يعيش السعادة الطيبة والرفاه الطيب بالنسبة للإنسان إن تحرك لتحقيق الانسجام مع النظام الكوني والعيش في إطار عملية التوازن، لأن التوازن الإلهي هو الذي يجعل الإنسان سعيدا مرتاحا في حياته مستقرا، وهذا ما يمكن تسميته بـ (الاعتدال)، فالاعتدال في الحياة هو الذي يجعل الإنسان متوازنا. فالتوازن هو تحقيق...
في مقالات سابقة تطرقنا الى عدة موضوعات ضمن محور (من هو المسلم)، وذكرنا بأن الإنسان رهينة لكل ما يكتسبه من كسبه واكتسابه، فالإنسان بما كسبت نفسه رهينة، وتطرقنا أيضا إلى أن هناك فروقا بين المسلم الجوهري والمسلم الظاهري، وحددنا العناصر التي تفصل بينهما. وتطرقنا إلى أن المسلم لابد أن يعيش في إطار الغايات ويخرج من أغلال العبث، وفي تكامل هذا الموضوع وهذه السلسلة نصل إلى محور جديد وهو (المسلم بين الاعتدال والتطرف).
التوازن الكوني
من أهم النقاط التي تجعل الإنسان ناجحا في حياته وخصوصا الإنسان المسلم، هو تحقيق الانسجام مع قوانين النظام الكوني، فالنظام الكوني يقوم على التوازن الدقيق، وقد جاء في الآيات القرآنية الكريمة: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) القمر49-47. هذا الكون محسوب بدقة كالرياضيات، واحد+واحد= اثنين، محسوب بدقة وقدر متناهٍ في قضية خلق هذا الكون وصناعته وتصميمه، بحيث أصبح كل شيء يكون بقدر معين ومقدار واضح.
فهذا الكون المنظَّم يسير بعملية متوازنة، وفي سلسلة من عالم الأسباب والمسببات، ولا يمكن خرق هذه القواعد والقوانين الكونية، لأنه لو خُرِقَتْ هذه القوانين الكونية كما تقول الآية القرآنية (ذوقوا مسَّ سقر) وسقر مكان موجود في جهنم.
و(إن المجرمين في ضلال وسعر)، فالإنسان عندما ينحرف عن القانون والنظام الكوني، ويخرج عن دائرة التوازن، يكون ضالا ومنحرفا، وبالنتيجة فإن الضلال يقود الإنسان إلى العذاب في الدنيا، وإلى العذاب الكبير في الآخرة، لأنه يقوده نحو مسيرة سيّئة إجرامية، ليس فيها قواعد وحدود وقوانين، وبالنتيجة تكون مخالفة للقانون الكوني ولنظام الكون، (وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ) الرعد 8، أي حساب وكتاب.
والإنسان في هذا الكون شاء الله تعالى له أن يكون مختارا مريدا حرّا في حياته، على خلاف القانون الكوني الذي هو قانون حتمي طبيعي ليس فيه إرادة حرة، على عكس الإنسان، لذلك هذا الإنسان إذا أراد أن يعيش في إطار النظام الكوني، وهو مختار حرّ لابد أن يكون ملتزما ومنسجما مع موازين هذا الكون حتى يستطيع أن يعيش سعيدا آمنا مستقيما في حياته، بعيدا عن العذاب والالم والمعاناة.
وفي مقابل ذلك يعيش السعادة الطيبة والرفاه الطيب بالنسبة للإنسان إن تحرك لتحقيق الانسجام مع النظام الكوني والعيش في إطار عملية التوازن، لأن التوازن الإلهي هو الذي يجعل الإنسان سعيدا مرتاحا في حياته مستقرا، وهذا ما يمكن تسميته بـ (الاعتدال)، فالاعتدال في الحياة هو الذي يجعل الإنسان متوازنا.
اختلال كفتيّ الميزان
فالتوازن هو تحقيق التوازن بين الكفَّتين، هنا كفة وهناك كفة، فإذا أفرط أو فرّط هذا الإنسان اختلت كفة الميزان وأصبح متطرفا.
وقد جاء في الآية القرآنية الكريمة:
(وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) الرحمن7-9.
الميزان: كل وسيلة تستعمل للقياس، قياس الحق من الباطل، أو العدل من الظلم والجور، أو قياس القيم والسلوك والمعرفة.
فالميزان هو المعيار والمقياس الذي من خلاله يعيش الإنسان حياةً مستقيمة، لذلك فإن كل الأنظمة والقوانين التي يعيش بها هذا الإنسان، لابد أن تكون منبثقة من النظام الكوني الإلهي ولا تكون نقيضا لهذا النظام الإلهي، فإذا حدث النقيض مع النظام الإلهي أصبح متطرفا مختلّا، أي حدث اختلال في كفتيّ الميزان.
