تميل السلطوية أيضًا إلى ممارسة نفوذها السياسي بأسلوب غير رسمي وغير نظامي، فالقيادة التي نصّبت ذاتها، أو انتخبت أيضًا، لا يمكن عزلها عبر اختيار المنافسين الآخرين اختيارًا حرًا من طرف المواطن. تنطوي السلطوية على الحرمان التعسّفي من الحريات المدنية، وإظهار هامش ضئيل من التسامح تجاه المعارضة الحقيقية...
يملك معظمنا في ذهنه صورة نمطية عن النظام السلطوي، ولعل هذه الصورة لاتختلف في جملتها بين انسان واخر. وتتلخص هذه الصورة الكلاسيكية عن النظام السلطوي بانه نظام قمعي ذو طبيعة وحشية تتركز سلطاته في يد شخص واحد، ويتفرد هذا الشخص بسلوكيات غريبة..
ولكن لاتتوافق هذه الصورة في الكثير من الحالات مع الواقع السياسي.
وبتعبير اخر صحيح ان الأنظمة السلطوية تتلاءم مع هذه الصورة النمطية الكلاسيكية التي توجد في اذهاننا عن أي نظام سلطوي، الا ان الكثير منها أيضا يناقض المفاهيم الشائعة عن صور الحكم السلطوي..
لا نعرف الكثير عن السياقات السياسية التي تدور داخل الأنظمة السلطوية مقارنةً بالأنظمة الديمقراطية. وكان ذلك، في جزءٍ منه على الأقل، بسبب إهمال أدبيات العلوم الاجتماعية للسياسات السلطوية. ولكن هذه النزعة التاريخية، بالاهتمام بالديمقراطيات على حساب الأنظمة السلطوية، تغيّرت في السنوات الأخيرة.
فقد توسّعت الأبحاث التي تتناول السياسات السلطوية بصورةٍ دراماتيكية في العقد الأخير، ولعل ذلك كان عن إدراكٍ بأن الأنظمة السلطوية باقيةٌ وتتمدّد.
سجلت منظمة فريدوم هاوس في تقريرها السنوي تراجعا في الحقوق السياسية والحريات المدنية للعام الحادي عشر على التوالي.. وتقوضت أسس المباديء الديمقراطية في بلدان مختلفة حول العالم.
فثلث بلاد العالم اليوم، في النهاية، تحكمها أنظمةٌ سلطويةٌ، ولا يوجد أي مؤشّرات حقيقية تدلّ على انحدار السلطوية. إلا أن هذا الاهتمام المتزايد بالسياسات السلطوية لن يكون كافياً لتحسين فهمنا الزهيد بديناميات الأنظمة السلطوية بالمقارنة بما نعرفه عن سلوكيات الأنظمة الديمقراطية.
ان انتشار السلطوية وصمودها يبرز الحاجة الى فهم السياقات السياسية في الأنظمة السلطوية، ويشمل ذلك اهم الفاعلين داخل اضلع هذه الأنظمة، وسيناريوهات وصول هذه الأنظمة الى السلطة، والاستراتيجيات التي تستخدمها هذه الأنظمة للبقاء، وسيناريوهات سقوط هذه الأنظمة..
فماذا يعني "نظامٌ سلطوي"؟
السلطوية هي إحدى صور الحكومة والتي تتسم بحكومة مركزية قوية وحريات سياسية محدودة. تخضع الحريات الفردية للدولة ولا توجد مساءلة دستورية في النظام السلطوي. ميز وصف خوان لينز المؤثر في 1964 للأنظمة السياسية السلطوية بأربع سمات:
1- جمعوية سياسية محدودة، والتي تضع في هذه الأنظمة ضغوطا على المؤسسات والجماعات السياسية مثل السلطة التشريعية والأحزاب السياسية وجماعات الضغط.
2- تأسيس الشرعية السياسية على المشاعر، خاصة الاعتراف بالنظام كشر لا بد منه لمحاربة «المشاكل المجتمعية الملحوظة» مثل التخلف أو أعمال الشغب.
3- تعبئة اجتماعية دنيا ناتجة غالبا عن الضغوط المفروضة على العامة مثل قمع الخصوم السياسيين والحركات المعادية للنظام.
4- قوة تنفيذية معترف بها بصورة غير رسمية مع انتقال مبهم للسلطة.
خصائص السلطوية
تتصف السلطوية بالسلطة الحكومية شديدة المركزية والتمركز، ويعتمد بقاؤها على القمع السياسي وإقصاء المنافسين المحتملين. تستغل السلطوية الأحزابَ السياسية والمنظمات الجماهيرية لدفع الشعب نحو أهداف النظام السياسي.
