الإنسان المتمرد يستطيع أن يدخل في عالم الرذائل في أي وقت بسهولة، ويمارس الرذائل، لهذا يغرق ويسقط هذا الإنسان، لأن الرذائل مستنقع كبير جدا، إذا سقط فيه فلن يخرج منه، بينما سلوك عالم الفضائل قرار وبناء للاختيار الواعي وعمل واجتهاد ومعرفة لذلك يكون صعبا، لأنه يحتاج إلى عملية...
كيف نستفيد من منهج اهل البيت (ع) للتحول من التخلف الى التقدم؟
إن الفضائل تأتي من كلمة الفضل، والفضل تعني الزيادة ويقابلها النقص، فكل شيء فيه فضل فهو من الفضائل، وهو ما يؤدي إلى تقدم الإنسان ونموّه وتطوره.
سواء كان هذا الفضل أخلاقي أو علمي أو معرفي أو نفسي، وعلى العكس من ذلك فإن كل ما يؤدي إلى النقص في الإنسان سواء كان من الجهل أو التخلف، فهو من الرذائل.
المعصومون (عليهم السلام) طرحوا منهج الفضائل كأهم عنصر في عملية تقدم الإنسان، بالطبع التقدم بهذا المعنى، هو النمو والتطور الذي يأتي في الجانب المعنوي، وليس في الجانب المادي الذي يأتي كـ مكمّل للجانب المعنوي، أي بمعنى أن عالم اليوم المتقدم ماديا هو يؤطّر الجانب المعنوي ماديا ويخضعه له، فبالنتيجة يتقلص الجانب المعنوي ويضمحل لصالح الجانب المادي. لكنه في الأساس في عملية التقدم الواقعي فإن الجانب المعنوي هو الذي يؤطر الجانب المادي فيكون إطارا ومنهجا لأي عملية تطور مادي، لأن التقدم المادي دون وجود جانب معنوي متحكم به ومسيطر عليه يصبح جامحا، وبالنتيجة يؤدي إلى فقدان الحكمة في الحياة.
المعنى اللغوي للحكمة هو ما أحاط بحَنَكَي الفرس فتمنعه من الجري الشَّديد، وتمنعه من الجِماح، فاللجام الموضوع في رأس الحصان يحكمه، فيؤدي ذلك إلى التحكم بالحصان وعدم جموحه وعدم انفلاته، فالحكمة هي كل شيء يؤدي إلى عملية التحكم بالشهوات، والتحكم بالجوانب المادية.
العالم اليوم يعيش التضخم في الجانب المادي وتغوّله وجماحه وانفلاته، مما أدى إلى ضمور الجانب المعنوي واضمحلاله، فأصبح العالم اليوم يعيش فراغا معنويا كبيرا.
أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أكدوا على تأطير الجانب المعنوي حتى يصبح الإنسان متقدما في الحقيقة وليس بالشكل والصورة، لذلك نلاحظ هناك تأكيد على جوانب تأطير الفضائل من خلال التقوى والرفق والعفو والإيثار والعقل، وأهم نقطة لاحظناها في أهمية الفضائل، هي أن الأحاديث والروايات تؤكد على قضية المغفرة والحلم والتحكم بالغضب.
وهذا هو أهم ما يؤدي إلى فضيلة الإنسان وتطوره ونموه، لأن الإنسان الذي لا يمتلك القدرة على العفو والمسامحة والصفح والعيش مع الآخرين والرفق واللاعنف، يكون غير قادر على أن يكون عارفا وواعيا وفاهما وحكيما وبالتالي ناجحا في حياته، عنه (ع): (خذ على عدوك بالفضل، فإنه أحد الظفرين).
التكامل المعنوي بالايثار
وعن الإمام علي (عليه السلام): (كن عفوا في قدرتك، جوادا في عسرتك، مؤثرا مع فاقتك، يكمل لك الفضل)، فتكامل النمو يأتي بهذه الجوانب الثلاثة، العفو عند القدرة، والكرم عند العسر، وليس عند الرخاء، وأن يكون الإنسان مؤثِرا ومضحيا ومعطاء حتى مع احتياجه، هذا هو تمام الكمال ومنهج التفاضل المعنوي والنفسي عند الإنسان.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (من أحسن إلى من أساء إليه فقد أخذ بجوامع الفضل)، فالإنسان الذي يسامح ويعيش المسامحة والعفو والغفران بالنتيجة سوف يتكامل في نفسه، من حيث الجانب المعنوي الذي يزداد عنده في مقابل اضمحلال الجوانب الأنانية والمادية عند الإنسان. وعنه (ع): (من آثر على نفسه استحق اسم الفضيلة).
