الزهد ثروة لأنه يبني البساطة في الحياة، ويوجه الإنسان ويرشده نحو المفهوم الصحيح لكيفية العيش في الحياة، ويحقق الغايات الكبيرة فعلا، فيصبح الزهد ثروة سواء امتلك الإنسان المال أو لم يمتلكه، فكم من إنسان يمتلك المليارات من الأموال ولكنه يعيش في تعاسة، وكم من إنسان لا يمتلك شيئا...
(وَالزُّهْدُ ثَرْوَةٌ)
بمناسبة شهر رجب المرجَّب، وذكرى مواليد الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، وبالخصوص مولد أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، سوف نستعرض مفهوما من مفاتيح النهضة والتقدم في نهج الإمام علي (عليه السلام)، التي تفتح الحلول للأزمات والمشكلات المتوالدة باستمرار في هذا العالم، وهو مفهوم الزهد.
البعض لا يفهم من هذا المفهوم إلا مجرد التقشف وخشونة العيش والملبس، ولكنه مفهوم أعمق من ذلك، فهذا المفهوم يعالج من خلال رؤية الإمام علي (عليه السلام) مختلف المشكلات والمناهج المادية، ويحل هذه المشكلات بطريقة متوافقة مع التوازن الكوني والسير في منهج الاعتدال والطريق المستقيم.
إن عالم اليوم يعج بالأزمات والمشكلات المادية الكبيرة، والإمام علي (عليه السلام)، هو خير نموذج وخير أسوة في تطبيق مفهوم البساطة والسهولة في الحياة، وبناء الحياة المعنوية التي تتكامل مع الحياة المادية.
وقد قال عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يا علي إن الله تعالى زينك بزينة لم يزين العباد بزينة هي أحب إليه منها، زهدك فيها، وبغضها إليك، وحبب إليك الفقراء فرضيت بهم أتباعا، ورضوا بك إماما)، فخير إمام هو الإمام الزاهد الذي يقود الامة نحو الغايات الأساسية في عملية بناء التكامل الإجتماعي والنضج العقلاني، والرشد الإنساني.
بناء الزهد السليم
هذا هو المهم في الحياة، وهذه هي الغاية الأساسية في الحياة، أن يسمو وينضج الإنسان، وأن تنضج نفسه، وأن تعيش نفسه بسوية وصحة وسعادة، وهذه الصحة تتحقق من خلال استطاعة الإنسان لفهم كيفية إدارة الأمور المادية إدارة عقلائية راشدة، والإمام علي (عليه السلام) هو خير أسوة في عملية بناء الزهد السليم، وبناء الشخصية الصحيحة السالمة نفسيا واجتماعيا وجسديا.
وبالتالي صناعة المجتمع المعتدل الذي يقوده امام زاهد لا تهمه الدنيا ولا السلطة ولا يحرص على الدنيا ولا على المال ولا على تكديس الثروات، فالإمام علي (عليه السلام) من خلال كلماته وسيرته كقدوة وأسوة يقودنا نحو بناء التوازن المادي من خلال التحكم بالأهواء والشهوات، وخفض التوقعات المادية، وعمق الرؤية لمفهوم الملْكية والتملك وفهم معنى الثروة في الحياة.
يقول الإمام علي (عليه السلام): (وَالزُّهْدُ ثَرْوَةٌ)، عجيب هذا الكلام بالنسبة لبعض الناس المغرمون بالقضايا المادية، فالزهد ليس في اتجاه المادة، فكيف يكون ثروة؟، فالثروة بالفهم المادي عبارة عن عقارات وأموال وأرصدة في البنوك وسيارات وخدم وحشم، وملابس فخمة، فالثروة هي ملكية كبرى من الماديات التي يقتنيها الإنسان، فكيف يقول (عليه السلام): (الزهد ثروة)؟
ولكن المفهوم الصحيح للثروة، هي كيفية إدارة الموارد والأموال باعتدال وعقلانية ورشد وحكمة، لذلك يصبح الزهد ثروة، لأنه يستطيع أن يستثمر ويستغل الموارد والأموال بصورة صحيحة فلا تتحول إلى ضرٍّ وشرٍّ وإثمٍ وحرام وإلى إضرارٍ بالإنسان نفسه، وتدميرا للبشرية كما نلاحظ ذلك في عالم اليوم.
