتحدة كما هو الشأن في أوروبا، أصبحت متآكلة ومهددة من طرف السلطة المفرطة في التجاوزات التي اكتسبها أصحاب النفوذ المالي... إن تمويل الحملات الانتخابية من طرف المقاولات والشركات الذي أصبح يحظى بالشرعية، يفسد العملية الديموقراطية. وكل هذا يحدث باسم أرقى الديموقراطيات وأعرقها. والسؤال الذي يطرح نفسه علينا أليس إلغاء ثقافة الآخر همجية بدائية كامن في كل إنسان رغم تقدم مظاهر الحياة المادية والثقافية والاجتماعية ؟!!!
ويختتم تودوروف مقالته "التعايش مع الثقافات المختلفة " بتأكيده على أن (الديانات الكبرى، في الماضي والحاضر، توصي المرء بأداء واجبات الضيافة، ومساعدة الفقراء والمساكين، وحب القريب). وهذه وصية لا تتعلق بالقانون، بقدر ما ترتبط بالتكوين الاجتماعي. ففي عالم اليوم، والذي يتميز بالتطور السريع لوسائل الاتصالات والتواصل التكنولوجية، كما يتميز بتوحيد الاقتصاد، أصبحت الشعوب في مختلف الدول أكثر قرباً واعتماداً على بعضها. فاللقاء مع الأجانب هو نتيجة حتمية وضرورية. ومن مسؤوليتنا الاستفادة بشكل أفضل من هذه اللقاءات، في ديارهم كما في ديارنا، فما يحدث هناك بالتعاون يجب أن يكلل هنا بالاندماج. وتدفعنا نقاط القوة في مصلحتنا ومعتقداتنا إلى السير في الاتجاه نفسه.
اضف تعليق