الحكم الرشيد هو ممارسة السلطات الاقتصادية والسياسية والإدارية لإدارة شؤون المجتمع على كافة المستويات، يرتكز على آليات وميكانزمات وعمليات ومؤسسات تسمح للمواطنين والجماعات بالتعبير عن مصالحهم وتسوية النزاعات، والحصول على حقوقهم والقيام بالتزاماتهم، فالحكم الرشيد وفقاً لهذا المنظور يقوم على أساس المشاركة ويتسم بالشفافية وينطوي على المساءلة...
اصدرت المحكمة الاتحادية العليا قرارها المرقم (17/اتحادية /2023) في 8/3/2023 والمتضمن الحكم بعدم دستورية والغاء المادة (25) مكرر من قانون بيع وايجار اموال الدولة رقم (21) لسنة 2013 المعدل بالقانون رقم (21) لسنة 2016 والتي تنص (لوزير المالية بيع او ايجار الاراضي الزراعية التي تقع خارج حدود محرمات الطرق المقطوع عنها الحصه المائية بدون مزايدة علنية وعلى وزير الزراعة رفع يد الاصلاح الزراعي عن تلك الاراضي وتسجيل البيع والايجار ايراداً نهائياً لخزينه الدولة على ان تراعى حقوق الارتفاق)، وبالرغم من كون القرار المذكور يتمحور حول فكره حماية المال العام.
الا انه تضمن في ثنياه الاشارة الى مضامين الحكم الرشيد، من أبرز التعريفات لمصطلح الحكم الرشيد (Good Governance) واكثرها شمولية هو التعريف الذي أورده برنامج الامم المتحدة الانمائي (UNDP) إذ عرف الحكم الرشيد بأنه (ممارسة السلطات الاقتصادية والسياسية والإدارية لإدارة شؤون المجتمع على كافة المستويات، يرتكز على آليات وميكانزمات وعمليات ومؤسسات تسمح للمواطنين والجماعات بالتعبير عن مصالحهم وتسوية النزاعات، والحصول على حقوقهم والقيام بالتزاماتهم)، فالحكم الرشيد وفقاً لهذا المنظور يقوم على أساس المشاركة ويتسم بالشفافية وينطوي على المساءلة، كما أنه يتسم بالكفاءة في تحقيق الاستخدام الامثل للموارد فضلاً عن استناده لقواعد العدالة والانصاف، وكذلك أنه يعزز سيادة القانون، فهو يستند الى مرتكزات أساسية يمكن أن نوجزها بالآتي: المساءلة، المشاركة، الشفافية، سيادة القانون، العدالة، الانصاف، الكفاءة، الاستجابة، الفعالية، مكافحة الفساد، وهذا ما سنحاول الاشارة اليه في المحاور الاتية:
1- سبق وان تصدت المحكمة الاتحادية العليا في الدعوى المرقمة (213/اتحادية /2021) في 9/2/2022 من تلقاء نفسها الى عدم دستورية المادة (24/ثالثاً) من قانون بيع وايجار اموال الدولة رقم (21) لسنة 2013 لمعدل التي اجازت للبلديات بموافقة وزير البلديات والاشغال العامة ولأمانة بغداد بيع الاراضي المخصصة للإسكان ببدل حقيقي وحسب اسعار مثيلاتها المقدرة من قبل لجان التقدير ( بدون مزايدة علنية )، لأنه مخالف لاحكام المواد (27/ثانياً، 14 . 16) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 وكنا نتمنى من المحكمة الموقرة ان تتصدى لنص المادة (25) من ذات القانون لاتحاد سبب وعلة الغاء النص لعدم دستوريته في الحالتين، وفقاً لمعيار ارتباط النصوص الواردة في بالتشريع محل الطعن ارتباطاً لا يقبل التجزئة باعتبار ارتباطها واتصال اجزائها حقيقة قانونية لاشك فيها.