الزهد وفن العيش
فإن الزهد ثروة لأنه يبني البساطة في الحياة، ويوجه الإنسان ويرشده نحو المفهوم الصحيح لكيفية العيش في الحياة، ويحقق الغايات الكبيرة فعلا، فيصبح الزهد ثروة سواء امتلك الإنسان المال أو لم يمتلكه، فكم من إنسان يمتلك المليارات من الأموال ولكنه يعيش في تعاسة، وكم من إنسان لا يمتلك شيئا ولكنه يعيش في سعادة غامرة.
وهذه هي الثروة الحقيقية أن يعيش الإنسان سعيدا، فهؤلاء الذين يريدون أن يمتلكوا الثروات يفعلون ذلك بحثا عن السعادة، وتحقيقها، لكن السعادة لا تتحقق بالثروة المطلقة لامتلاك المال، فمن خلال رؤية الإمام علي (عليه السلام)، لابد للإنسان ومن بعده المجتمع أن يعكس رؤيته المادية المتمحضة المتحكمة بحياته وحياة الآخرين حتى يستطيع أن يحل مشاكله، وإذا بقي العالم يبحث عن حلول جانبية غير أساسية فإن المشكلة الكبيرة التي يعيشها اليوم سوف تظل باقية.
فلابد أن نلقي الضوء على أزمات العالم التي يعيشها اليوم، كمقدمة للوصول إلى كيف يمكن لهذا المفهوم أن يحقق لنا الحلول، ويحقق لنا الثروة والسعادة والعيش المستقيم السليم.
أزمات اقتصادية عالمية كبرى
هناك أزمات متعددة يعيشها العالم، من هذه الأزمات أزمات اقتصادية كبرى، مستمرة على الرغم من أن العالم يتطور اقتصاديا، لكنه يعيش في خضم أزمات اقتصادية كبيرة، يسمونها بـ التضخم والركود والبطالة، وازدياد فجوة التفاوت بين الطبقات، وبالنتيجة فإن الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرا، وترتفع أسعار السلع، وتنخفض قيمة العملات.
هذه الأزمات الاقتصادية موجودة في العالم كله، وفي مختلف البلدان بحيث إن التضخم اليوم يأكل موارد الناس، وخصوصا الفقراء الذين يرزحون تحت ضغوط معيشية كبيرة، أما الاقتصاديون فإنهم يرون ان من أهم أسباب الأزمات الاقتصادية هو الاختلال بين العرض والطلب، مثلا هناك سلعة معينة معروضة في السوق وعليها طلب، وهذه السلعة قد تكون قليلة فيزداد الطلب عليها لأنها مهمة، وقد تكون هذه السلعة متوفرة نتيجة لقلة الطلب عليها.
ويستمر الاختلال لان الطلب يتزايد مع عدم قدرة العرض على الاستجابة، لهذا الطلب الضخم الكبير، فيما يسمونه الاقتصاديون بـ (صدمة العرض).
وعندما يتوازن العرض والطلب فهذا هو الاعتدال، لذلك هناك أسباب لاختلال التوازن بين الطلب والعرض، وتزايد في الطلب مقابل قلة العرض، فمن أسباب تضخم الطلب:
اولا: شراهة الاستهلاك
تحدث هذه الشراهة في الاستهلاك بسبب تصاعد النزعة المادية عند الناس، وهذه النزعة المادية أنتجتها العولمة والاحتكاك المتزايد بين الثقافات، في مختلف دول العالم، فالعولمة هي نتاج لتقارب سكان العالم حتى أصبح قرية واحدة، نتيجة لكثرة وانفتاح وسائل الإعلام، وشبكة الانترنيت، والأقمار الصناعية، والقنوات الفضائية، والتقدم التكنولوجي، وتقدم التواصل والاتصال فيما بين البشر، فأنتج تقاربا كبير بين دول العالم وبين مختلف الناس.
فهذه الشراهة سببها التقارب الكثيف، فعندما يطلّع مجتمع فقير أن الناس يعيشون في دولة متقدمة مرفَّهين وهم في حالة ازدهار، يأكلون كل ما يشتهون ويركبون وسائل نقل حديثة، ويلبسون الملابس الجميلة، فبالنتيجة تظهر النزعة المادية عند الآخرين لكي يلتحقوا بسرعة بهذه المجتمعات.