وضع آدم برزيفورسكي نظرية ادعى فيها أن «اتزان السلطوية يعتمد، في الدرجة الأولى، على الأكاذيب، والخوف، والازدهار الاقتصادي». في المقابل، أشار دانييل أ. بيل ووانغ بي إلى تجربة الصين مع جائحة فيروس كورونا ليثبتا أن تلك التصنيفات ليست واضحة المعالم.
تميل السلطوية أيضًا إلى ممارسة نفوذها السياسي بأسلوب غير رسمي وغير نظامي، فالقيادة التي «نصّبت ذاتها، أو انتخبت أيضًا، لا يمكن عزلها عبر اختيار المنافسين الآخرين اختيارًا حرًا من طرف المواطن». تنطوي السلطوية على الحرمان التعسّفي من الحريات المدنية، وإظهار هامش ضئيل من التسامح تجاه المعارضة الحقيقية. تحاول السلطوية فرض سلسلةٍ من إجراءات الضبط الاجتماعي لكبت المجتمع المدني، في حين تحافظ على الاستقرار السياسي عبر الهيمنة على القوات المسلحة ودعمها، والبيروقراطية التي يسيطر النظام على هيكلها الوظيفي، وخلق أشكالٍ من الولاء للسلطة عبر وسائل متنوعة من التنشئة والتلقين الاجتماعيين.
تتميز السلطوية بأنّ الولاية السياسية للحاكم، أو الحزب الحاكم (غالبًا في دول الحزب الواحد)، أو السلطة الحاكمة، غير محددة زمنيًا. يشير مصطلح دمقرطة إلى الانتقال من نظام سلطويٍّ إلى حكومةٍ أكثر ديمقراطية.
يقترح جون داكت وجود رابط بين السلطوية والجماعية، مؤكدا على أن كلا منهما يقف في وجه الفردانية. كتب داكت أن كلا من السلطوية والجماعية تطمس الحقوق والأهداف الفردية لصالح أهداف المجموعة وتوقعاتها والامتثال لها.
سمات الأنظمة السلطوية
لاحظ أندرو ناثان أن "نظرية النظام تنص على أن الأنظمة السلطوية هشة من الداخل بسبب ضعف شرعيتها، والاعتماد على القمع، والمركزية الزائدة لصناعة القرار، وسيطرة القوة الفردية على المؤسسات. تمكنت أنظمة سلطوية قليلة –غالبا شيوعية أو فاشية أو فردية- من العمل باستقرار وبسلام وبصورة سلسة. أحد الاستثناءات لهذه الفكرة العامة هي تحمل الحكم السلطوي للحزب الشيوعي الصيني، والذي يتمتع بثبات غير طبيعي بين الأنظمة السلطوية. اقترح ناثان أن هذا قد يرجع إلى أربعة عوامل:
(1) الطبيعة المرتبطة بالأسلوب والمتزايدة في سياسته المتتابعة.
(2) زيادة الاعتماد على النظام الفردي على عكس الاعتبارات الحزبية عند ترقية الصفوة السياسية.
(3) التفريق والتصنيف الوظيفي للمؤسسات داخل النظام.
(4) تأسيس مؤسسات بهدف المساهمة السياسية والقبول مما يقوي من شرعية الحزب الشيوعي الصيني بين العامة بصورة كبيرة.
لماذا تسود نظم الحكم السلطوية في منطقة الشرق الأوسط، في حين أن عمليات التحول الديمقراطية الناجحة تحدث في أصقاع أخرى من بلدان العالم النامي؟ يعالج كتاب السلطوية في الشرق الأوسط هذه القضية، مركزًا على دور التنظيمات السياسية والخيارات الاستراتيجية التي يتخذها كل من الحكام وأقطاب المعارضة، وركز الكتاب على دراسات حالة من واقع عدة بلدان عربية وإسلامية تقع في قلب العالمين العربي والإسلامي، عز فيها وجود الديمقراطية للأسف ولعقود طويلة خلت.
يجادل كتاب السلطوية في الشرق الأوسط.. النظم الحاكمة والمقاومة أن منطقة الشرق الأوسط ليست المنطقة الوحيدة بين مناطق العالم التي ابتليت بالسلطوية والحكم المستبد. فالصين –وهي اكثر البلدان المتسلطة سكانا– تعتبر أيضا من بين الدول التي طال فيها امد الحكم المتسلط، وفي هذه الحالة الأخيرة نجد ان دولا اسيوية مثل فيتنام ولاوس وبورما تشاركها الامر نفسه، وفي قارة افريقيا كذلك نجد الكثير من الدول، وكذلك كوبا في أمريكا الوسطى.
