هذا ما جعل العراق ساحة لتصفية الحسابات بين طهران وواشنطن، فطهران تريد ان يبقى العراق منطقة نفوذ لمواجهة المشروع الامريكي والاسرائيلي ومكافحة اي تهديد لنظامها وامنها القومي، في المقابل تعتقد واشنطن ان وجود ايران في العراق هو مفتاح لمضاعفة نفوذها في كل المنطقة باتجاه سوريا ولبنان ومن ثم...

اختلفت مواقف الحكومات المتعاقبة في العراق بعد عام ٢٠٠٣ من تواجد القوات الامريكية والاجنبية، قبولا وتبريرا ورفضا، وفي الغالب تضطر الحكومة ممثلة برئيسها وقادتها الامنيين الى التعاطي والتماهي مع هذا التواجد رغم محاذيره ورفضه على نطاق واسع شعبيا وسياسيا، لكن ما ان ينال المرشح ثقة البرلمان تتغير النبرة السياسية والامنية من قبله والقوى السياسية المؤيدة لتكليفه.

هذا ما يحصل الان تحديدا مع الحكومة الحالية ورئيسها محمد شياع السوداني الذي صرح في مقابلة مع صحيفة وول ستريت جورنال نشرت تفاصيلها يوم الأحد ١٥/١/٢٠٢٣ عن موقفه حول وجود القوات الأمريكية في العراق، ولم يحدد في هذه المقابلة جدولا زمنيا لانسحابها، اذ قال: "إن الحاجة للقوات الأجنبية لا تزال قائمة وأن القضاء على (داعش) يحتاج إلى المزيد من الوقت.. لسنا بحاجة إلى قوات تقاتل داخل الأراضي العراقية، أن التهديد للعراق مصدره تسلل خلايا (التنظيم الإرهابي) من سوريا". وهنا تصريحه يأتي في إشارة إلى وجود القوات الأمريكية وقوات حلف شمال الأطلسي التي تدرب وتساعد القوات العراقية في مكافحة التنظيم الإرهابي في نطاق يعتقد انه بعيدا وبمنأى عن القتال الفعلي إلى حد كبير.

بالتوازي مع ذلك تنشر الولايات المتحدة نحو ألفي عسكري في العراق للقيام بمهام تدريبية واستشارية، وتنفذ عمليات قتالية هجومية خاصة، كما ينفذ حلف شمال الأطلسي (الناتو) مهمات غير قتالية في العراق، يشارك فيها مئات العناصر من عدة دول أعضاء أو شركاء للحلف مثل فرنسا وأستراليا وفنلندا والسويد.

لكن المعضلة لا تنحصر بالمهام القتالية او الاستشارية، بقدر ما يتعلق بالتدخلات السياسية التي تقوم بها الولايات المتحدة في العراق سياسيا، ويعد الوجود العسكري بنطاقه الاستخباري واللوجستي والعمليات الأمنية الخاصة التي تقوم بها، ومخاطر ذلك داخليا، وتجاذبات خارجية اقليمية تتعلق بموقف ايران من هذا التواجد وحساسيته وتداعياته على الوضع العراقي اخطر تداعيات هذا التواجد، ومن المستبعد انسحاب القوات الامريكية من العراق، اذ عملت واشنطن على إعادة انتشار لقواتها الى مناطق داخل اقليم كردستان وتموضعت قرب الحدود العراقية السورية في خطوة لمواجهة ايران وعدم السماح لها بالتمركز في سوريا والعراق، ومنعها من مضاعفة نفوذها وتقويض نفوذ واشنطن.

هذا ما جعل العراق ساحة لتصفية الحسابات بين طهران وواشنطن، فطهران تريد ان يبقى العراق منطقة نفوذ لمواجهة المشروع الامريكي والاسرائيلي ومكافحة اي تهديد لنظامها وامنها القومي، في المقابل تعتقد واشنطن ان وجود ايران في العراق هو مفتاح لمضاعفة نفوذها في كل المنطقة باتجاه سوريا ولبنان ومن ثم تهديد اسرائيل اضافة الى حلفاءها العرب في منطقة الخليج.