عولمة الأشياء
فالعولمة قللت وأبعدت الجوانب الأخلاقية والمعنوية فيما بين الناس، بقدر ما قربت الجوانب المادية والاستهلاكية ونزعة شراء السلع وامتلاك الأشياء، ولذلك فإن هذه العولمة أصبحت عولمة الأشياء وليس عولمة الأخلاق ولا عولمة الأفكار ولا عولمة الإنسان، فهي عولمة الأشياء المادية التي يحرص الإنسان على أن يمتلكها.
فكانت هذه العولمة من أسباب شراهة الاستهلاك وتصاعدها فيما بين المجتمعات، وهذه الشراهة تعني تزايد الطلب.
وهنا أذكر لكم بعض الأرقام والإحصائيات حول هذا الموضوع:
تشير الدراسات والتقارير الاقتصادية إلى أنه من المقرر أن تصل التجارة العالمية والصادرات فيما بين مختلف الدول في السلع والخدمات إلى مستوى قياسي، وقد بلغت 32 ترليون دولار أمريكي لعام 2022، وهذا الرقم بزيادة قدرها 10% عن عام 2021، إذا نلاحظ حدوث تصاعد في التجارة العالمية بلغ 10%، أي صعد الطلب على السلع أكثر مما كان عليه في سنة 2021.
وهذا يدل على أن الطلب على السلع والخدمات كبير جدا مع العلم أن العالم اليوم يعيش حالة ارتفاع الأسعار بسبب التضخم.
وحتى ينخفض التضخم قامت البنوك المركزية في الغرب برفع أسعار الفائدة، من اجل خفض الطلب، لكن الطلب لا يزال مستمرا لاقتناء السلع على الرغم من ارتفاع الأسعار، وهذا يعبر عن ثقافة الاستهلاك المتصاعد.
فإذا أردنا أن نحسب هذه الزيادة في كل سنة 10%، تُرى إلى أين سيصل هذا الحجم من التجارة العالمية؟ ونقارن هذه الإحصائية مع حجم التجارة في العقود الماضية، في أول تسعينيات القرن العشرين أو القرن الماضي بلغت حجم التجارة الدولية حوالي ثلاثة تريليونات ونصف التريليون دولار أمريكي. نلاحظ الفرق الكبير في الأرقام.
في سنة 2000 بلغ حجم التجارة العالمية 5 خمسة ونصف ترليون دولار، وفي عام 2010 الذي هو قريب منا حيث تفصلنا عنه 12 سنة بلغ حجم التجارة 6 ستة ونصف ترليون دولار، وهكذا نلاحظ التصاعد الكبير في حجم التجارة العالمية، وهذا يعبر عن ازدياد الطلب والاستهلاك الكبير فيما بين الناس.
ثانيا: ماكنة الإعلان والإعلام والترويج للسعادة الوهمية
وهي تتسبب في عملية صعود الطلب والاستهلاك في مختلف دول العالم، وخصوصا ماكنة الرأسمالية الغربية باعتبار أن الدول الصناعية الكبرى هي التي تسيطر على معظم التجارة العالمية، وهي من الاقتصادات الكبرى في العالم ما عدا الصين التي تُحسب على الشرق، ولكن بقية الدول كلها دول غربية او في النمط الغربي مثل اليابان وكوريا الجنوبية.
فهذه الماكنة الإعلانية الإعلامية هي التي تقوم بعملية تصنيع المظاهر الخادعة وترويج للسعادة الوهمية واللذات والمتع الزائفة، من خلال الإعلانات المزيفة، والخادعة، والبراقة، ووسائل الإعلام، والأفلام السينمائية، والمسلسلات التلفازية، ومظاهر الدعاية كافة، فهي في معظمها دعايات زائفة، كما أنها لا تروّج للمنتج بشكل صحيح، لأنها بل تزيف المنتج بالدعاية وهو فاسد ومضر في واقعه.
فالهدف للماكنة الإعلانية والإعلامية في الواقع هو الربح على حساب منفعة وفائدة البشر، وما تقدم له، وتقوم الدعاية باستغلال علم النفس للتوغل في أعماق الإنسان والبحث عن الدوافع المحركة لغرائزه من اللذة والمتعة، عبر التلاعب بمشاعر الإنسان وعواطفه وحاجاته النفسية، من أجل تحريك لذاته وشهواته وتحريك شراهته نحو الماديات حتى يستهلك المزيد من البضائع والسلع.
