إن ممارسة السياسة تعني في المحصلة الأخيرة التدخل والتأثير في مصائر الناس وأمنهم ومعاشهم ووجهتهم السياسية ونموذجهم الاقتصادي والثقافي، وكل ذلك مسؤولية عظمى، مسؤولية شرعيَّة واجتماعية واخلاقية وإنسانية، إن الحفاظ على حيوية المشروع يستلزم استمرار قناعة أكثرية الناس به وبجدواه لتتحقق لهم الطمأنينة النفسية والاخلاقية بما يجعل الدفاع عنه...
لم يعرف عن (وحدات) المشروع السياسي الاسلامي الشيعي مراجعة فكرية أو سياسية على شاكلة أوراق في النقد الذاتي، تسائل التجربة وتشخص أخطاءها وتصارح الناس بها، بل وجدنا خطابا محافظا جزميا واصرارا على المضي في المسار، يلقي تبعة الصعوبات والاخفاقات والمشكلات على عاتق الأعداء ومؤامراتهم والظرف الخارجي غير المواتي، دونما توقف أو مقايسة أو مراجعة.
فبعد سنوات متطاولة سيطر فيها هاجس (ليس في الامكان أحسن مما كان) ظهر بوضوح أن بعضا مما انتهُج من خيارات ثورية أو مواجهات شاملة، أو سياسات أو حروب أو تكتيكات، غيّرت حياة الناس وفرضت مسارات ثقيلة ومكلفة في الدماء والأموال، لم تكن كلها بسبب عدوانية الأعداء وخططهم ومشروعهم المضاد، وهي موجودة في كل الأحوال، بل إن بعضها كان بسبب النهج الذاتي والمزاج الشخصي وغلبة فكر متشدد مع تغييب القوى العقلانية والانسياق وراء خطاب التحريض والمواجهة السائر خلف أوهام وفكر غيبي وحسابات خاطئة ومراهقة ثورية وعلل داخلية، أكثر مما هي استجابة لتحديات خارجية.
ماذا كان الحصاد؟ موضوعيا ثمة نصف كأس مملوء مختلف عليه، الكلام هنا عن النصف الفارغ، حيث الصراعات الداخلية والانشقاقات الحزبية والتمردات الشعبية والعزلة الداخلية والخارجية، ثم الفقر والحصار والنبذ والاحتضار، وأجيال جديدة ناقمة رافضة، ونقد اخلاقي صارم ومساءلة من الداخل والخارج تطول الاسس والعناوين الاساسية للمشروع، والتجربة كلها من فكر وسلوك وأخلاقيات عمل وقداسات تتهاوى وقدوات مفقودة.
كان من لوازم التفكير بالسياسة من منظار الفكر الديني الاسلامي، أن يوزن كل عمل وكل سلوك بما في ذلك تأسيس التنظيمات وأهدافها ومواقفها بميزان شرعي، بمعنى أن السلوك السياسي ينبغي أن يحصل على المشروعية الدينية في تحقيق اهداف ومقاصد الدين والشريعة في تحقيق الكليات الخمس الشهيرة، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والمال والعِرض (النسل)، وهي بالأساس تنظير سني ابتدأه العلامة الشاطبي ( ت 790 هج)، وطوّره في القرن الرابع عشر الهجري العلامة التونسي محمد الطاهر بن عاشور ( 1879 - 1973 م ).
فهدف تأسيس الحركات الاسلامية هو استئناف الحياة الاسلامية كناية عن توقف تلك الحياة وما أحدثه المشروع الحضاري الغربي من قطيعة في منطقتنا والعالم، ولذلك كانت أسلمة أنظمة الحكم، وجعل شرعيتها مستندة إلى الشرعية الدينية، والحكم بما انزل الله تشريعا وقانونا، والحفاظ على القيم والأخلاق الاسلامية في السلوك الفردي والجمعي هي الهدف الاسمى، والوسيلة إلى ذلك هو التزام العدالة الاجتماعية وتنمية الاقتصاد، والوقوف بوجه الظلم والاستبداد والاستعباد ونصرة المظلومين واحقاق حقوق المستضعفين، وبالجملة المحافظة على الاستقلال والسيادة ومنع التبعية الفكرية والاقتصادية والسياسية في العلاقات الخارجية، ولم يختلف المشروع الاسلامي الشيعي عن شقيقه السني في كل ذلك الا في تفصيل نظرية الحكم، فكلاهما مشروعان احيائيان يريدان التصدي للاختراق والغزو الثقافي والفكري الغربي، ومواجهة علاقات القوة والهيمنة، التي فرضها الغرب على بلاد المسلمين، واستلبهم امكاناتهم وحقوقهم وتلاعب بمصائرهم ومزق وحدتهم، وجعلهم متخلفين حضاريا وتقنيا وفقراء في بلادهم المكتنزة بالثروات، وهذه هي جملة قضايا الخطاب الاسلامي السياسي المعاصر الذي تتبناه هذه الحركات.
