عندما يفشل المرء في إيجاد ذاته وسط ضجيج الواقع وانكساراته وخيباته؛ فإنه يصير مُعرَّضًا للإحباط، وما أسوأ الإحباط عندما لا يملك المرء عقلًا قويًّا يتحمل معه الخسارة في كل مراحلها! وما أسوأ أن ينشأ الفرد داخل ضجيج الحياة البائسة؛ حيث فقدان الأمل بالحياة، وسطوة الظلام القابع بالعقول...
الرجال الذين ذهبوا “لرؤية” الفيل. كل أعمى حلَّل فقط ذلك الجزء من المخلوق الذي لمَسه: كانت الأرجل كالجدار. كان الذيل مثل الحبل. كان الجذع مثل الثعبان، وبالطبع كان كل واحد منهم على حق، وكان كل واحد منهم على خطأ في الوقت ذاته!
هكذا كانت حال النخب والإعلام ورواد التواصل الاجتماعي والمحللين، في ردود أفعالهم المتباينة لما حدث في ضجيج حكم الحبس على مجموعة من مشاهير مواقع التواصل، ممن تم القاءُ القبض عليهم بتهمة “المضمون الهابط” أو “المسيء”؛ ففي حين يرى المؤيدون أن قرارات المحكمة مهمة للسيطرة على “المحتوى الهابط”؛ يرى المعترضون أنها مقدمات لقوانين لتكميم الأفواه، وإشغال الناس عن الأزمات المتوالية التي لا تتوقف!
وكان على الحكومة متابعة قضايا الفساد الإداري وسارقي المال العام بدلاً من هذا الضجيج الهامشي الذي لا يُسمن ولا يُغني من جوع! يقول أفلاطون: “كل ما يقوله سقراط صحيح”، ويقول سقراط: “كل ما يقوله أفلاطون خاطئ”؛ إنها معادلة الاختلاف، والتغذية العكسية المستمرة بين النتيجة والمقدمة، وما ينتج عنها من إشارات للمحصلة.
وجدل اليوم عن ” أم فهد” و “صجمة ” و”سعلوسه”، حوله البعض إلى ميتافيزيقا، ليس للتبصير وتكوين الوعي؛ وإنما إلى فُرَصٍ للتعصب لموقف متجذِّر في العقل، أو لتسطيح الأمور في التفسير. وما يحدث لا يختلف عن جدلنا حول قادة العملية السياسية الذين ابتكروا للحياة العراقية خوارزميات الموت والنكبات؛ واحدة ترقص فتبرز مفاتنها لأثارة الشهوات الغريزية للرجال، وآخر سياسي يثير نوازع كراهية الحياة، واستحضار الماضي ونكباته وطقوسه المريضة.
وعلى حد قول فنانة كبيرة في فيلم “الراقصة والسياسي”: “إحنا الاثنين بنرقص، أنا بلعّب وسطي، وأنت بتلعّب لسانك” المعايير العلمية مفقودة في جدل قضية “صناع المحتوى الهابط” على منصَّات التواصل الاجتماعي؛ فالمصطلح ضعيف في توصيف الظاهرة، وفيه تعميم قابل للتأويل والاختلاف وتعدُّد الاستعمالات، والصحيح أن يكون أحادي الدلالة متفقًا عليه، وغير إيحائي، ومعياريًّا. وربما كان هذا سببًا في تضخُّم الاجتهادات وتعدُّدِها.
يرى البعض أن “المحتوى الهابط” ليس مقصورًا على المفاهيم القيميَّة؛ بل ينسحب على مختلف المجالات، خاصة تلك التي تُحرِّض على الكراهية والعنف، والنعرات الطائفية، والتضليل، كذلك التي تُروِّج للابتذال في المضمون الإعلامي والأغاني المبتذلة والفنون المختلفة.
والتخوُّف من أن قانون منع الإساءة والابتذال والحفاظ على الذوق العام، هو مقدمة لقوانينَ قادمةٍ لقطع الألسن، وتغييب العقل، ومصادرة الحقوق الرقمية للإنسان، وانتهاك خصوصية حق التعبير والرأي، وتصفيات الخصومات الشخصية، وتطويع الإرادات لتقبُّل قوانينَ أكثرَ صرامة، تتلوَّن بمقاصد سياسية سرية ملغومة بأهداف غير نبيلة.