ثالثا: ظهور شبكات التواصل الاجتماعي
فقد شجعت هذه الشبكات الناس على الاستهلاك والطلب المتزايد، من خلال التشجيع على التبعية والتقليد واتباع ثقافة القطيع، واتباع النماذج التي تظهر للناس في شبكات التواصل الاجتماعي، فهذه الشبكات تبرز أشخاصا معينين، يظهرون بملابس براقة وبأشكال صاخبة، وبسلع مختلفة تشجع الناس على الاستهلاك المتزايد رغبة في البروز والحصول على تقدير الذات والإشباع الوهمي لعقدة النقص التي تؤرق الإنسان.
وللأسف الشديد أدى هذا الشيء إلى الاستهلاك الأعمى، ولم يؤدِّ إلى الإشباع أصلا، ولم ينجح في ذلك، بل إن شبكات التواصل الاجتماعي أنتجت شراهة واستهلاكا أعمى لأشياء لا يحتاجها الإنسان لبناء نفسه وذاته بشكل صحي، فأدت إلى مرضه وإصابته بأمراض نفسية خطيرة، وفقدان الشعور بالذات وانهيار الثقة بالنفس، والتقدير السيّئ لنفسه.
فأصبح لا يحب نفسه، بل يكرهها، فيحاول أن يقلد الآخرين، ويلجأ إلى عمليات التجميل، كي يغيّر شكله واستبدال هويته، هذا ما فعلته شبكات التواصل الاجتماعي مما أدى إلى تشويه الإنسان، وخصوصا شريحة المراهقين كما نلاحظ ذلك اليوم، فهناك جيل كبير من المراهقين والمراهقات، أصبحوا يعيشون أمراضا نفسية خطيرة بسبب هذا الإنتاج الاستهلاكي الأعمى لشبكات التواصل الاجتماعي، التي تسوّق الزيف والتضليل.
مخاطر الاستهلاك الأعمى
ونلاحظ أن أرباح الشركات في زيادة مستمرة وكبيرة، وتحقق العوائد الكبير بحسب الماكنة الاقتصادية الرأسمالية التي تعتمد على الربح، بغض النظر عن كونه مضرّا أو مهما كانت المخاطر التي تنجم عنه، ومهما كانت فيه من مشكلات ومخاطر جانبية صحية ونفسية وبيئية.
وأذكر هنا مثلا حول كيفية الزيف الذي تروجه وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، وتغرّر بالناس من أجل الاستهلاك الكبير، فقد كشفت دراسة عن حجم إنفاق النساء على مستحضرات التجميل حول العالم في آخر خمس سنوات، حيث بلغ حجم الإنفاق منذ عام 2017 وحتى عام 2021، نحو 415 مليار دولار أنفقت على مستحضرات تجميلية للوجه فقط، وكما نلاحظ أن هذا المبلغ كبير جدا، يعني في كل سنة يتم صرف أكثر من مئة مليار على هذه المستحضرات.
هذا النوع من البذخ والصرف في جانب واحد فقط، فكيف يكون الأمر في الجوانب الاستهلاكية الأخرى لمختلف وسائل التسوق التي تروج لها وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي.
رابعا: ازدياد الطلب نتيجة لتكريس ثقافة الاستهلاك
وليس ازدياد الطلب وفق ثقافة الاستهلاك الموجَّه، ولا ثقافة الاستهلاك المعتدل، وهو الاستهلاك الذي يأتي من خلال حاجة الإنسان، وإنما هو استهلاك أعمى بلا حدود، حتى أصبح الناس مستعدين أن يقعوا تحت وطأة الديون من أجل الاستهلاك، فنجد بعضهم يستدين حتى يذهب إلى المطعم، أو يستدين حتى يشتري سيارة، ويستدين حتى يشتري الملابس البراقة.
