وجود مؤسسات لرعاية الايتام والفقراء، أو مراكز صحية وتربوية خيرية، تمثل بصمات حضارية لكل بلد ينشط فيه ابناؤه في أجواء من الحرية في العمل والفكر، مستندين على إرث ثقافي وديني داعٍ الى قيم انسانية مثل؛ التعاون والتكافل، في بلد كهذا يفترض ان يعيش الناس في بحبوحة من العيش...
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}
وجود مؤسسات لرعاية الايتام والفقراء، أو مراكز صحية وتربوية خيرية، تمثل بصمات حضارية لكل بلد ينشط فيه ابناؤه في أجواء من الحرية في العمل والفكر، مستندين على إرث ثقافي وديني داعٍ الى قيم انسانية مثل؛ التعاون والتكافل.
في بلد كهذا يفترض ان يعيش الناس في بحبوحة من العيش، وإن افتقر هذا البلد للموارد المالية والثروات بفضل هذه المؤسسات التي تتحمل قسطاً من العبء عن كاهل الدولة في دعم الشريحة الفقيرة، لذا نلاحظ موقفاً ايجابياً ومشجعاً من بعض الدول لهذه المؤسسات بتخفيض الضرائب –مثلاً- او التقليل من الرسوم الجمركية على البضائع الواردة لحسابهم من الخارج، او إعطاء تسهيلات مالية وإدارية تحتاجها لتمشية أمورها بسلاسة كون مؤسسات من هذا النوع غير ربحية بالإساس، وتعتمد على التبرعات والمساهمات من ابناء المجتمع .
ولا نتطرق الى الطريقة غير الحضارية لبعض الدول في التعامل مع مبادرات من هذا النوع حتى نكون ايجابيين بالطرح، ثم لا نخوض في التظلّم وكسب الاستعطاف لتعزيز الموقف، لقتناعتنا بالمبدأ القائل: "ما كان لله ينمو"، إنما نعرّج على الموقف الشعبي و طريقة تعامله وتعاطيه مع هذه النشاطات، لأنه المعني بهذه النشاطات، والمستفيد الأول والأخير هم عامة الناس، ثم إن الذي يدير مشاريع من هذا النوع هو أحد افراد المجتمع، وليس موظفاً او ذو منصب حكومي، ولا يميزه عن الآخرين إلا في شجاعته في خوض عمل يعرضه للمسائلة في كل صغيرة وكبيرة، فعليه تحقيق الأفضل وكسب رضى الناس بمتسوى عالٍ، كما عليه التعامل بحذر شديد مع عنصر المال في مشروعه، و ربما يكون أكثر حذراً من المموّل نفسه، الذي لا يُلام على خسارة يتعرض لها كونها أمواله الخاصة، بينما صاحب المشروع الخيري يتعامل مع أموال الآخرين، وهو حلقة الوصل الحساسة بينهم وبين المستفيدين.
هذه الحالة الدقيقة تستدعي توخي الحيطة والحذر خلال عملية تقييم، أو إصدار حكم معين على شخص او جهة تعمل في هذا المجال حتى لا نظلم أحد فنصبح على ما فعلنا نادمين، وربما الندم لا ينفع وليس ثمة خط رجعة اذا تعلّق الأمر بتشويه سمعة شخص او جهة في أعين الناس وخلق رأي عام يتبرأ منهم ويلعنهم، بل ويتبرأ حتى من العقيدة التي دفعتهم الى هذه المبادرات الانسانية! ثمّ يتضح إن كل ما قيل عبارة عن خدعة وافتراء وتضليل للناس.
نحتاج الى أدوت دقيقة تجنبنا الوقوع في خطأ التقييم و إصدار الأحكام، لاسيما في ملف كهذا ذو مدخلية في مسائل إنسانية وأخلاقية وعقدية، نسلط الضوء على اثنين فقط:
الأولى: العلم والإطلاع
دائماً يُقال؛ أن عامة الناس ليس لها الوقت لقراءة الكتب والاطلاع على الافكار وعلى حقائق الأمور في المجالات كافة، فيأتي المثقف بقلمه، والصحفي بنشاطه الميداني وشجاعته وتفرّسه وأمانته وغيرها من المواصفات المعروفة، وايضاً؛ والعالم بشتى الاختصاصات، كلهم يشكلون صفاً واحداً، ويتحملون مسؤولية ضخ العلم والمعرفة والمعلومات الى هؤلاء الناس.
هذا الواقع، او المعادلة الثقافية –إن جاز التعبير- ربما تصدق في العلاقة بين طرفي المعادلة؛ الطبيب والمريض –مثلاً- فإن أخطأ الطبيب فان المريض لن يدينه مباشرة، ولا يتهمه بالجهل والتحايل عليه، لأنه يقف أمام شخص أفنى عمره في دراسة الطب، وربما تكون ثمة مبررات لهذا الخطأ، والحديث حول هذا الموضوع طويل، في كل الاحوال يبقى علم الطب –وكذا سائر العلوم الاكاديمية- محترمة عند الناس، و مصدراً لتلبية حاجاتهم المختلفة في الحياة.
وكذا الحال في عالم الفكر والثقافة، وحتى الدين، فمن الطبيعي ان تحصل هفوات او أخطاء، فليس ثمة معصوم، فالناس تتفهم الموضوع، فتشخص المخطئ والفاشل سريعاً، وتتخذ الاجراء السريع بتجاوزه واستبداله بالأفضل، كما هو الحاصل اليوم في اعتماد الانترنت أحد ابرز مصادر المعرفة، ولكن!
اذا تعلّق الأمر بطرف ثالث يقع بين من يضخ المعلومة ومن يتلقاها من عامة الناس، والمعلومة تتعلق بشخصيته او بعمله، فهنا نكون امام معادلة أخرى، فليس من السهل تدارك الخطأ، لأن القضية تتعلق بشخص آخر يتعرض لسهام النقد والتجريح على حين غفلة منه، وربما لا يعلم بالضجة من حوله إلا اذا اخبروه بأن مواقع التواصل الاجتماعي تتقاذف اسمه وصورته بشكل بشع.
هنا على المتلقي البحث عن مصدر المعلومة والتأكد من صحتها من نفس المكان او المؤسسة المستهدفة، وهذا من حق كل انسان واعٍ باحث عن الحقيقة، وإن تعذر هذا فيجدر به التزام الحياد والتأنّي، ولا يكون وسيلة لتعزيز الفتنة التي يعلمنا أمير المؤمنين أروع طريقة للتعامل معها بقوله: "كُن في الفتنة كبنت لبون، لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب"، وليكون صاحب الفتنة وحده يبحث عمن يعضده في مساعيه المريبة، لاسيما اذا تعلق الأمر بأعمال خيرية وانسانية تثير مشاعر الحسد والنقص لدى الآخرين.
الثاني: الإنصاف
فالذي يبادر لتأسيس مشاريع خيرية ليس معصوماً، بقدر ما يحمل قدراً من الشعور بالمسؤولية للمساعدة في رفع الحرمان وضنك العيش ممن هم ضحايا الحروب والازمات الاقتصادية، وما أكثر الاخطاء الحاصلة في مؤسسات من هذا النوع، وبغض النظر عن نوع الاخطاء وطريقة تصحيحها والتعامل معها، فان الأجدر النظر الى النتائج وما تقدمه هذه المؤسسات مع افتقاد الساحة لمشاريع ومبادرات مماثلة من قبل الدولة ومؤسساتها و امكانياتها الضخمة، هذا ناهيك عن سوء تعامل بعض هذه المؤسسات معها.
وربما يكون الناس والمستفيدين جزءاً من الحل في إيصال الكلمة الحق، والاقتراح او الفكرة السديدة للتطوير او التصحيح، وما أجمل ما قرأت في إحدى المستشفيات الخيرية في كربلاء المقدسة، مكتوباً على صناديق للشكاوى: "كُن صادقاً وقل الحق".
أما أن يكون البعض كمثل "بنت لبون" في فتنة الصراع من أجل الهيمنة والنفوذ، فانه لن يضرّ الشخص (الطرف الثالث) او أعماله، بقدر ما سينعكس الأمر الى ما هو أخطر في بعده الحضاري، ونكون مصداق "قاطع سبيل المعروف"، لأن بلادنا –ومنها العراق- تفخر بأنها الأوفر نصيباً من المشاريع الخيرية والاعمال الانسانية في العالم، لاسيما في المحن والشدائد التي حارت فيها شعوب وبلدان، ولا أدلّ من أزمة جائحة كورونا، وكيف أن هذه الروح الحضارية والمبادرات الانسانية أنقذت الآلاف من العوائل ذات الدخل المحدود وأوصلت السلات الغذائية الى البيوت، ولم يسجل في العراق أي أزمة غداء، او مستلزمات ضرورية مطلقاً في تلك الفترة.
اضف تعليق