وعند التمعن بدقه حول الموقف من هذا التواجد نجد انقساما سياسيا واضحاً ازاءه، فالكرد بالكامل وغالبية السنة ليس لديهم اي تحفظات ضد التواجد الامريكي، في حين الشيعة لديهم رفض صريح لهذا الوجود مع ميولات مؤيدة لبعض قواه العلمانية، مع تحول في الموقف من القوى السياسية التي تساند رئيس الوزراء نحو التغاضي عن التصعيد ضد هذا التواجد في المرحلة الحالية.

ان الأسوء من كل ذلك هو تحول الموقف من هذا الصراع والتنافس بين مؤيد لإيران ورافض للولايات المتحدة والعكس كذلك إلى سجال عنيف بين فريقين: فريق يدعو لضرورة إخراج القوات الأمريكية من العراق لأنها تنتهك سيادة العراق، وفريق آخر يرى خلاف ذلك يؤيد الوجود الامريكي لموازنة النفوذ الايراني المتزايد في العراق، وفقا للمصالح السياسية الحزبية وليس وفقا لمقتضيات المصلحة العامة والعليا للدولة.

من التداعيات المحبطة لهذا الصراع بين تدخلات سياسية وتواجد عسكري من قبل طهران وواشنطن، تحول سياسة الضغوط القصوى امريكيا ازاء ايران نحو العراق بطريقة مباشرة، اذ استخدمت واشنطن مؤخرا ازمة سعر الصرف كسلاح للضغط على السوداني لفك ارتباطه بقوى الاطار التنسيقي المقربة من ايران من جهة، وانهاء تحويل وتهريب الدولار الى ايران تحت اي مسمى كوسيلة ضغط اخرى ضد طهران مما يعمل على خلط الاوراق وتغيير في المواقف نتيجة تردي الاوضاع الاقتصادية، اذ ان هذا الامر سيعمل -اذا ما استفحل تراجع قيمة الدينار العراقي- الى تحريك الرأي العام والشارع اضافة الى القوى السياسية المناوئة للاطار التنسيقي نحو الاحتجاج، لغرض اسقاط الحكومة او اجبارها على اجراء انتخابات مبكرة.

من المرجح جدا عدم قدرة السوداني على المناورة والموازنة بين المصالح الايرانية والامريكية ومصالح الشعب العراقي ومطالبه، ما ينذر بقرب استقالة هذه الحكومة او اضطرارها لإجراء الانتخابات المبكرة بأسرع ما يمكن، اما الاستمرار بهذه الطريقة في الادارة غير الحاسمة للازمات والمشكلات، فلا يمكن توقع ماذا سيحصل من عواقب وخيمة، خاصة ان الحكومة تعمل الان على استنزاف القدرات الاقتصادية والمالية في مجال التعيينات وتوفير الدرجات الوظيفية دون حاجة واقعية لها واتباع سياسات شعبوية، في خطوة لاحتواء التداعيات المتوقعة.

ما تريده واشنطن يرتكز على استغلال الواقع الاقتصادي والانقسام السياسي والفوران الشعبي، وانبثاق تنظيم داعش من جديد، لتحييد العراق من ايران مقابل تمكينه اقتصاديا وامنيا وسياسيا، والعكس الصحيح تماما.

يبدو ان واشنطن لا تريد اي مواجهة مباشرة مع ايران في العراق حاليا، ولهذا تعمل واشنطن الان على إدامة زخم تلك الضغوطات على طهران وحكومة السوداني في محاولة لجعل الاخيرة تتصرف بنحو غير داعم لإيران بما يعزز نجاعة الضغوط القصوى، ويجبر ايران على التعامل وفق هذه المعطيات الجديدة، او مواجهة العراق لضغوطات اقتصادية وامنية لا يقوى على مواجهتها، وصولا الى إحلال حكومة جديدة تعمل على قطع الدعم المتبادل مع ايران ولا تضع خطوطا حمراء للتعاون والتواصل مع الولايات المتحدة.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/ 2001 – 2023 Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق