بينما تعتقد الحكومات العراقية المتعاقبة بأن الذوبان في سياسات الدول الأخرى لا يخدم المصلحة الوطنية، ما ينفعنا الآن هو سلوك الطريق الثالث، لا نتماها تماماً مع أي دولة، ولا نذوب في سياساتها، ولا نتحول إلى خط دفاع متقدم لها، بل يجب أن تكون هناك استراتيجية محددة على أساس السير في الطريق الثالث...
يقول رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أن منهاج حكومته يتضمن 23 محوراً على رأسها تعزيز علاقات العراق مع الدول اعتماداً على مبدأ الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، ولا سيما مع دول الجوار ودول مجلس التعاون الخليجي والدول العربية وعدم السماح بأن يكون العراق ممراً أو مقراً للاعتداء على الدول الأخرى والطلب من الدول الأخرى المعاملة بالمثل.
وركزت حكومة الكاظمي وعبد المهدي والعبادي على هذا المبدأ من خلال خطابها السياسي، أي عدم الاصطفاف مع دولة على حساب الأخرى، مع بعض الاختلافات من حكومة إلى أخرى بالاقتراب من مسار دولي معين على حساب الآخر وهو ما عرض العراق إلى مشكلات معقدة.
وضعُ العراق اليوم يشبه الدول الأوروبية التي كانت تعاني من الحروب الدموية المستمرة بين فرنسا وبريطانيا خلال سنوات القرن الثامن عشر، إذ كانت كل من فرنسا أو بريطانيا تحاول جر أحدى الدول إلى جانبها، اضطرت أربع دول هي روسيا والسويد والنرويج والدنمارك إلى تأسيس ما سمي بعصبة الحياد المسلح عام 1770، لمواجهة المحاولات الفرنسية والبريطانيا لجرها إلى ميدان الحرب.
كما لجأت العديد من بلدان العالم الثالث في أوج الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والمعسكري الغربي إلى ما أطلق عليه الرئيس اليوغسلافي جوزيف تيتو بـ"الطريق الثالث"، وهذا الطريق باختصار يعني وقوف الدول النامية على الحياد وعدم الانحياز لأي طرف من طرفي الحرب الباردة.
تمخض عن نقاشات الدول النامية تأسيس منظمة دول عدم الانحياز عام 1961 في العاصمة اليوغسلافية بلغراد، وكانت الهند ومصر من أكبر الداعمين لحركة عدم الانحياز.
بالنسبة للعراق في وضعه الراهن لا نحتاج إلى أكثر من وصف البلاد بأنها "عنصر جذب لدول الجوار والبعيدة"، فالفرص هنا هائلة، بلاد كبيرة، وموارد لا تعد ولا تحصى، وموقع جغرافي يستطيع الممسك بحدوده خنق الشرق الأوسط، وربما العالم بأسره، لذلك فالعراق بهذه الميزات هو عنصر تهديد للدول الأخرى إذا اعتبرناه عراق صدام الذي هاجم إيران والكويت والسعودية، أو عراق عبد الكريم قاسم الذي اعتبر الكويت محافظة عراقية.
لكن هذا المسار أثبت فشله، وتحمل الشعب الويلات من السياسات السابقة، وفي هذه الأيام العراق هو ضحية لمحاولات بعض الدول لجره إلى جانبها أو السيطرة عليه من أجل ضمان موقع استراتيجي ضد الدول الأخرى.
بينما تعتقد الحكومات العراقية المتعاقبة بأن الذوبان في سياسات الدول الأخرى لا يخدم المصلحة الوطنية، ما ينفعنا الآن هو سلوك الطريق الثالث، لا نتماها تماماً مع أي دولة، ولا نذوب في سياساتها، ولا نتحول إلى خط دفاع متقدم لها، بل يجب أن تكون هناك استراتيجية محددة على أساس السير في الطريق الثالث، لا مع هذا ولا ذاك.
إلا أن تأسيس سياسة الطريق الثالث ليست بالسهولة النظرية التي يتحدث عنها رؤساء الوزراء، فهي تحتاج إلى القيام بإصلاحات جوهرية في قطاعات رئيسية:
أولاً: إصلاحات في العمل السياسي الداخلي من خلال اعتماد الدستور كمظلة للعمل السياسي، وتنشيط عمل الأحزاب بالسبل القانونية بعيداً لتتحول الأحزاب إلى مؤسسات منتجة للقادة السياسيين بعيداً عن العشوائية وغياب التنظيم.
ثانياً: إصلاح المنظومتين الأمنية والعسكرية من أجل حماية ما تقرره الغرف السياسية، وكما نعرف لا قيمة للقرار السياسي وخاصة على المستوى الخارجي إذا لم تحميه قوة عسكرية احترافية.
ثالثاً: تأكيد الجهد لدبلوماسي العراقي بشكل دائم على مسألة عدم تدخل العراق في شؤون الدول الأخرى، وفي هذه النقطة بالتحديد يبذل رؤساء الوزراء جهوداً واضحة في تأكيد الحياد العراقي، لكن الحياد يبقى بلا معنى إذا لم يتبعه إصلاحات سياسية جوهرية، وإصلاحات في منظومة العمل الامنية لحماية الداخل العراقي، ومنظومة عسكرية لضبط الحدود وعدم السماح باستخدام الأراضي العراقية منطلقاً لتهديد الدول الاخرى.
باختصار تحتاج تصريحات رئيس الوزراء إلى أن تقف وراءها منظومة سياسية قوية، ومنظومة عسكرية قادرة على حماية القرارات السياسي، فضلاً تفعيل الدبلوماسية العراقية بشكل يتناسب وحجم الكفاءات المتوافرة في وزارة الخارجية.
العراق البعيد عن الاصطفافات يقدم خدمة لنفسة كحماية ذاتية، فضلاً عن تحوله إلى نقطة توازن واستقرار لدول المنطقة والعالم.
اضف تعليق