وهناك أيضا دول كثيرة غير ديمقراطية تنتمي الى الزمرة نفسها، ويؤكد كتاب السلطوية في الشرق الأوسط.. النظم الحاكمة والمقاومة ان حديثة العهد بالاستبداد، وتتصف بالاستقرار، وبخاصة الجمهوريات الجديدة التي تشكلت في اعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي. بيد انه في هذه المناطق الأخيرة، نكتشف ان الأنظمة غير الديمقراطية تتواجد جنبا الى جنب مع الدول التي مرت بتحولات ديمقراطية او التي مازالت تخوض عملية التحول الديمقراطي.
يطرح كتاب السلطوية في الشرق الأوسط.. النظم الحاكمة والمقاومة والذي شارك في تحريره “مارشا بريبشتاين بوسوزني” و”ميشيل بينر انجريست” تساؤلا مهما ويحاول معالجته في فصوله المتعددة، والسؤال هو: لماذا استمرت الأنظمة الحاكمة المتسلطة في الشرق الأوسط كل هذه الفترة الطويلة، بينما افسحت الحكومات السلطوية السابقة في كثير من البلدان الأخرى الطريق للديمقراطية على مدار عدة عقود ماضية؟.
بالنسبة للمجتمعات العربية، وفيما يتعلق بالمتطلبات الثقافية اللازمة للتحول الديمقراطي، يرى كتاب السلطوية في الشرق الأوسط.. النظم الحاكمة والمقاومة ان مجموعة من المجادلات الثقافية اثبتت ان العقلية القبائلية والقائمة على النظام الاجتماعي الابوي الذي يتميز بسلطة الاب المطلقة على العشيرة تشكل عقبة تعرقل تطور القيم التعددية. ويقال ان النظام الاجتماعي يجعل المواطنين العرب عرضة لقبول الزعماء الذين هم مثل ابائهم او يرمزون اليهم، في حين ان المجتمع الذي تسوده القبيلة يعرقل الإحساس بالوحدة الوطنية، وهي التي افترض بعض العلماء انها مطلب جوهري من اجل نجاح التحول الديمقراطي. وفي الواقع فان الانقسامات الاثنية العرقية –التي تعرقل جهود الولايات المتحدة من اجل نشر الديمقراطية في العراق– دفعت الكثيرين من العلماء الى اعتبار ان الطائفية هي العائق الأساسي الذي يحول دون تحقيق الديمقراطية في المنطقة برمتها.
ويبرهن كتاب السلطوية في الشرق الأوسط.. النظم الحاكمة والمقاومة أن الانفصامات الاثنية او العرقية تبرز كعامل مساهم في تكريس مرونة السلطوية في المنطقة وقدرة نظم المستبدين على التكيف بسهولة مع الطوارئ.
ثمة تفسير بديل حول السلطوية المستعصية في المنطقة قدمه المتخصصون بجلاء على انه تحد للمجالات الثقافية. ويركز هذا التفسير على الطبيعة الخصوصية لاقتصادات الشرق الأوسط. ان دولا كثيرة بالمنطقة، وبخاصة تلك الدول الواقعة ضمن شبه الجزيرة العربية والمجاورة لها، تستمد دخلا فخما من الصادرات الهيدروكربونية، وترتبط جيرانها من الدول الأكثر فقرا بالاقتصاد النفطي عبر الاعتماد على هجرة العمال وما يترتب عليها من حوالات مالية، او المساعدات المباشرة من دول الخليج العربية، او المكاسب المتحققة عن طريق تجارة الترانزيت.
وتفترض نظرية “الدولة الريعية” ان الحصول على مصدر غير انتاجي للدخل، يجعل من نظم الحكم في الشرق الأوسط نظما اقل اعتمادا على استخراج الثروة من شعوبهم من اجل تمويل الدولة، واكبر قدرة على كسب التأييد الشعبي عبر تقديمهم للإمدادات السخية للخدمات الاجتماعية، وتوفير الوظائف الحكومية. ولما كانت المعارضة ضد فرض الضرائب القسرية هي المحرك وراء التحول الديمقراطي في الغرب، اذن فكل من الرعاية والمحسوبية وغياب العبء الضريبي الشاق عن كاهل شعوب بلدان الشرق الأوسط، يمكن ان يفسر فشل المواطنين في هذه البلدان في السعي الى الحصول على مشاركة أكبر في الحكومة.
يساهم الدخل الريعي في قدرة القائمين على الحكم السلطوي المستبد على الحصول على أجهزة امن ضخمة وفعالة. ان القدرة المالية امر جوهري من اجل مكافأة أولئك الافراد الذين يشتمل عليهم جهاز الدولة المتعسف. وتتميز منطقة الشرق الأوسط بالنسبة العالية للإنفاق الحكومي المكرس لقوات الامن وذلك مقارنة مع غيرها من المناطق.
في كتابها "السلطوية.. ما يجب أن نعرفه" تحدد المؤلفة إريكا فرانتز النظام السلطوي بأنه مجموعة من القواعد الرئيسة، الرسمية وغير الرسمية، التي تحدّد من له أن يؤثر في خيارات الحكام والسياسات، بما في ذلك القواعد التي تحدّد الدائرة التي يُختار منها الحكام، ويكون النظام سلطوياً متى ما انتزعت الذراع التنفيذية فيه السلطة بطرائق غير ديمقراطية، أي بطرقٍ غير الانتخابات الحرّة والنزيهة، أو إذا وصلت الذراع التنفيذية بانتخابات حرّة ونزيهة، ولكن بعد ذلك قامت بتغيير القواعد، بما يفرض قيوداً على أي منافساتٍ انتخابية آتية، سواء تشريعية أم تنفيذية (مثلما حصل في كينيا في عام 1963 وزامبيا عام 1996 وتركيا بعد وصول حزب العدالة والتنمية عام 2002). وعليه، يضع الكتاب وجود انتخابات حرّة ونزيهة معيارا تتمايز فيه الأنظمة السلطوية عن غير السلطوية، بوصفه معياراً يحدّد مسار وصول الحكومة إلى السلطة.
وتركز المؤلفة على أهم الاستراتيجيات التي يعمل بها حكام الأنظمة السلطوية لصون هيمنتهم، فجميع رؤوس الأنظمة السلطوية يجمعهم هدف البقاء في السلطة أطول فترة ممكنة، أو "إلى الأبد". وعليه، يسعى حكام هذه الأنظمة إلى توطيد سيطرتهم على كل ما يمكن من أدوات سياسية خلال فترة حكمهم، مثل المناصب العليا العامة، وصناعة السياسات والقوى والأجهزة الأمنية، ونجح بعضهم في تحقيق مسعاهم بالسيطرة على كل مفاصل الدولة.
وتظهر الأبحاث سبع طرق تصل بها الأنظمة السلطوية إلى الحكم، وهي استيلاء عائلة على الحكم، والانقلاب العسكري، والتمرد، والانتفاضة الشعبية، و"التسلط" (تغيّر النظام نفسه)، وتغيير القواعد بما يغير تركيبة الكتلة الحاكمة، وتنصيب نظام سلطوي على يد قوة خارجية. كما تظهر أن الانقلابات العسكرية، التي يقوم بها ضباط في الجيش، هي أكثر طريقة استخدمتها الكتل الأوتوقراطية للوصول إلى الحكم وإقامة أنظمة أوتوقراطية، مثل التي حدثت في كل من مصر والعراق واليمن وتشيلي وكمبوديا وأفغانستان وبوروندي والكونغو وسواها. إضافة إلى وجود حالاتٍ لأنظمة ديكتاتورية تصل إلى السلطة أيضاً عندما تدعم قوى الاحتلال والقوى الأجنبية حاكماً غير منتخب أو عندما تغيّر الأحزاب المنتخبة القواعد لمنع إجراء انتخابات حرّة، أو عندما تخرج، بشكل مباشر، من الحركات والانتفاضات الشعبية، مثلما حصل في ثورة إيران عام 1979 التي أعقبها قيام نظام ثيوقراطي، وحصل كذلك في الانتفاضات التي عمّت أرمينيا عام 1998، وتبعها وصول روبرت كوتشاريان إلى منصب رئاسة أرمينيا.
تتناول فرانتز في كتابها سيناريوهات رحيل الأنظمة السلطوية وانهيارها، حيث قد يؤدي ذلك إلى قيام نظام ديمقراطي يحل محل النظام السلطوي، أو قد ينشأ من ركام النظام السابق نظام سلطوي جديد. وتلاحظ أن نسبة حدوث كلا السيناريوهين تكاد تكون متساوية. الانقلابات هي أول وأكثر طرق انهيار هذه الأنظمة شيوعا، وقد تسقط هذه الأنظمة بالانتخابات، ويحصل ذلك لأن الحاكم الحالي لم يخض الانتخابات، أو قرر التنحي عن الحكم، أو أنه خاض الانتخابات ولم تكلل حملته بالنجاح ومن ثم تقبّل خسارته.
وفي الختام، تذكر المؤلفة أن الأنظمة السلطوية لن تختفي قريباً، وأن أكثر من 40% من سكان العالم يعيشون في ظل أنظمة سلطوية، بما يعني أن ثلث دول العالم تحكمها أنظمة سلطوية، وهو ما يعدّ انخفاضاً في عددها، مقارنة بعددها خلال حقبة الحرب الباردة، وهناك بعض المؤشّرات التي تدل على استمرار انخفاض عددها. ولكن المهم بالنسبة إلينا في المنطقة العربية أن يساعدنا الكتاب على فهم السياقات السياسية في هذه الأنظمة التي تحكم بلداننا.
اضف تعليق