الفضائل هي الحرية
الحرية متناسقة مع الفضائل، لا يمكن أن تكون هناك حرية خارج حدود الفضائل، وتنعدم مع انغماسها في الرذائل، فالحرية تصطف إلى جانب الفضائل والأخلاق والقيم السليمة.
فالفضائل هي الحرية، والحرية هي الفضائل، لا يمكن أن نقرأ الفضائل دون حرية، ولا يمكن أن نقرأ الحرية دون فضائل، فالذي يمارس الحرية دونما فضيلة فهذه ليست حرية، وإنما هو انفلات وتمرّد، وفي الآية القرآنية: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ) الحج 3.
فالحرية هي الفضيلة لأن الإنسان يسير في طريق الارتقاء بمسؤولية، كما يقول الإمام علي (عليه السلام): (الارتقاء إلى الفضائل صعب منج، والانحطاط إلى الرذائل سهل مرد).
فالإنسان المتمرد يستطيع أن يدخل في عالم الرذائل في أي وقت بسهولة، ويمارس الرذائل، لهذا يغرق ويسقط هذا الإنسان، لأن الرذائل مستنقع كبير جدا، إذا سقط فيه فلن يخرج منه، بينما سلوك عالم الفضائل قرار وبناء للاختيار الواعي وعمل واجتهاد ومعرفة لذلك يكون صعبا، لأنه يحتاج إلى عملية تراكم واستقامة واستدامة ورياضة نفسية وترويض للذات، وهكذا يكون هذا الإنسان من الناجين في الحياة وليس من الغارقين أو الداخلين في عالم الظلام السوداوي الذي ينزلق فيه البعض عندما لايستمسك بالعروة الوثقى.
الفضائل هو الاعتدال
ومن معاني الفضائل هو الاعتدال، والفضيلة هي الاعتدال بنفسه، فهناك جانبان ووسط، جانب الإفراط وجانب التفريط، والفضائل تكون في الوسط، بين اليمين واليسار، فعلى سبيل المثال الشجاعة فضيلة، لأنها معتدلة، ولكن التهور والجبن من الرذائل لأنه إفراط وتفريط، وكذلك الكرم في مقابل البخل والتبذير.
والذي يكون متطرفا في حياته، متشددا متزمتا، فهو لا يمتلك الفضائل يخرج من عالم الفضائل وإن كان ظاهره متشدد دينيا، فعن الإمام علي (عليه السلام): (غاية الفضائل العقل)، وأيضا: (لا دين لمن لا عقل له). وكذلك: (فالمتقون فيها هم أهل الفضائل: منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد).
القلب المعنوي وعاء العقل
فالتعقل يؤدي إلى الفضيلة والفهم، والفضائل تؤدي إلى التعقل والفهم والعلم والوعي، وكذلك التعقل والفهم والعلم والوعي يؤدي إلى فضيلة الإنسان وإلى الدخول في عالم الفضائل، وهناك حديث عن الإمام علي (عليه السلام) رائع جدا لابد أن يكون شعارا لنا في حياتنا: (إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها)، أوعية يعني جمع إناء، أما كلمة أوعاها فتعني أكثرها قدرة على الفهم والإدراك وملء هذا الوعاء بما يستحقه، مثل إناء الماء فأما أن تملأه بالماء الزلال الطيب النقي، أو تملأه بالماء الوسخ أو المالح، كذلك قلب الإنسان، هذا الوعاء المعنوي فارغ، الذي يعتبر وعاء التعقل، فمدركات الإنسان تأتي إلى قلب الإنسان فيمتلأ بها، فأما أن يمتلئ بالأبيض أو بالأسود، فأما أن تملأه بالفضائل، او تهمله فيمتلئ بالرذائل.
الإنسان يخرج في كل يوم من بيته صباحا إلى أن يعود إليه عصرا أو مساءً، وهو في كل حركة سوف يملأ قلبه بشيء ما، جيدا كان أو سيّئا.
وعن الإمام علي (عليه السلام): (لَقَدْ عُلِّقَ بِنِيَاطِ هَذَا الْإِنْسَانِ بَضْعَةٌ هِيَ أَعْجَبُ مَا فِيهِ وَذَلِكَ الْقَلْبُ، وَذَلِكَ أَنَّ لَهُ مَوَادَّ مِنَ الْحِكْمَةِ وَأَضْدَاداً مِنْ خِلَافِهَا... )، نياط القلب تشبه الحبال وهذا تشبيه رائع، حيث يذكر (عليه السلام) عجائب القلب من الجانب المادي، معبرا به عن الجانب المعنوي. وكيف يكون الإنسان معلقا بنياط القلب، حتى يُقال لقد قطَّعت نياط قلبي، أي كيف ينفلت القلب من داخل الإنسان عندما تُقطع هذه الحبال أو النياط الرخوة ويُصاب قلب الإنسان، كذلك من الجانب المعنوي يكون قلب الإنسان متعلقا بالأشياء.