كما لها وفقا لمفهوم التصدي الخاص ان تمارس رقابة التصدي باوسع صورها والحكم بعدم دستورية اي نص ورد في قانون او نظام يكون متصلاً بالنزاع القائم امامها باي صورة من الصور، ومنها على سبيل المثال التصدي لمشروعية قرار مجلس الوزراء رقم (320) لسنة 2022 والخاص بتحويل جنس الاراضي الزراعية المملوكه للدولة الى اراضي سكنية وتمليكها بدون مزايدة الى المستفيدين منها لان القرار المذكور فيه مخالفة للقوانين النافذه التي تنظم احكام الاراضي الزراعية واخلال بمبدأ المساوة وتكافؤ الفرص في تملك هذه الاراضي فضلاً عن خرق القرار المذكور للمادة (27) من الدستور.
2- كرس قرار المحكمة المذكور فكرة الرقابة بكافة انواعها بمنظورها كمسؤولية وطنية على الفرد والدولة، ودورها في الحفاظ على المال العام وهو قوله تعالي في سورة التوبة (الاية 105) وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) وبينت المحكمة الموقرة بأن عناصر مسؤولية الرقابة والحفاظ على المال العام تتمثل في ثلاثة : الاول الرقابة الذاتية النابعة من وجدان الفرد وايمانه برقابة الله لتصرفاته كافة، والثانية الرقابة التنفيذية المتمثلة برقابة الدولة وهو ما يعرف فقها بالرقابة الادارية، والثالثة الرقابة الشعبية المتمثلة برقابه مؤسسات المجتمع المدني وافراد المجتمع ذاته، الا ان القرار لم يشير الى الرقابة القضائية التي تعد من اهم الوسائل في مراقبة الافراد والسلطة التنفيذية في مدى التزامها بالقوانين والدستور.
مكافحة الفساد
3- اكد القرار على مبدأ المساءلة ومكافحة الفساد ضد اي اخلال ينتهك حرمة المال العام باعتبار ان هذا المبدأ احد مقومات دولة القانون والحكم الرشيد حيث جاء في حيثيات قرارها (… ولعل من سبل حماية المال العام اصدار القوانين التي تجرم انتهاك هذه العمومية وتضع القوانين المناسبة ضد كل من تسول له نفسه التصرف بالمال العام لمصلحته الشخصية فتسن القوانين التي تردع المتهاونين بما يحفظ المال العام ولا يجعله نهباً لكل عابث حتى ولو بفرض غرامات مالية معينه مروراً بالحرمان الوظيفي ووصولاً الى السجن، وذلك حسب طبيعة الانتهاك او التصرف بالمال العام، ومن هذه السبل ايضاً تفعيل مؤسسات الرقابة ومكافحة الفساد الاداري ومنحها الحصانة الاعلامية المناسبة دون ملاحقة او مضايقه او تعطيل لعملها…)
4- اكد القرار على مبدأ النزاهة وفكرة الرقابة على المال العام كرسالة وفكرة وطنية تقوي لدى الفرد والمجتمع ثقافة الانتماء لبلده ووطنه حيث جاء في حيثيات قرارها (… ان لحماية المال العام اثار كبيرة تنعكس على الفرد وعلى المجتمع، فبالنسبة للفرد فذلك يشعره بالنزاهة وعندما يعلم ان المال العام في بلده مصون ومحمي فتقوى لديه ثقافه الانتماء لبلده ووطنه مما يدفعه لمزيد من الاخلاص لوطنه، اما بالنسبة للمجتمع ففي حماية المال العام قوه له ورفعه من شأنه حيث يفتخر كل افراده بمؤسساتهم العامة بما تحتويه من اموال فتعزز لدى المجتمع ثقافة الانتماء للوطن فيصبح مجتمعا متماسكاً ومترابطاً وقوياً وتصبح اعين الجميع مراقبه ومفتوحة نحو كل اعتداء او انتهاك للمال العام ….) .