فالميزان هو الاعتدال والعدل والمساواة بين الكفتين، هو التوازن المنسجم مع النظام الإلهي، لذلك فإن الله سبحانه وتعالى جعل الميزان، وهو يعني وسيلة تستعمل للقياس أو للمعايير، فإذا أردنا أن نعرف بأن هذا المعيار صحيح وهذا الشيء صحيح، نرجع إلى ميزان معين يقيس الشيء المعين أو الوزن المعين لمعرفة كمية أو مقدار الشيء.
فهل هذا الشيء يساوي كيلوغراما، أو اثنين أو مائة كيلو، فالإنسان لابد أن يعرف الوزن لكي يعرف ما الذي اشتراه وما هي قيمته ووزنه، وكم سيدفع في مقابل هذا الشيء الذي اشتراه، فالميزان هو معيار لوصف الأشياء ومعرفة الأشياء وتدقيقها حتى يتحقق التوازن، فإذا لا يقوم الإنسان بهذا الفعل، ولا يكون هناك معيار وميزان، فسوف تحدث الفوضى والصراع، لذلك فإن الميزان هو تحقيق للنظام والعدالة والمساواة وتحقيق للحقوق.
الموازين تحقّق العدالة
لذلك يقول تعالى: (ألّا تطغوا في الميزان)، أي لا تتجاوزوا الحدود، ولا تتجاوزا الميزان، اعملوا بالميزان، وأقيموا الوزن بالقسط، يجب تحقيق العدالة، ولا تخسروا الميزان، لأن الإنسان الذي يخسر الميزان، يعني ذلك أنه سوف يقود العالم أو المجتمع، أو نفسه إلى الظلم والتجاوز والطغيان والفوضى والاختلاف.
فالميزان هو الذي يحقق العدالة في مقابل الظلم، وهو الذي يحقق القيم الحقيقية التي تقود إلى السلوك الإنساني الناضج، الصحيح، السليم وإلى الأخلاق السليمة، وهو المعرفة الحقيقية في الحياة، بالطبع ذكرنا بأن الفرق بين النظام الكوني والنظام الإلهي، هو إن النظام الكوني حتمي وجذري ولكن يتعلق بالطبيعة والخلق والكون وقانون الطبيعة، أما النظام البشري فهو قائم على الإرادة والاختيار.
فلابد على الإنسان أن يختار سلوكه، وهذا هو معنى الاختبار والامتحان الإلهي، وتقول الآية القرآنية الكريمة: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات، الآية 56. هذه الإرادة معناها تأتي في اختيار الإنسان وإرادته من أجل الوصول إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، وهذه الآية تدل على اختيار الإنسان وإرادته الحرة.
كيف يتحقق الانسجام بين النظامين الإلهي والبشري؟
لذلك إذا أردنا أن نعرف مصدر كل المشكلات التي تحدث في عالم اليوم، فإن الأسباب ناتجة عن الاختلال في عدم التوافق بين النظامين الإلهي والبشري، ولكي نعرف معنى تحقيق الانسجام بين النظامين، وكيف نعرف الميزان، وكيف نتأكد من أن هذا الشيء أو المعيار هو ميزان بالفعل؟، فبعض الناس لا يعرفون الموازين، لذلك تكون تصرفاتهم طائشة وجاهلة.
لهذا يحتاج الإنسان إلى أن يفهم الميزان، وعندما يعرف الميزان فإن حياته سوف تكون صحيحة، لأن الميزان كالضوء الذي ينير للإنسان الدرب من بدايته حتى آخره، أما الإنسان الذي يسلك الطريق المظلم فسوف يكون إنسانا ضالا، ولا يستطيع أن يصل إلى غايته وهدفه، فلابد من وجود موازين أو أشياء نعرف من خلالها الموازين نوضّحها بالنقاط التالية:
الإنسان والعودة إلى المعايير
النقطة الأولى: لكي نعرف الميزان، ونحقق التوازن والاعتدال في حياتنا، لابد من وجود ميزان أو موازين يرجع إليها الإنسان ويلتزم بها لتحقيق الانسجام بين الإرادة الإنسانية والإرادة الإلهية، هناك موازين كثيرة يؤمن بها العقل ويفهمها، وهي موازين حتمية تضيء الطريق للإنسان، لكن هناك موازين اعتبارية يضعها البشر في ما بينهم لتحقيق النظام وتحقيق التفاهم والتعايش.
منها القوانين مثل قانون المرور الذي هو ميزان لتحقيق النظام في الشارع، فإذا اختلَّ قانون المرور يختل النظام في الشارع، لكن هناك موازين مادية ومعايير أساسية حتمية لابد للإنسان أن يرجع إليها حتى يحقق الانسجام مع النظام ومع الكون، ومن هذه المعايير الثقلين، كتاب الله، وعترتي أهل بيتي.