خلال مسيرة قاربت السبعين عاما، أنتج المشروع الاسلامي السياسي الشيعي، دولة اسلامية شيعية يحكمها الفقهاء الشيعة في ايران، سبقتها حركات صغيرة ذات اليمين وذات الشمال، وحركات وأحزاب شيعية في العراق سبقت الثورة الاسلامية في ايران اكبرها (الدعوة الاسلامية) بل هي الحركة الام لما بعدها، وحركات اسلامية حديثة التكوين بعد انتصار الثورة، ومن نتائج حماستها وخطابها في كل من البحرين والسعودية ولبنان وافغانستان والكويت، دخلت كلها في مواجهات عنيفة مع انظمة الحكم في بلدانها ومع حماة وداعمي تلك الانظمة، ثم اختلفت المسارات بين تطبيع مع الحكومات وتراجع عن الخطاب السابق وقبول بالديمقراطية والمشاركة في الحكم والتخلي عن السلاح.
ومن الطبيعي أن يعتور هذه التجارب، وإن قادها فقهاء ومجتهدون وطلبة علم شرعي ومتدينون افندية يقلدون مرجعيات دينية، مشكلات في الفكر والتنظيم والممارسة والسلوك والمواقف والسياسات، فماذا انجز هذا المشروع؟ وما هو ثمن هذا الانجاز، اخلاقيا وبشريا وماديا؟ وكيف انعكس وجود هذا المشروع على أمن الناس ومعاشهم ووجودهم وخياراتهم؟ ثم ماذا تحقق من النهضة والعدالة والتنمية والحريات بحدها الشرعي ومفاهيمها السياسية؟ وما الفرق الذي كرسه الاسلاميون في ممارسة السياسة عن الاحزاب والقوى والانظمة غير الاسلامية؟ وأخيرا ماذا أفاد الناس من تجربة الحكم الإسلامي؟ اين أخطا الإسلاميون وأين أصابوا؟
هذه نماذج من الاسئلة العامة التي تفرض على الاسلاميين استنطاق تجربتهم والتعرف على مكامن الخلل والقصور فيها إن كانوا حريصين على الاستماع لما يجول في أذهان الجمهور وهو مساحة وميدان ومادة عملهم.
إن ممارسة السياسة تعني في المحصلة الأخيرة التدخل والتأثير في مصائر الناس وأمنهم ومعاشهم ووجهتهم السياسية ونموذجهم الاقتصادي والثقافي وو، وكل ذلك مسؤولية عظمى، مسؤولية شرعيَّة واجتماعية واخلاقية وإنسانية، إن الحفاظ على حيوية المشروع يستلزم استمرار قناعة أكثرية الناس به وبجدواه لتتحقق لهم الطمأنينة النفسية والاخلاقية بما يجعل الدفاع عنه- باعتباره الخيار الامثل والطريق الأسلم - من المسلمات السياسية عندهم، لكن ماذا لو ارتفع صوت الناس بالاعتراض من داخل حملة هذا المشروع فضلا عن خارجه؟
كل مسيرة بشرية تعترضها مشكلات وتحديات تتغلب عليها باجتهادات وأساليب عمل ورؤى فكرية وسياسية ومبادئ أخلاقية وقيمية، وما لم تصوب أخطائها وعثراتها فإنها تصبح موضع تشكيك ورفض ونقد ومعاندة، لا يمكن الاستناد إلى الشعار الاسلامي وحده في فرض الرؤى والمواقف والخيارات على الناس، ولا يمكن فرض اي نوع من أنواع الولاية والوصاية وتقرير مصير البشر إلا باختيارهم وطوع إرادتهم وقناعتهم، تواجه دولة وحركات المشروع الاسلامي الشيعي نقدا لا سابقة حاليا له ليس بسبب العقوبات والحصارات والمواقف المضادة، بل بسبب الأداء الذي هيمنت عليه نزعة التشدد والصوابية والمناقبية والتطهرية الزائدة بلا استعداد كافٍ ولا أخلاقية عملية كثيرا ما تم ادعاؤها خطابيا.
هناك بون شاسع بين المثالية المدعاة والواقعية المعاشة، وهناك ضعف هائل في الاخلاق العملية وجمود كبير في فهم العالم المحيط ومعادلاته السياسية، اذ لم يطور الاسلاميون أفكارهم بما يلائم الدولة المعاصرة، دولة المؤسسات والقانون والهوية الوطنية والسيادة والتعددية والمواطنة والديمقراطية، ولم يفكك الاسلاميون بين مفاهيم الانتماء إلى الأمة العقائدية والأمة السياسية الوطنية، كما لم ينجز الاسلاميون رؤية ناضجة حديثة لما ينبغي أن تكون عليه علاقاتهم بالآخر الوطني والآخر العقائدي غير الوطني، ولم يعلنوا بصراحة عن مواقفهم وعلاقاتهم بمرجعياتهم الدينية المحلية، وعن مرجعيتهم السياسية العابرة للأوطان، عليهم أن يكونوا اكثر صراحة في التعبير عن لوازم الولاء الوطني، وألا يصبحوا في عيون مواطنيهم وكأنهم وكلاء عن الآخرين وادوات في مشروع اكبر منهم ومن مصالح أوطانهم ومواطنيهم.
اضف تعليق