فشلت واشنطن والطبقة السياسية العراقية الحاكمة لمرات عديدة في السنوات العشرين الماضية، فيما كسب الشعب العراقي امتحاناته العسيرة لأكثر من مرة، ولكن لا زال المستقبل يُظهر مؤشرات كثيرة من اللا يقين، كما يخفي مخاطرا لا يمكن نكرانها، وهي مخاطر تثير الخوف والهلع وتنذر بالمزيد من الامتحانات الصعبة...
لم تمض سوى ثلاثة شهور على اعلان الولايات المتحدة وحلفائها اسقاط نظام صدام حسين في التاسع من نيسان-ابريل سنة 2003 حتى جمع حوار مطول كاتب هذه السطور وأحد الزملاء الأكاديميين لتقييم ما جرى في العراق، فكان من جملة ما قاله هذا الزميل:" أشعر أن الهواء الذي أتنفسه اليوم صار أفضل، لا أصدق أن صدام زال من حياتنا".
هذه الكلمات العفوية التي قيلت قبل عشرين سنة لم تعبر عن شعور قائلها فقط، بل عبرت عن مشاعر معظم العراقيين -أنذاك- باستثناء قلة من المستفيدين من نظام البعث السابق أو المخدوعين بشعاراته الجوفاء داخل العراق وخارجه، ولا غرابة في ذلك، فالأنظمة المستبدة العنيفة تشبه كثيرا الأوبئة والكوارث البيئية التي تصيب البشر والطبيعة، فهي تسمم كل شيء تحكمه وتتسلط عليه: كعلاقات الناس بعضهم بالبعض الآخر، ومقدار احساسهم باحترام الذات، فضلا على تخريب سبل عيشهم، ومصادرة حريتهم واستقلاليتهم، وتشويه مستقبلهم.
ان المجتمعات التي يحكمها الطغاة تفقد طاقة وحيوية الحياة، وتصبح مجرد هياكل انسانية مريضة محبطة أسيرة الخوف والفقر والفساد وهدر الكرامة.
لقد كان سقوط صدام حسين حدثا سعيدا لمعظم العراقيين على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم، وقد تلقوا هذا الحدث بشعورين مختلفين تماما: أحدهما شعور الألم بوقوع بلادهم تحت نير احتلال قوة أجنبية، طالما تسببت في الحاق الأذى بهم نتيجة دعمها يوما ما للطاغية الذي ظلمهم، شأنه في ذلك شأن كل الطغاة الاخرين الذين دعمتهم في دول عديدة، أو أثناء حروبها اللاحقة معه عندما تقاطعت مصالح الطرفين. اما الاخر فهو شعور الأمل بأن سقوط هذا الطاغية سيضع حدا لمعاناتهم الطويلة، ويعبد طريق المستقبل الى ما هو أفضل، على مستوى الحرية والرفاه والحكم الدستوري المؤسساتي السليم.
ولكن مع الأسف، لم يتحقق للعراقيين ما كانوا يحلمون به، فسرعان ما اصابهم الإحباط وخيبة الأمل جراء الأحداث المنحرفة الخطيرة التي عصفت بهم بعد الغزو الامريكي، تلك الاحداث التي تعود الى عاملين رئيسيين:
الأول-فشل الولايات المتحدة الامريكية في العراق.
لقد تذرعت الولايات المتحدة عند غزوها العراق بذرائع كثيرة، لإقناع الرأي العام الأمريكي والعالمي بصحة منهجها العدواني اتجاه بغداد، ومنها سعيها الى تدمير أسلحة الدمار الشامل العراقية، والقضاء على دعم نظامه الحاكم للتنظيمات الإرهابية، كالقاعدة وغيرها، وهي ذرائع انكشف زيفها الكامل وعدم دقتها فيما بعد.
ومع ذلك لم تترك بشاعة نظام صدام حسين، وقراراته الخرقاء التي اتخذها خلال سنوات حكمه لهذا النظام من يدافع عنه ويحميه من السقوط في النهاية، على الرغم من مواجهته غزوا غاشما مخالفا للقانون الدولي، وهذا ما يفسر سقوطه السريع في الميدان، كما يفسر فرحة معظم العراقيين بالقضاء عليه حالمين بنجاح واشنطن في تحرير بلادهم ووضع نظام حكمهم الجديد على المسار الديمقراطي الصحيح.