5- اكد القرار على مبدأ حسن ادارة الموارد الاقتصادية للبلد من خلال التأكيد على ضرورة الحفاظ على المال العام وتشديد اجراءات حمايته وهذا كما اكدته المادة (27) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 التي نصت على حرمة الاموال العامة وتضمنت الزاما دستورياً على المشرع بتنظيم الاحكام الخاصة بحفظها والتصرف فيها او النزول عنها بموجب قانون، وهنا نكون امام الزام دستوري يعدم المجال التقديري للمشرع في اصدار القوانين، ويعد المشرع ممتنعاً عن تطبيق هذا النص الدستوري، ويلاحظ ان قرار الحكم رغم تأكيده على حرمة وحماية المال العام الا انه خلا من اي توجيه او ايعاز للسلطة التشريعية لتلافي هذا الامتناع التشريعي الذي يشكل خرقا للدستور لغرض تشريع قانون حماية المال العام واحوال التصرف به والتنازل عنه، ولولا نص المادة (71/2) من القانون المدني رقم (40) لسنة 1951 المعدل، لكانت الاموال العامة بدون غطاء تشريعي لحمايتها، وهنا لابد من التأكيد على حرمة اموال الدولة بصورة عامة وعدم قصر الحماية على المال العام لذا نحن نفضل استخدام مصطلح ( اموال الدولة ) ليكون شاملاً للدومين العام والدومين الخاص.
سوء تصرف
فهنالك الكثير من اموال الدولة غير المخصصة للمنفعة العامة تتعرض الى سوء التصرف سواء كانت منقولة ام عقارية، حيث بيعت الكثير من العقارات المملوكة للدولة وغير مخصصة للنفع العام بمبالغ زهيده وهذا شكل هدراً لأموال الدولة الخاصة، ذلك ان الاصل في طبيعة ملكية الدولة للمال هي ملكية خاصة، وتتحول هذه الطبيعة الى عامة متى ما خصصت للنفع العام بالفعل او بموجب القانون ومتى ما زالت صفه العمومية عن اموال الدولة عادت الى طبيعتها اموال خاصة للدولة، وهذا ما يجب ان ينتبه له المشرع ويسبغ الحماية على اموال الدولة سواء كانت عامة أم خاصة.
6- ان من اهم ضوابط الرقابة على دستورية القوانين ان تتم في حدود الدستور لا خارجه، وهذا الضابط قد يبدو امر بديهي، فالرقابة على دستوريه القانونين يقتصر في الغالب على النصوص والمبادئ الواردة في الوثيقة الدستورية، ويمكن للمحاكم الدستورية الخروج عن النطاق التقليدي للرقابة على دستورية القوانين من خلال استخلاص المبادئ والحقوق المتفرعة عن الحقوق الاساسية الواردة في الدستور من خلال النظرة العصرية المتطورة للمحكمة لهذه المبادئ والحقوق، كما ذهب اتجاه يتزعمه الفقيه الفرنسي دوكييه (Duguit) الى امكانية مد رقابه الدستورية الى المبادىء العليا غير المكتوبه التي استقرت وجدان وضمير الجمهور لتحقيق التضامن الاجتماعي في حال مخالفة التشريع لهذه المبادئ، وهذه المبادى طبعا لاتستخلص من الدستور او روح الدستور وانما من مبادىء خارج الدستور، ورغم نبل دوافع هذا الاتجاه الا انه استبعد لعدم ارتكازه على ضوابط موضوعيه منضبطه.
ويلاحظ ان المحكمة الاتحادية العليا قد راقبت مدى توافق التشريع محل الطعن مع الوثائق الدولية واعلانات حقوق الانسان العالمية وهذا معناه ان المحكمة الاتحادية توسعت في نطاق رقابتها على دستورية القوانين خارج الوثيقة الدستورية حيث جاء في حيثيات قرارها ( …ان ما جاء في المادة (25) من قانون بيع وايجار اموال الدولة رقم (21) لسنة 2013 المعدل يخالف مبدأ المساواة وفقاً لما جاء في المادة (14) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 حيث يتبين لنا من خلال المراجعة السريعة لكافة اعلانات الحقوق التي اعقبت الثورات وصولاً الى الاعلانات العالمية لحقوق الانسان وحتى نصوص اغلب دساتير دول العالم تظهر لنا بوضوح المرتبة التي يحتلها مبدأ المساواة في تلك النصوص ولاسيما لجهة عدم جواز التمييز بين الناس على اساس عرقي او ديني او ثقافي، حيث ان تطبيق مبدأ المساواة من خلال الاجتهاد الدستوري يعطي لهذا المبدأ الحقيقة الدستورية الملزمة مما يقتضي ضرورة التشدد في استمرارية تجذير القيم الدستورية لمبدأ المساواة ….) .