هذا الاستهلاك المفرط، وشراء الأشياء بطريقة مرضيّة حتى دون الحاجة إليها، فبعض الناس يشترون أشياء لا يحتاجونها، مما يؤدي ذلك إلى تكديسها او رميها لأنه لا يحتاجها، إنه يريد أن يشتري فقط، ويريد أن يستهلك دون حاجة إلى الأشياء التي يشتريها، وهذا يعني أن هناك إشكالية وهي إشكالية الثقافة الاستهلاكية، إشكالية عدم فهم معنى الاستهلاك، وإشكالية معنى أن يعيش الإنسان سعيدا في حياته وراضيا عن نفسه وحياته.
لماذا تشتري ما لا تحتاجه؟
أذكر هذه الرواية حول مفهوم الزهد حتى نعرف ما هو معنى الاستهلاك المعتدل والصحي وحسب الحاجة.
يقول الإمام علي (عليه السلام): (الزهد أن لا تطلب المفقود حتى يعدم الموجود)، فإذا أنت تحتاج إلى شيء لا تشترِه إلا إذا كان غير موجود عندك، فقد يكون عند أحدهم كيس من الرز يوفيه ما يحتاجه، لكنه قد يقوم بشراء خمس أكياس أخرى من الرز، لحرصه والقلق من فقدان هذه السلعة من السوق.
أو أنك تمتلك سيارة ومع ذلك تقوم بشراء سيارة أخرى ثانية أو ثالثة، أو أنك تمتلك ملابس كافية ومع ذلك تقوم بشراء عشرة أضعاف منها، لكن الزهد الحقيقي هو الاستهلاك المعتدل الذي يتم حسب الحاجة، فتشتري الشيء الذي لا يوجد عندك، ولا تشتري الأشياء الموجودة عندك، فإذا ذهبت واشتريت الشيء الذي لا تحتاجه، وهذا الشيء موجود عندك، فعليك أن تعرف بأن هذا التصرف هو مرض، وعلى الإنسان أن يعالج مرضه هذا.
إن تعداد البشرية اليوم يفوق الـ سبعة مليارات، ولنأخذ نصف هؤلاء البشر، وكل واحد منهم يشتري أكثر من حاجته، فكيف ستكون وضعية العالَم وكيف يصبح؟، حتما سوف ترتفع الأسعار، والطلب يكون كبير جدا، ويصبح الاستهلاك كبير، لأن ارتفاع الطلب والاستهلاك يؤدي بالنتيجة إلى تدمير الموارد الطبيعية في الأرض عبر استنزافها وبالنتيجة يؤدي إلى تدمير البشر نتيجة لتدمير البيئة التي يعيشون فيها.
خامسا: الاستهلاك المفرِط يتسبّب بالاكتئاب
وفي بعض الأحيان يتسبب فرط الاستهلاك بالاكتئاب الجماعي، ويمكن أن نلاحظ مجتمعا كاملا يعيش هذه الكارثة، فيحدث الاكتئاب المجتمعي، لكن لماذا يتسبب الاستهلاك بالاكتئاب؟، وذلك لعدم حصول الإشباع النفسي والمعنوي، فيرتفع الطلب على المزيد من السلع ويؤدي إلى المزيد من الاستهلاك، فعندما يستهلك الإنسان أكثر من حاجته ويطلب الموجود عنده ولا يطلب المفقود، فإن مستوى الاستهلاك سوف يرتفع، وعندما لا يُشبِع الإنسان فإن هذا النوع من الاستهلاك مرضي وليس حقيقي ولا صحي، لأن الإنسان ليس بحاجة إليه، فيؤدي ذلك إلى المزيد من الاستهلاك، ونكون في دوامة مستمرة ومتصاعدة من الاستهلاك المستمر، ويسمى هذا في علم النفس (هوس التسوق، أو التسوّق القهري أو إدمان التسوق أو الشراء القهري)، وهو مصطلح نفسي يصف الرغبة القهرية للتسوق، ويعتبر أحد اضطرابات الاندفاع وعدم القدرة على السيطرة، فلا يستطيع الإنسان السيطرة على نفسه بسبب هذا المرض، وقد يكون سبب هذا السلوك الحاجة للشعور بالتميز، أو لمحاربة الشعور بالوحدة، فيريد الإنسان أن يقضي على الوحدة التي يعيشها.
فيذهب إلى التسوق ويكون مدمنا على ذلك، ويأمل المتسوقون بأن التسوق سوف يغيّر حياتهم نحو الأفضل، ولكن تكون النتيجة على العكس من ذلك لأن التسوق القهري لا يفي بأيٍّ من تلك الاحتياجات، وبالتالي قد يتصاعد سلوك المتسوقين فيصبح مدمنا على الاستهلاك، والاستهلاك يأتي باستهلاك آخر حتى يصبح الإنسان مدمنا، وبالنتيجة لا يحصل على شيء ولا على الإشباع المطلوب ويبقى مرضه هذا راسخا في داخله.
مرض التسوق القهري
وهو نتيجة لثقافة استهلاكية أصبحت منتشرة في عموم العالم، بسبب ذلك الهوس التسويقي وثقافة القطيع التي تلهث وراء الأشياء الجديدة، فالإنسان يمتلك (موبايل) صالح وجيد للعمل وقد اقتناه قبل سنة لا أكثر، لكنه يذهب لشراء موبايل آخر بسبب مشاهداته للدعايات الكثيرة فينخدع بها، وهذا نوع من التسوق القهري، فيشتري موبايل ثانٍ وثالث ودائما يريد أن يجدد بنسخة جديدة.
ماذا تفعل الشركات المنتجة؟، إنها هي التي تقوم بعملية تصنيع النسخ الجديدة من الموبايلات أو من السلع الثانية، وتضيف لها بعض الأشياء الجديدة، حتى تغري وتخدع المتسوقين والمستهلكين بشراء المزيد والمزيد، لكن بالنتيجة هناك أضرار نفسية وصحية واجتماعية واقتصادية كبيرة، فالمشكلة الاقتصادية الكبيرة لا تكمن في التضخم وارتفاع الأسعار، وإنما هي بالطلب الزائد بسبب ثقافة ونزعة الاستهلاك المطلبي عند كثير من الناس.
فهذا الشخص المستهلِك يدخل في دائرة مفرغة، تتكون من المشاعر السلبية، فيصاب بالغضب والتوتر، مما يؤدي إلى شراء شيء كشكل من أشكال التطبيب الذاتي، فيحاول أن يعالج نفسه بالشراء، وبعد الشراء فإن الفرد أما يشعر بالأسف أو الاكتئاب، ويبقى حزينا ويشعر بالحزن والذنب وبالمشاعر السلبية، وبالنتيجة يجد نفسه أسير مرض مستمر ومتصاعد، وهذا كله بسبب الاستهلاك الأعمى.
هذه طبعا عملية مخطَّط لها، تقوم بها الشركات بعد أن تراقب نفسيات الناس، ومن ثم تقوم بعملية إغراء الناس وخداعهم بشراء المزيد من السلع في تحد للمشاعر النفسية تنتج المزيد من السلع المتطورة شكليا، وليس تطورا حقيقيا وهي السلع التي لا يحتاجها الإنسان فعليا، ولكنها عملية الإغراء والخديعة والتضليل الموجود في وسائل الإعلام، هو الذي يؤدي إلى هذه النتائج الخطيرة.
اليقين أصل الزهد
الإمام علي (عليه السلام) يؤكد على أن هذا الاستهلاك لا يعطي للإنسان السعادة وإنما هو خدعة، كما تقوم بذلك الشركات والمضللون لتكريس مفهوم وشعور زائف للسعادة في نفس الإنسان الذي يبقى يعيش القلق لعدم حصوله على الإشباع الحقيقي، وهذا ما عبر عنه الإمام علي (عليه السلام) في هذا الحديث الجميل الرائع، حيث يقول: (أصل الزهد اليقين وثمرته السعادة).
إن اليقين يعني عدم القلق والشعور بالاطمئنان، والشعور بالسعادة يأتي من خلال البساطة في الحياة، والاعتدال في الاستهلاك، والتعامل مع عالم الأشياء بحكمة وفهم وبإدارة سليمة والتسوق بحسب الحاجة، وسوف نذكر أزمتين من الأزمات الأخرى التي يعيشها العالم بسبب قضية الاستهلاك الأعمى وسوف نبحث في مقالنا القادم هاتين الأزمتين وهما استنزاف الموارد الطبيعية، والثانية قضية التغيّر المناخي والاحتباس الحراري. وبالنتيجة استنزاف البشر وإنتاج الكوارث الطبيعية والجفاف مما يؤدي إلى تدمير الموارد الطبيعية.
وللبحث تتمة...
اضف تعليق