نجحت واشنطن في اسقاط طاغية العراق بعد سنوات طويلة من الحروب المتلاحقة والعقوبات الاقتصادية الشديدة التي نزعت جميع مخالبه، الا أن النجاح في الحروب ميدانيا لا يسمى نجاحا ما لم تؤكده أو تنفيه القرارات السياسية التي تأتي بعد ذلك، وهذا ما أخفقت فيه ادارة الاحتلال؛ بسبب ارتكابها سلسلة من الأخطاء التي لا تغتفر يأتي في مقدمتها: قرارها الاحمق بحل الجيش العراقي السابق، وعدم حماية معظم مؤسسات الدولة من عمليات النهب والعبث والتدمير الممنهج، فضلا على نقص فهمها لطبيعة ثقافة الشعب العراقي وما يحتاج اليه فعلا، ومشاركتها عن قصد أو غباء في فتح الباب على مصراعيه لتدخل قوى الجوار، وعلى رأسها أيران، لملء الفراغ الأمني في بلد فقد كل مظاهر سيادته وسلطته الرادعة فوق أراضيه... فعملت هذه الأخطاء وغيرها على زيادة تشظي الوضع السياسي العراقي، وتفكيك نسيجه الاجتماعي.
هذا المسار المرتبك والمتخبط الذي سارت عليه إدارة الاحتلال، وما آلت اليه الأمور بعد ذلك جعلها تعيد النظر في حساباتها بشكل كبير، اذ لم يعد بناء الديمقراطية في العراق أولويتها القصوى كما هو متوقع، فالديمقراطية لا تستقيم اطلاقا مع حملة عسكرية ارتكزت على الفوضى والتدمير لكل شيء، بحجة انها "فوضى خلاقة".
وفي النهاية فشلت الولايات المتحدة في اقامة نظام حكم ديمقراطي سليم في العراق كما وعدت، وأشار الى هذا الفشل الكثير من المراقبين والخبراء من داخل الولايات المتحدة وخارجها، ومنهم من شارك عن قرب او دافع بقوة في وقت ما عن قرار غزو العراق، ودفع ضريبة هذا الفشل الشعب العراقي الذي اكتشف أن معاناته لم تنته مع زوال حاكمه المستبد السابق، وأن الأوضاع ماضية بسرعة نحو الأسوء.
الثاني-عدم أهلية الطبقة السياسية العراقية الجديدة.
افتقرت -ولا زالت- الطبقة السياسية التي جاءت مع وبعد الغزو الأمريكي لفضيلة الشعور بالمسؤولية، لاسيما وان الكثير من زعمائها عانوا من عقد نفسية وفكرية عديدة، واتسموا بقصور استراتيجي واضح في تقدير متطلبات بناء الانسان والدولة معا، فضلا على انتمائهم الى مشارب فكرية وأثنية متقاطعة في المصالح والولاءات والتصورات.
وعليه طغت -في معظم الاحيان- المصالح الشخصية والفئوية على المصالح الوطنية العليا، وجرى توظيف الهويات الفرعية (القبلية والعشائرية والمذهبية والقومية والدينية...الخ) في الكسب والاستئثار السياسي والاقتصادي، مقابل اهمال مقصود للهوية الوطنية الجامعة، فلم يشكل العراق بجغرافيته الأرضية والتاريخية والاجتماعية أولوية حاسمة في تفكير الكثير من أفراد هذه الطبقة واتباعهم القريبين والبعيدين.
ان اسوء الاقدار التي تمر بالشعوب عندما تواجه خطر الاحتلال الاجنبي أو التحولات التاريخية المهمة هو غياب القيادة السياسية المؤهلة لقيادتها في هذه الظروف الحساسة والمعقدة، وهذا ما حصل في العراق، فبعد التاسع من نيسان-ابريل سنة 2003، كانت قياداته السياسية مأزومة للغاية، ولا تتردد في ارتكاب الأخطاء الجسيمة، سواء فيما يتعلق بتوفير مقتضيات العدالة الانتقالية او في تنظيم المؤسسات الدستورية، وتفعيل سلطات انفاذ القانون، ووضع حد للتدخل الخارجي بالشؤون الداخلية لبلدها.
