على صانع القرار العراقي التعاطي باحترافية عالية في علاقاته مع واشنطن، وليس من الحكمة تصدير خطابات شعبوية قد تؤثر سلباً على الداخل العراقي، نعم من المهم تقليص النفوذ الأمريكي، فالسيادة مطلب كل عراقي ومن الخطأ استمرار سطوة واشنطن على قرار بغداد، لكن يجب أن يكون ذلك وفق خطة محكمة...
يوم الخامس عشر من كانون الأول ديسمبر عام 2011 تم تنكيس العلم الأمريكي في مطار بغداد إيذاناً بانتهاء الوجود العسكري الأمريكي، وشهد وزير الدفاع آنذاك ليون بانيتا جنوده وهم يقومون بالعملية الأخيرة لمغادرة بلاد الرافدين.
حفل المغادرة كان متواضعاً، إذ غاب عنه كبار ساسة العراق، فقد وصفوا الانسحاب بانه انتصار للسيادة العراقية، بينما قال بانيتا بأن "التحديات لاتزال قائمة والولايات المتحدة ستكون مستعدة للوقوف إلى جانب الشعب العراقي".
وأطلق رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي في (31 كانون الاول 2011)، تسمية يوم الوفاء على الانسحاب الاميركي من العراق، بعد اتفاق قيادة البلدين على إنهاء المهام القتالية للقوات الأمريكية وفق جدول زمني محدد، ومنذ تلك السنة تحتفل القنوات الإعلامية الشيعية بانسحاب القوات الأجنبية وتعتبره انجازاً تاريخياً، حيث تحاول كل جهة إبراز دورها في هذا المجال.
لكن الأمور ليست بهذه البساطة، فالعراق يبقى ساحة أمريكية للمناورة السياسية ولممارسة النفوذ والضغوط على الفاعلين المحليين والإقليميين على حد سواء.
قد يكون إنهاء الوجود العسكري القتالي الأمريكي تغييراً بالاستراتيجية أكثر من كونه نهاية لحقبة من السيطرة الأمريكية على العراق، ففي عام 2014 ثبت كيف أن العراق لا يمكنه ضمان أمنه بدون مظلة واشنطن وحلف الناتو.
وفي الثالث من كانون الثاني 2020 أكدت واشنطن أنها قد تفرغ العراق من معظم جنودها لكنها لا تسمح بأن يتحول ساحة نفوذ لخصموها، ولذلك عندما رأت أن قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني يهدد النفوذ الأمريكي قامت بقتله قرب نفس المطار الذي شهد مغادرة آخر جنود أمريكا.
أن تقتل أمريكا شخصية بثقل قاسم سليماني، فهذا يعني أنها ما تزال قادرة على ممارسة الضغط في العراق، وهو نفوذ ينقسم في عدة مجالات:
أولاً: المجال العسكري
تحتفظ الولايات المتحدة الأمريكية ببضعة آلاف من الجنود في يتمركزون بشكل أساسي في قاعدتي عين الأسد بمحافظة الأنبار غربي العراق، وقاعدة حرير في أربيل شمالي البلاد.
وقد زار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قاعدة عين الأسد في 26 كانون الأول/ ديسمبر 2018، قائلاً إن "الرجال والنساء المتمركزين في قاعدة الأسد لعبوا دوراً حيوياً في هزيمة تنظيم داعش عسكرياً في العراق وسوريا".
وبعد اغتيال قاسم سليماني برفقة القائد الميداني للحشد الشعبي أبو مهدي المهندس صوت البرلمان العراقي على قرار غير ملزم بطرد القوات الأمريكية من العراق، فرد الرئيس ترامب بكلام جدير بأن نتذكره دائماً، قال "لدينا هناك قاعدة جوية تكلفت مبالغ طائلة بمليارات الدولارات قبل مجيئي بوقت طويل. ولن نغادر قبل أن يدفعوا لنا تلك التكلفة".
أمريكا لا تبني القواعد العسكرية لكي تخرج منها، وهي لم تحتل العراق لكي تقول وداعاً بلا مقابل، نفوذها العسكري باقٍ لمدة ليس بالقصيرة، وهي تجدد اتفاقية الإطار الاستراتيجي مع كل حكومة جديدة في العراق لتحصل على ضمانات بحفظ نفوذها.
ثانياً: النفوذ السياسي
نيويورك وواشنطن هما مركز القرار العالمي، حيث تتجمع غالبية المنظمات الدولية المؤثرة على صناعة السياسات الدولية، وعلى رأسها المنظمات التابعة للأمم المتحدة.
تستطيع واشنطن التأثير على القرار العراقي بسهولة من هناك، فتحرك القضايا التي تخدمها، وتخفي ما لا يلائم مصالحها، وساسة العراق يشعرون بهذا التأثير السياسي الأمريكي.
ليس هذا فحسب، بل أن السفارة الأمريكية في بغداد هي الأكبر لها في العالم، ومنصب السفير هو بمثابة المرشد السياسي الأعلى في العراق.
وخلال الأسابيع الأولى لتشكيل حكومة محمد شياع السوداني عقدت السفيرة ألينا رومانوسكي عدة لقاءات مع السوداني أثارت فيها استغراب المتابعين للشأن العراقي، فهناك لقاءات شبه يومية مع السوداني وكأنها تنقل له توجيها وليست مناقشة قضايا بين بلدين.
ثالثاً: النفوذ المالي
يكفي أن نعرف بأن أموال تصدير النفط العراقي تودع في البنك الفدرالي الأمريكي منذ عام 2003 وفق القرار 1843 الصادر عن مجلس الأمن الدولي في أيار من عام 2003.
يتيح قرار مجلس الأمن فتح حساب في البنك الفيدرالي في نيويورك للعراق باسم صندوق التنمية العراقي DFI، تم تعديله لاحقاً إلى حسابين، حساب العراق (1) وحساب العراق (2)، إذ يستخدم الأول لوضع الفائض الدولاري ويسمى الاحتياطي.
وحساب العراق (2) يستخدم لتمويل نافذة بيع العملة لتمويل المشتريات الحكومية وتوفير عملة الدولار للتجار.
هذه أهم مراكز النفوذ الأمريكية في العراق، ومن خلالها تستطيع واشنطن منع أغلب الأنشطة التي تعرض نفوذها للخطر، تستطيع تنفيذ ضربات جوية، أو إصدار قرارات دولية أو خنق البلاد مالياً عبر الفدرالي الأمريكي.
وعلى صانع القرار العراقي التعاطي باحترافية عالية في علاقاته مع واشنطن، وليس من الحكمة تصدير خطابات شعبوية قد تؤثر سلباً على الداخل العراقي.
نعم من المهم تقليص النفوذ الأمريكي، فالسيادة مطلب كل عراقي ومن الخطأ استمرار سطوة واشنطن على قرار بغداد، لكن يجب أن يكون ذلك وفق خطة معدة بإحكام بدون اثارة المشكلات جديدة تزيد من التحكم الخارجي بالشأن المحلي.
اضف تعليق