لماذا علينا قراءة القرآن دائما؟
القرآن الكريم كلّه معايير نرجع إليها، لذلك لابد من قراءة القرآن بشكل دائم، لأن الإنسان عندما يقرأ القرآن، فإنه يعرف في ضميره وفي داخله المعيار الذي لابد أن يؤمن به في حياته، لذلك عليه قراءة القرآن قراءة دقيقة وعميقة، وكذلك عليه الرجوع إلى أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، في أحاديثهم، ورواياتهم، وأخلاقهم حتى نعرف معايير الحياة الصحيحة، والحياة السليمة.
وإلا إذا لم يكن هناك معايير جيدة وقوية منبثقة من النظام الإلهي، بالنتيجة سوف تكون اختيارات الإنسان سيئة في حياته. وكذلك العقل الذي هو الحجة الباطنة التي وضعها الله تعالى للإنسان في داخله حتى يكون له مرشدا ومعيارا.
العقل مفتاح العلم والمعرفة
من الذي يقول إن العدل جيد، والظلم قبيح؟، إنه العقل الذي يقول ذلك، ومن الذي يقول إن الصدق جيد والكذب قبيح؟، إنه العقل أيضا يقول ذلك ويدركه، فهذه مدركات أساسية يفهمها العقل، من يقول إن الإيثار والعطاء والسلم الأمانة قيم ومعايير جيدة؟، إن العقل هو الذي يقول بهذه الأشياء ويدرك هذه الأشياء ويفهمها بدقة.
لذلك فإن العقل معيار أساسي لأن الحقائق المنبثة من العقل ليست نسبية كما يدّعي البعض، فهناك حقائق مطلقة والعقل يعرف ذلك، فإذا هذا الإنسان لم يدرك هذه الحقائق وفهمها بشكل مغلوط وخاطئ فإنه سوف ينحرف، فهناك حجب وموانع تمنع هذا الإنسان من فهم هذه القضايا وهذه المسائل، وهي من أكبر القضايا التي تحجب الإنسان عن إدراك قيم العقل، أو ان الإنسان هو الذي يحجبها عن نفسه ولا يريد أن يرجع إلى العقل، فيضع من خلال شهواته وأهوائه بعض المبررات والشكليات والادعاءات حتى يضع حاجزا بين عقله وبين الواقع ويدخل في عالم الظلم والظلام.
الضمير ينبثق من حقيقة الكون
أما العقل فهو يقول للإنسان بأن الظلم غير جيد، وأن العدل جيد، وأن الإصلاح جيد، والفساد غير جيد، لأنه يدرك ذلك جيدا، لذلك فإن العقل هو المعيار الذي يحقق التوازن عند الإنسان، والضمير حقيقة أساسية في داخل الإنسان، النفس اللوامة التي تؤنّب الإنسان، وتعذب الإنسان إذا ما أخطأ، فيتألم، ويتعذب، وتلومه نفسه، وضميره يؤلمه، لأنه معيار للتفريق بين الجيد وغير الجيد، بين الصحيح وبين غير الصحيح. (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) القيامة 2. فالضمير يتناسب مع حقيقة الكون وحقيقة التوازن الكوني.
القرآن الكريم كتاب الله، وأهل البيت (عليهم السلام)، والعقل، والضمير، والفطرة أيضا، هي قضايا أساسية يمكن من خلالها أن نعرف المعايير التي تخلق الانسجام بين الإنسان والنظام، فأهل البيت (عليهم) والعقل والضمير والفطرة يرشدون الإنسان إلى النظام الإلهي والقانون الإلهي.
توهم المعرفة
النقطة الثانية: المعرفة، إن المعرفة لها أهمية بالغة في فهم هذا التوازن، وإلا فإن الكثير من الاختلالات المتطرفة هي نتيجة للجهل، فالإنسان عندما لا يتعلم، ولا يسعى إلى التعلّم، ولا يقرأ كي يطلّع، ولا يذهب وراء العلم، سوف يكون جاهلا، وهنا سوف تختفي عنده الموازين، وتختفي عنده المعايير بشكل عام، إلا من يعطيه الضمير أو تعطيه الفطرة للدلالة على الموازين، وهم قلّة من الناس، وهؤلاء الناس الطيّبون الذين لم يتعلّموا فإن فطرتهم نقية وقلوبهم طيبة.
لابد للإنسان أن تكون عنده معرفة، ولا يبقى جاهلا، ولا يسمح أن يسيطر عليه الجهل، بالإضافة إلى أن هناك من هم مصابين بوهم المعرفة.
وسوف نتطرق إلى هذا الموضوع في المقال القادم، وسوف نكمل النقاط التي من خلالها سنعرف كيف نحقق التوازن في حياتنا، وكيف نحقق الاعتدال، وكيف نسير في الطريق الأوسط، أو في النمط الأوسط، كما أشار إلى ذلك الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام).
للبحث تتمة...
اضف تعليق