ومما يجدر الاشارة اليه ان المحكمة الموقرة لها سابقة في الرقابة خارج نطاق الدستور في قرارها المرقم (71/اتحادية /2021) في 13/6/2021 والخاص بعدم دستورية انشاء محاكم خاصة في اقليم كوردستان، حيث تعرضت لقرارات مجلس الامن الدولي ونظام روما الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
7- التأكيد على البعد الاجتماعي لمبدأ المساواة، اذ رغم كون قرار المحكمة قد اسس في بدايتة الى مبدأ حماية المال العام ومسؤولية الرقابة عليه الا ان قرار المحكمة استند في جوهره الى مخالفة النص الطعين لمبدأ المساواة الذي يشمل المواطنين والاجانب المقيمين بصورة شرعية والاشخاص المعنوية.
وان مجرد انتهاك مبدأ المساواة فيما يخص الاشخاص المعنوية يترتب عليه بصوره حتمية انتهاك لمبدأ المساواة للاشخاص الطبيعية، حيث جاء في خلاصة الحكم ( ….اذ ان منح وزير المالية صلاحية بيع وايجار الاراضي الزراعية التي تقع خارج حدود محرمات الطرق المقطوع عنها الحصة المائية.
بدون مزايدة علنية قد يؤدي الى ترجيح مشتري على اخر لاسباب اجتماعية او شخصية حيث لايوجد قيد على ذلك لاسيما ان النص المذكور انفاً لم يقيد بشروط معينه مما يقتضي الحكم بعدم دستوريته …).
فسرت المحكمة الاتحادية العليا الشخص المعنوي وفقاً للنظرية العضوية او الحيوية التي لا ترى اي اختلاف بين الشخص الطبيعي والشخص المعنوي من حيث التكوين، فاذا كان الجسم البشري هو مجموعه خلايا فكذلك الشخص المعنوي يتكون من خلايا وهم الافراد المكونين لها تتفاعل ارادتهم في احداث الارادة الجماعية وتوليدها وهذا مستفاد من عبارة المحكمة (لان الاشخاص المعنويين هم بالواقع تجمع لاشخاص طبيعيين)، في حين ان النظرية السائدة في تحديد الاشخاص المعنوية هي نظرية التنظيم القانوني التي ترى الشخص المعنوي ليس الا تنظيماً قانونيا قصد به تحقيق غرض معين، يخلع عليه القانون اهلية اكتساب الحقوق وتحمل عبىء الواجبات وهذا هو اتجاه القانون المدني العراقي الذي نص في المادة (48/2) من على ( ويتمتع الشخص المعنوي بجميع الحقوق الا ما كان منها ملازما لصفه الشخص الطبيعي وذلك في الحدود التي يقررها القانون ).
واخيراً لابد من الاشارة الى ان المحكمة الموقرة لم تتطرق الى شرط المصلحة في قبول الطعن الدستوري، في حين ردت طعن مشابه من ذات النائب (ر.ح) رئيس اللجنة القانونية في مجلس النواب، لانعدام شرط المصلحة في الدعوى المرقمة (16/اتحادية /2023) في 8/3/2023 التي طعنت ببعض نصوص النظام الداخي الخاص بـ ( الهيئة العليا للتنسيق بين المحافظات)، حيث ردت الطعن لعدم توفر مصلحة شخصية مباشرة ومؤثرة في مركز الطاعن القانوني او المالي او الاجتماعي، لذا ندعو المحكمة الموقرة لبلورة الاتجاه الخاص في الكشف عن توفر المصلحة كشرط لقبول الطعن الدستوري… والله الموفق.
اضف تعليق