لقد اشترك العاملان أعلاه في صناعة الاحداث الكارثية التي شهدها العراق خلال العشرين سنة الماضية، وبسببهما تكبد العراقيون اعدادا هائلة من الضحايا يقدرون بأكثر من مائتي ألف شخص بين مدنيين وعسكريين، ناهيك عن ملايين من المعاقين والمهجرين والنازحين خلال حملات التصفية السياسية والطائفية المتبادلة، والعمليات الإرهابية المتطرفة، التي كادت ان تسقط البلد في اتون حرب أهلية مدمرة منذ سنة 2005، ووصلت ذروتها مع سقوط ثلث العراق بيد تنظيم داعش الإرهابي في السنوات 2014-2017.
إضافة الى ذلك، تعرضت ثروة العراق الى نهب ممنهج، ضاعت بسببه مئات المليارات من دولارات عائدات النفط على يد مافيات الفساد والجريمة المنظمة، ناهيك عن الضعف الخطير في سلطات انفاذ القانون، والفشل المستمر في استراتيجيات التنمية بمختلف اشكالها، والصراع الذي لا ينتهي بين القوى السياسية وتعطيلها المتعمد للنصوص القانونية والمؤسسات الدستورية...
وكل ما تقدم ترك تأثيراته السلبية على حياة العراقيين، فتراجع احساسهم بالرفاهية والامن والاستقرار مع تفشي البطالة والفقر والجريمة والتفكك الاسري، وتصاعد مشاعر اللا يقين بالمستقبل لدى كثير منهم، وانعدام ثقتهم بالنظام الحاكم والطبقة السياسية، وهو ما عكسته بوضوح الاحتجاجات الشعبية المتتالية، والتي وصلت الى ذروتها في احتجاجات سنة 2019 الدموية.
مع ذلك، فان الامر في العراق لا يقتصر على الصورة القاتمة المذكورة في أعلاه، بل هناك جوانب مضيئة تبعث الامل ومنها: أنه على الرغم من التخريب المقصود محليا ودوليا لتماسك النسيج الاجتماعي العراقي، وتعرضه لضربات موجعة في العشرين سنة الماضية الا أن وشائج الود وجسور التواصل لا زالت مستمرة بين العراقيين على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم الاثنية والفكرية والدينية، وتجد دلالاته في وقوفهم الى جانب بعضهم البعض في الظروف الصعبة الناجمة عن الكوارث الطبيعية، وهجمات التنظيمات الإرهابية المتطرفة، كما تجده في المناسبات الدينية، والاعياد الوطنية، والمحافل العلمية والأدبية والشعبية.
وأن مشاريع التقسيم التي وقفت خلف بعضها اجندات خارجية، أو طموحات قومية داخلية، أو أهداف إرهابية تدميرية، أو نوايا سياسية استئثارية اصطدمت جميعها بالنزعة الوحدوية للشعب العراقي، تلك النزعة التي أظهرت ميلا لا شك فيه لدى معظم العراقيين للحفاظ على الوحدة السياسية لبلدهم، وتخوين ومهاجمة كل طرف أو جهة تتورط في طرح مشروع تقسيمه على طاولة الحوار.
إضافة الى ما تقدم، فانه وعلى الرغم من الديمقراطية الهشة التي شهدها العراق بعد الاحتلال، والضعف والنقص الواضح في بناء المؤسسات الدستورية، الا أن الشعب العراقي تعايش بشكل رائع مع وجود انتخابات دورية لاختيار ممثليه في الهيئتين التشريعية والتنفيذية، وما تراجع مشاركته في السنوات الأخيرة الا لعدم ثقته بالطبقة الحاكمة وامتعاضه الشديد من تردي الأداء الحكومي اكثر منه عدم ايمانه بالانتخابات والخيار الديمقراطي، وهذا طبيعي جدا، فعندما تفتقر الديمقراطية لقيادات سياسية جيدة تؤمن بها، وتحترم آلياتها وقواعدها وقيمها، عندها ستوظف آلياتها كأداة بيد الفاسدين والساسة الفاشلين، وقطعا مثل هذا الوضع سيدركه الشعب ويلمس نتائجه السلبية مرة بعد أخرى، ليشكل ضعف المشاركة في الآليات الديمقراطية مظهرا من مظاهر الاحتجاج الشعبي على أداء السلطة، وتعبيرا قويا عن الانتفاض السلمي على قياداتها واحزابها الحاكمة.
