المطلوب اعتذار جماعي عن جرائم العبودية من جانب أمريكا وإسبانيا والبرتغال وفرنسا وألمانيا أيضاً، وعلى بلدان العالم الثالث ومنظمات المجتمع المدني ألا تكف عن المطالبة المشروعة بالاعتذار والتعويض المادي والمعنوي عن الماضي الاستعماري والاحتلال والمجازر، بما فيها ما حصل في أفغانستان والعراق من جانب الولايات المتحدة...
لا شك في أن اعتذار مارك روته، رئيس الوزراء الهولندي الرسمي عن دور هولندا في العبودية (19 ديسمبر/كانون الأول 2022)، يعد شجاعة فائقة حتى وإن جاء متأخراً. وهو اعتذار «لجميع العبيد في جميع أنحاء العالم الذين عانوا هذا الفعل، لبناتهم وأبنائهم ولكل أحفادهم»، بصفتها جريمة ضد الإنسانية. فهل يكفي مثل هذا الاعتذار لطي صفحة الماضي على أهميته، أم إنه الخطوة الأولى الضرورية التي لا بد منها عملياً وإنسانياً؟
لقد شُيّد العصر الذهبي للإمبراطورية الهولندية (القرنان السادس عشر والسابع عشر) على أكتاف «العبيد» الذين تاجرت هولندا بأكثر من 600 ألف إنسان منهم كرقيق وباعتهم للعنصريين البيض في أمريكا اللاتينية والكاريبي في المستعمرات التي شملت سورانيوم، وجزيرة كوراساو الكاريبية، وجنوب إفريقيا وإندونيسيا. وقد عومل السكان الأصليون لهذه المستعمرات معاملة قاسية ووحشيّة من جانب المستعمرين الهولنديين الذين نهبوا ثروات هذه البلاد.
واستمرّت جريمة الاسترقاق والاتجار بالبشر لنحو 250 عاماً، وجرى تحريمها لاحقاً حسب القانون الإنساني الدولي. وكانت هولندا ضالعة فيها، حيث تم تحويل البشر إلى سلعة، بامتهان كرامتهم الإنسانية بطريقة مروّعة، ونقلهم من بلدانهم إلى بلدان أخرى وبيعهم في سوق النخاسة واستغلالهم.
وإذا كان الأول من يوليو/تموز المقبل (2023) يصادف مرور 150 عاماً على تحريم العبودية دولياً، إلا أن بقاياها وتأثيراتها وثقافتها المباشرة وغير المباشرة ما تزال مستمرة. ولكي يتم القضاء عليها لا بد من خطوات عملية ملموسة ومتدرّجة في إطار مفهوم العدالة الانتقالية، مثل تحديد المسؤوليات وكشف الحقائق عمّا حصل بالتفصيل، وجبر الضرر بإبقاء الذاكرة حية، وإزالة كل ما من شأنه خدشها أو إيذاؤها بتمجيد الزعماء والمسؤولين عن العبودية مثلاً، وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية الوطنية والدولية، وأجهزة إنفاذ القانون، ومنع كل ما من شأنه يُعيق ذلك، ويبقي على العنصرية والتمييز قانونياً وعملياً.
إن قروناً من الاستغلال والإذلال لا يمكن محوها بمجرّد الاعتذار، فإرث هولندا الغني ومدنها المزدهرة اليوم، ومتاحفها ما كانت لتقوم لولا الاتجار بالبشر. وقد سبق لمدن أمستردام وروتردام، وأوتريخت ولاهاي، أن قدّمت اعتذارات رسمية عن دورها في تجارة الرقيق، خصوصاً حين بدأت حركة «حياة السود مهمة» عام 2013 في الولايات المتحدة، وكذلك عقب حركة الحقوق المدنية التي قادها القس مارتن لوثر كينغ منذ عام 1955، والتي حقّقت أهدافها بصدور قوانين تحرّم العنصرية في عام 1964.
العدالة التعويضية عن آثار العبودية والاستعمار، هي التي تفتح الطريق وتنقّي الأجواء، لذلك كان ينبغي أولًا إجراء مفاوضات مع بلدان الضحايا؛ إذ ليس تخصيص 200 مليون يورو كافياً لتحقيق وعي نوعي جديد ضد الاستعباد، فحتى اليوم 38% من الهولنديين يؤيدون الاعتذار، الأمر الذي يتطلّب جهداً مثابراً وطويلاً لتعويض هذه البلاد والعمل على تنميتها وتقدّمها.
وحين انعقد مؤتمر ديربن الدولي ضد العنصرية عام 2001، وكان لي شرف المشاركة فيه كعضو في اللجنة التحضيرية العربية، كانت المطالبات ترتفع لإدانة العنصرية وممارستها، وشملت مطالبة الولايات المتحدة بالاعتذار عما حصل لسكان البلاد الأصليين، ومطالبة «إسرائيل» بالتوقف عن ممارساتها العنصرية والاعتراف بحقوق الشعب العربي الفلسطيني، بما فيه حقه في الوجود وتقرير المصير، وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
وكانت بلجيكا، على لسان الملك فيليب، قد أعربت عن أسفها العميق للفظائع التي ارتكبت خلال الحكم الاستعماري لبلاده في جمهورية الكونغو الديمقراطية (القرن التاسع عشر خصوصاً)، ولم يرتق ذلك الأسف إلى الاعتذار الرسمي وما يترتّب عليه.
واعتذرت فرنسا لرواندا عن المجازر التي لحقت بها على أيدي قبيلة التوتسي التي دعمتها وأدّت إلى مقتل نحو مليون إنسان، لكنها لم تعتذر للجزائر عما يقارب 132 عاماً من الاستعمار والقمع ومحاولات محو الهوية، ولم تعتذر إسبانيا للمغرب عن استعمارها واستخدامها أسلحة محرّمة دولياً.
كما لم تعتذر بريطانيا عن نكبات العرب خلال القرن العشرين والتي ما تزال مستمرّة إلى اليوم، وأبرزها اتفاقية «سايكس بيكو» السرية بينها وبين فرنسا، وما حصل لاحقاً في فلسطين ابتداء من وعد بلفور، إلى تشريد نحو 800 ألف فلسطيني من ديارهم، بعد قيام «إسرائيل» عام 1948، وشنّ حروب بلا توقّف ضدّ البلاد العربية.
المطلوب اعتذار جماعي عن جرائم العبودية من جانب أمريكا وإسبانيا والبرتغال وفرنسا وألمانيا أيضاً، وعلى بلدان العالم الثالث ومنظمات المجتمع المدني ألا تكف عن المطالبة المشروعة بالاعتذار والتعويض المادي والمعنوي عن الماضي الاستعماري والاحتلال والمجازر، بما فيها ما حصل في أفغانستان والعراق من جانب الولايات المتحدة.
اضف تعليق