فما هي هذه الأشياء، (وذلك أن له مواد من الحكمة)، وقد سبق أن ذكرت الحكمة واللجام الذي يكبح الاهواء، فهناك أشياء مضادة (وأضدادا من خلافه)، فهذه المتضادات تتصارع فيما بينها، كالصراع بين البخل والكرم، والصراع بين الاعتدال والتطرف، وبين العفة والفجور، فهنالك تصارع يحدث في قلب الإنسان بحسب الأشياء التي يملأ بها قلبه، وهذه الأشياء هي التي تشكل طريقة حياة الإنسان، وتشكل شخصيته ونفسه.
فالإنسان الذي نراه في حالة عصبية وغاضب، فإنه قد ملأ قلبه بالغضب، لذلك ينفجر دائما، وتكون عنده كراهية، أما الإنسان الذي يتحكم هو بنفسه ويروضها، ويضع في قلبه الأشياء الجيدة نجده متصالحا مع نفسه، على سبيل المثال كأنك اليوم تتصفح مواقع التواصل الاجتماعي فرأيت شيئا أو موضوعا معينا، تأثرت به، فتشعر نفسك بالانقباض، فهذا الشيء دخل في قلبك وأصبح راسخا فيه.
مثلا إذا كنت في جلسة معينة وتم فيها غيبة شخص معين - لا سمح الله- أو تهمة او بهتان او تسقيط، نلاحظ أن نفس الإنسان تنقبض وإن كان لا يشعر بذلك، فهذا الشيء السلبي دخل في قلب الإنسان، في المقابل الشيء الإيجابي يجعل القلب منشرحا، لذلك لابد على الإنسان أن يختار الأشياء الجيدة، كما يختار الطعام مثلا، فماذا يأكل؟، فهل يأكل طعاما جيدا يدعم صحته أم يأكل طعاما يسيء لصحته، هنا تتبيّن درجة وعي الإنسان (فخيرها أوعاها). حيث يظهر تأثير العلم والفهم عند الإنسان، فيختار الأشياء الجيدة في حياته.
أزمة اختلال التحليل النفسي
علم النفس يعيش أزمة، وهذه الأزمة افتعلها فرويد، حيث حاول عبر التحليل النفسي نبش الشرور من أعماق الإنسان. لكن ذلك تسبب في تصاعد شرور الحضارة المعاصرة عبر اظهار الإنسان كائنا شريرّا وسيّئا، وأدى ذلك إلى تدمير العالم معنويا، وانتشر المنطق الحيواني، والمنطق الوحشي، والعدمية الوجودية، التي ذهبت الى تدمير الثوابت وهلامية الاخلاق والمبادئ.
لكن علم النفس الجديد عندما رصدوا هذا الاختلال الكبير في العالم، ذهبوا وراء البحث عن خير الإنسان، واستخراج الخير من هذا الكائن، وأن نكون متفائلين في أن الإنسان عنده خير وعطاء وتضحية وإيثار ومحبة ورحمة.
الحاضنات المؤسسية
والفضائل هو منهج أهل البيت (عليهم السلام) الذي يجب ان نجعله منهجا تربويا في مدارسنا، ومؤسساتنا التعليمية، ونحول ذلك إلى برامج فكرية، أو برمجيات ذهنية تبرمج سلوك الانسان نحو النضج المعنوي.
والآية القرآنية: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) الشمس 10. وكلمة (فألهمها) تعني البرمجة الذاتية الفكرية التي يحولها إلى سلوك، ومن ثم إلى ملًكة نفسانية راسخة في نفس الإنسان.
كذلك التركيز على القضايا التربوية حول الفضائل، وليس على التطوير المادي، لأن التطوير المادي يكون فاشلا إذا لم تكن هناك تنمية في جانب الفضائل.
ومن المهم أن تشجع وسائل الإعلام على تطوير هذه القيم، فتكون لدينا حاضنات جيدة إعلامية، قادرة على إيصال فضائل أهل البيت (عليهم السلام)، إلى كل العالم، من اجل إيجاد منهج حقيقي للتقدم في حياة مجتمعاتنا والحضارة البشرية.
اضف تعليق