مع ذلك استمرت الانتخابات، واستمر الأمل بقدرتها على تغيير الأوضاع لما هو أفضل، ولذا تجد ارتفاع الأصوات الشعبية المطالبة بتعديل المسار الديمقراطي لا المطالبة بإسقاط الديمقراطية والعودة الى أتون الاستبداد والدكتاتورية.
فضلا على ما تقدم، ترك ضغط الرأي العام العراقي تأثيراته الواضحة على عمل أحزاب وتيارات السلطة، فهي على الرغم من صراعها الشديد فيما بينها، والذي بلغ ذروته بعد انتخابات أكتوبر 2021، الا أنها اضطرت الى الحفاظ على عدم الانخراط في مواجهة مسلحة مفتوحة فيما بينها –نعم لا يمكن ايضا استبعاد تأثير العامل الخارجي حول الموضوع- ولذا حافظت على التداول السلمي للسلطة، وتشكلت بعد الانتخابات الأخيرة الحكومة العراقية الخامسة في ظل دستور سنة 2005 النافذ.
كما شكلت نهاية سنة 2017 منعطفا مهما في الوضع السياسي العراقي، ففي هذا الوقت أعلنت الحكومة العراقية الانتصار العسكري على تنظيم داعش الإرهابي بعد تحرير القوات المسلحة العراقية لمدينة الموصل، ففتح هذا الانتصار الأبواب الإقليمية والدولية لتطوير علاقات العراق الخارجية، وتفعيل الدور الإيجابي لسياسته الخارجية في محيطيه الإقليمي والدولي، ولا زالت تأثيرات هذا الحدث مستمرة، وتعمل الحكومات المتعاقبة على تشجيعها لجعل بلدها مقبولا أكثر من خلال تنظيم علاقاته الخارجية بطريقة متوازنة –قدر الإمكان- لحماية مصالحه العليا.
كل هذه المؤشرات الإيجابية، وغيرها، لا يمكن ارجاع الفضل فيها الى الولايات المتحدة، ولا الى الطبقة السياسية العراقية الحاكمة، فأخطاء الطرفين، كما وضحنا سلفا، كانت فظيعة للغاية وتحمل ضريبتها المكلفة العراق وشعبه في مختلف الميادين، وستحتاج جراحها الغائرة الى وقت طويل لتلتئم، ولكن الفضل المباشر فيها يعود الى الشعب العراقي الذي أظهر من الصلابة ما يعجز عنه الوصف، وكانت لديه طاقات كامنة إيجابية هائلة عند التعامل مع الازمات والمخاطر في أصعب الظروف وأكثرها قتامة، وهو شعب –مع الأسف- لا يستحق ما عاناه، ولا زال يعانيه، من ألم وبؤس وانحراف عن مسار التقدم والارتقاء، ولو توفرت له قيادة سياسية متماسكة تصب جل تفكيرها واهتمامها على جعل العراق بجغرافيته السياسية والاجتماعية أولوية قصوى في حساباتها، لقدم هذا الشعب وخلال مدة قصيرة لا تتجاوز العقود الخمسة أنموذجا إيجابيا مذهلا من التأثير الجيواستراتيجي على مستوى الشرق الأوسط والعالم.
خلاصة القول: فشلت واشنطن والطبقة السياسية العراقية الحاكمة لمرات عديدة في السنوات العشرين الماضية، فيما كسب الشعب العراقي امتحاناته العسيرة لأكثر من مرة، ولكن لا زال المستقبل يُظهر مؤشرات كثيرة من اللا يقين، كما يخفي مخاطرا لا يمكن نكرانها، وهي مخاطر تثير الخوف والهلع وتنذر بالمزيد من الامتحانات الصعبة، وما لم يتم الاتعاظ من دروس الماضي القريب، فسيبقى العراق وشعبه عالقا في دوامة المعاناة والتدخل الخارجي الذي لا ينتهي.
اضف تعليق