إن الذين نراهم على منصات التواصل الاجتماعي ليسوا من قبيلة “الهيمبا” أو من “اليانومامي” في غابات الأمازون؛ وإنما هم شباب وُلدوا بعد عام 2003 ووجدوا أمامهم مجتمعًا متفككًا بأمراض الطائفية والفساد، ومنظومة سياسية فاسدة تنشر الظلم والمظالم على الجميع بالتساوي، وتستثمر النوازع العاطفية لنشر الطقوس المريضة، وتجهيل الناس بخُزعبلات الماضي.
شباب ظهروا في عصر الرقمنة، وهم يحملون معهم “حلم الشهرة الرقمية”، وحلم المال، وانفجار التطلعات والتوقعات المتفائلة؛ فاصطدموا بالواقع وتناقضاته؛ بيئة ملوثة بالابتذال والمفاسد الاجتماعية والسياسية، وجار يقتل جاره لأنه من غير طائفته، وأسر متفككة بسبب الحاجة والفقر، وشوارع مليئة بملاهي الأحزاب، ومخدرات تُباع في الشوارع والحارات، ومؤسسات تعليمية متهرئة، ونظم زواجية مستحدثة تُشجع على المنكرات والإباحية، ومفاسد الشهوة الجنسية. إنها فوضى اجتماعية تنشر وباء اليأس والانكسارات، وتُشجِّع على تثوير الشهوات والقتل والسرقة والرشوة وتدمير الذات.
وعندما يفشل المرء في إيجاد ذاته وسط ضجيج الواقع وانكساراته وخيباته؛ فإنه يصير مُعرَّضًا للإحباط، وما أسوأ الإحباط عندما لا يملك المرء عقلًا قويًّا يتحمل معه الخسارة في كل مراحلها! وما أسوأ أن ينشأ الفرد داخل ضجيج الحياة البائسة؛ حيث فقدان الأمل بالحياة، وسطوة الظلام القابع بالعقول.
إن الشباب الذين يقبعون في السجون أو في خارجها، قد عاشوا، على الأغلب، في أسر غير متماسكة، ولم يُحصِّلوا تعليمًا نوعيًّا، وعملًا يسد رمقهم، إنهم ضحايا دولة فاشلة لم تستطع القيام بوظائفها ومسؤولياتها في إنفاذ القانون، والعدالة، والاستقرار الاقتصادي.
والقاعدة الذهبية في الحياة هي: عندما تهبط الدولة في تنفيذ مسؤولياتها أمام شعبها؛ فإن القيم البليدة والتفاهات تصعد على السطح بقوة، وتسطو على القيم الجميلة. هي تحصيل حاصل لمعادلة السبب والنتيجة!
والدولة التي ينتشر فيها وباء الفساد والجريمة والفقر والأميَّة والتخلُّف الاجتماعي، وانهيار الوحدة الأسرية، وانحلال بناء الأدوار الاجتماعية لأفراد الأسرة، وتلوث أجواؤها بالغيبيات والطقوس، والفتاوى المريضة؛ لا يمكن لها أن تُخرج مُخرجات في النزاهة والعفة، ولا أن تُنشئ مواطنًا صالحاً، ولا أن تُؤسس لجمهورية أخلاق حميدة.
الكل ضد التفاهات والركاكة والعبث المجتمعي، وتشويه الشخصية العراقية، وتهميش منظومات القيم، والقبول بالرداءة والتصفيق لها، وتكريم أهلها، وجعل “الناس الأغبياء مشهورين”. لكن الجميع يتفق على أن الدولة هي “القدوة الحسنة” التي تقدم نفسها بأحسن حالٍ للشعب. فما بالك إذا كان المواطن يرى فيها مصنعًا لإنتاج نفايات الفساد والابتذال والغيبيَّات والكوارث؟!. وقتها على الدولة محاسبة نفسها بما اقترفته من ذنوب بحق الشباب، وان تتحمل مسؤولية حمايتهم من الانحراف، وتكون حكيمة في قراراتها، وأن تجعل العلاج في حبوب ” التوعية الاجتماعية ” بدلاً من رصاص الترهيب، ودهاليز السجون!
اضف تعليق