كان الحديث عن دور المثقف في مجتمع خارج من الحروب والعنف ويعيش علاقات سلطة تقوم على التنازع والصراع نوعا من البطر والاوهام، فليس هناك سوق لبضاعة المثقف الفكرية والتنويرية لدى جمهور محبط مشغول بأولويات، تفرضها انساق القوة والسلطة وسباق الجري على الثروة وأوهام العيش الرغيد...

كُتب الكثير عن المثقفين وأدوارهم، فمنذ نجاح المثقفين الفرنسيين في الافراج عن الضابط الفرنسي درايفوس، الذي حكم عليه بالاعدام عام 1884 وقبلها ما كتبه المفكرون البولنديون عن المثقفين وفئة الانتلجنسيا ودورهم التنويري في بولندا نهاية القرن الثامن عشر، مرورا بمساهمة المفكر الايطالي انطونيو غرامشي (ت1936)، وحتى الكتابات المتأخرة عن الثقافة والمثقفين كالذي انجزه ادوارد سعيد( ت 2003) عن المثقف والسلطة وصور المثقف والثقافة والامبريالية، وكتاب المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري (ت2010) المثقفون في الحضارة العربية، تراكم تراث معرفي كبير عن الثقافة والمثقفين وسوسيولوجيا الثقافة واشتغالاتها بشكل عام.

في بلادنا العراق لم يكتب الكثير عن المثقفين العراقيين ومسؤولياتهم ومساهماتهم الفكرية والتغييرية والنقدية، كان ذلك مفهوما ومعلوما بسبب هيمنة الشمولية والاستبداد ردحا طويلا وبسبب الصراع الفكري والأيديولوجي، الذي انخرط به مثقفون عراقيون توزعوا بين تيارات قومية وماركسية واسلامية، ومن طبيعة الصراعات الأيديولوجية أنها تترك ظلالا من التشكيك في قيمة الافكار وتأثيراتها الاجتماعية وطبيعة تلقيها في البيئة المجتمعية، برز الراحل علي الوردي (ت1995) بوصفه مثقفا نقديا ساهمت اطروحاته النقدية في اثارة نقاش اجتماعي عام بشأن قضايا جوهرية يحفل بها الواقع العراقي.

مما له ارتباط بالشخصية والسلطة والتخلف الاجتماعي والسلوك السياسي والتعصب مقتحما مناطق ممنوعة نوعا ما، ولم تتغلف مواقفه بصبغة ايديولوجية، فكان نموذجا للمثقف المستقل المكون تكوينا علميا ومعرفيا جيدا، وذا رسالة تنويرية وتغييرية جعلت من اطروحاته محور الجدل العام بين موافق ورافض وناقد وشارح، وحركت مياها راكدة كثيرة، وكشفت طبقات من الوعي الزائف والعلاقات التسلطية، التي كبلت حياة العراقيين افرادا ومجتمعا، وكلها مشكلات بنيوية اعاقت تنمية المجتمع واستقرار الدولة وساهمت في تغول السلطات، ثم أنتجت لنا هذه التوليفة العجيبة من ثقافة الصراع والتغالب والعنف والتفاخر والارتكاس في التخلف الاجتماعي بكل تصنيفاته بدون اكتراث لذلك، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه من امراض مجتمعية وسياسية، ابرزها انتشار العنف وسيطرة علاقات القوة على الدولة، وانخفاض انتاجية المجتمع وسوء الاداء والعيش الاستهلاكي على الريع النفطي، وتراجع مؤشرات التنمية وصعود مظاهر التعاسة والقلق الدائم على المستقبل.

جسد الوردي انموذج المثقف المستقل وليس المثقف التقليدي الملتحق بالسلطة ولا مثقف التيارات الايديولوجية والداعية المتحمس لها، يعود ابرز مشكلات الثقافة والمثقفين وتراجع ادوارهم إلى ظاهرة تصنيف المثقف، وفقا لمنحدره الطبقي والاجتماعي وانتمائه السياسي وربما المكاني والمذهبي، يربط الكثير من الباحثين بين المثقف العراقي ونشوء الطبقة الوسطى، ويتواصل الجدل في الوسط العلمي والثقافي بين تدهور دور المثقف وبين تراجع الطبقة الوسطى، ذات المصلحة في الاستقرار السياسي والحرية الاقتصادية والنظام الديمقراطي التمثيلي المجسد لمصالح القوى المجتمعية، وحيث هيمنت الشمولية والقمع والحصار والفقر والافقار في ما سبق، وانهارت الطبقة الوسطى كاملا، لم يكن متيسرا الحديث عن مثقف عضوي منحاز إلى المجتمع ومدافع عن الحريات وكاشف لطبقات التسلطية داخل البنية الاجتماعية والسياسية وناقد للدوغماتية، بل كان المثقف ينوس بين الالتحاق بالسلطة وبين الهروب من مخالبها إلى حيث المنافي ودور الهجرة والتهجير والمراقبة عن بعد.

وربما دون معايشة مباشرة، بعدما سقطت الشمولية كان متوقعا أن يستعيد المثقف النقدي دوره لكن شيوع الاحتراب السياسي جعل الدفاع عن الوجود والبقاء قيد الحياة أولوية حياتية لدى الافراد اتقاء لشر العنف والصراع الهوياتي، وأدى ذلك إلى ظهور سلوكيات الاستسباع السياسي والطفيلية المالية المحمية بجماعات الدفاع عن مصالح الطوائف والقوميات، ثم ظهرت مكاسب الحالة الانتقالية نتاج الاضطراب والقلق السياسي، لتشيع قيما ومعايير سلوكية جديدة اضافت مشكلات جديدة للمشكلات السابقة التي عانى منها العراق.

لذلك كان الحديث عن دور المثقف في مجتمع خارج من الحروب والعنف ويعيش علاقات سلطة تقوم على التنازع والصراع نوعا من البطر والاوهام، فليس هناك سوق لبضاعة المثقف الفكرية والتنويرية لدى جمهور محبط مشغول بأولويات، تفرضها انساق القوة والسلطة وسباق الجري على الثروة وأوهام العيش الرغيد والحصول على الجاه الاجتماعي والموقع السياسي النافذ، في هذه الاحوال يبدو المثقف العراقي باحثا عن دور غير متاح له، انه يعيش اغترابه النفسي والواقعي والعملي بين الوظيفة والدور المفترض، وبين تقلص مساحات الفعل والتأثير فهو محاصر بين حزبية راسخة غير مرئية، وبين امكانات شحيحة ومساحات مغلقة، أخطرها انغلاق الوعي الاجتماعي على الهامشي والسطحي من الاهتمامات.

في حين تتجه الدولة والمجتمع إلى وجهات غير آمنة سياسيا واقتصاديا، ويتدهور الرأسمال الاجتماعي والثقافي إلى مستويات متدنية تسودها قيم العشيرة والطائفة، وتنحدر فيها السلوكيات السياسية والمجتمعية إلى مزيد من الانحطاط الاخلاقي، دونما وقفة جادة لمنع هذا الارتكاس المتزايد، لدينا مشكلات كبرى وكبيرة تبتدأ في اصل العلاقة بين المواطن والدولة وتمر بالهوية والاحزاب، ووجهة المجتمع المستقبلية وأمن البلاد وتنميتها وطرق اقتسام السلطة والثروة وتوزيع الدخل وبناء الانسان والثقافة والتعليم وتكوين الرأسمال الثقافي، وعلاقة كل ذلك بالقوانين والمؤسسات والادارة والتخطيط وقيادة العملية السياسية التي تنبثق منها رؤية السياسات العامة.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق