بدون تفعيل القطاع الخاص سنكون أمام حملة تظاهرات تطالب بالتعيين بعد أربع سنوات حيث تتخرج كتلة طلابية هائلة من الكليات الحكومية والأهلية، وبما أن التوظيف في القطاع الحكومي أصبح شبه مستحيل بسبب عدم تحمل الموازنة العامة، سيكون من الواجب النظر في مسألة تفعيل القطاع الخاص...
لا تريد حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني تكرار تجربة السيد عادل عبد المهدي الذي أجبرته الاحتجاجات الشعبية إلى الاستقالة من المنصب أواخر عام 2019، جل تركيز الحكومة الحالية أن تقلل الأسباب المؤدية للاحتجاج وقتل عملية الخروج ضد الحكومة في مهدها، وعلى رأسها الشباب المطالبين بالوظائف وتوفير فرص العمل.
عشرات الآلاف من حملة الشهادات العليا والخريجين الأوائل يحاصرون بوابات المنطقة الخضراء لأكثر من عامين، العدد بدأ يتزايد بعد إضافة خريجين جدد لم يحصلوا على فرص العمل، حيث المصانع تحولت إلى ساحات للعب الأطفال، والقطاع الخاص ضعيف وغير مستعد لاستقبال الشباب الباحثين عن العمل، لا يتبقى أمامهم سوى التوظيف في مؤسسات الدولة.
وافقت الحكومة أخيراً على تعيين 74 ألفاً من حملة الشهادات العليا والأوائل، حيث تم توزيعهم على الوزارات العراقية والهيئات الرسمية.
انتصار طال انتظاره بالنسبة لحملة الشهادات العليا والأوائل ضد السلطة الحاكمة في العراق من خلال انتزاعهم اعترافاً رسمياً بوجودهم بعد مدة طويلة من التظاهر أمام بوابات المنطقة الخضراء المحصنة.
لكن السلطة الحاكمة لم تخسر أي شيء، بالعكس هي استفادت في جانبين:
الأول: تحويل زخم تظاهرات حملة الشهادات إلى زخم معاكس يعزز موقعها كسلطة قادرة على الإنجاز من خلال تعيين 74 ألف مواطن.
الثاني: التخلص من حراك اجتماعي شبابي كان يمكن تحوله إلى شرارة لانتفاضة كبرى ضد الحكومة في أي لحظة.
قد لا نبالغ إذا قلنا أن الحكومة استطاعت تفكيك تنظيم احتجاجي هائل، وسحبت جزءاً كبيراً من أي قوة احتجاجية قد يتاح لها الظهور خلال الشهور القادمة، لأن التنظيم الاحتجاجي الشبابي للخريجين وحملة الشهادات كان مهيئاً ليكون بذرة لحركة احتجاجات أوسع، وتفكيكه وأدٌ للاحتجاج واستبعاد لحدوثة لمدة زمنية معينة.
استطاعت الحكومة قتل البذرة قبل أن تكبر وتنمو، تفككت خيام المتظاهرين لحملة الشهادات، وانتهى التنظيم الاحتجاجي، والخريجون الجدد الذين سوف يعانون كما عانى من سبقوهم يحتاجون إلى شهور وربما سنوات لكي يعيدوا تنظيم أنفسهم من جديد.
تفرغت الحكومة من ملف الشهادات العليا الضاغط، وتحولت إلى ملف أكبر وهي قضية تثبيت المحاضرين المجانيين في وزارة التربية، حوالي ربع مليون محاضر ينتظرون التثبيت في المدارس العراقية، يتظاهرون في كل محافظة للمطالبة بالتثبيت، وأعدادهم كبيرة، وأصبحت لديهم قوة احتجاج هائلة من خلال استغلال نقص أعداد التدريسيين في المدارس، وازدياد الاعتماد عليهم.
كلما شعروا بمحاولات تنصل الحكومة عن وعودها، نزلوا يتظاهرون في الشوارع أو هددوا بالإضراب عن التدريس.
لا مجال للحكومة إلا تثبيتهم على الملاك الدائم.
يبدو أن تثبيت المحاضرين يمضي بشكل سلسل على موازنة عام 2023، الكتب الرسمية تؤكد هذا الأمر، والتوجه الحكومي واضح، تفكيك جميع بؤر الاحتجاج المطالب بالحقوق في التوظيف لا سيما مع وجود الوفرة المالية المتولدة من صعود أسعار النفط.
لا يتبقى للحكومة إلا فئة صغيرة، هم أصحاب عقود (315) الموزعين على الوزارات ودوائرها في المحافظات، ما يزالون مشتتين وغير منظمين، لا تعتبرهم الحكومة قوة احتجاجية، وما يزال من المبكر التفكير بتثبيتهم، الحكومة لا تعتبرهم أولوية الآن، لكنها قد تثبتهم في حال الانتهاء من قضية ربع مليون محاضر مجاني.
وفي حال انتهاء إجراءات تعيين حملة الشهادات العليا والخريجين الأوائل، ثم تثبيت المحاضرين المجانيين في وزارة التربية، ويضاف لهم تثبيت أصحاب عقود 315، ستكون الحكومة قد أضاف ما يقرب من نصف مليون موظف يعتمدون في رواتبهم على الموازنة التشغيلية العامة للدولة.
بهذه القرارات تتخلص الحكومة من ضغط اجتماعي وسياسي هائل، وقد تستطيع تأمين نفسها من الاحتجاجات المطالبة بحقوق التوظيف وفرص العمل طوال ولايتها كاملة، لكنها وضعت نفسها والحكومات القادمة أمام أكبر تهديد اقتصادي ومالي.
من يضمن استمرار صعود أسعار النفط، ولماذا لا نتوقع حدوث هزات كبيرة في الأسعار كما حدث خلال السنوات السابقة.
وماذا عن تفعيل القطاع الخاص، فعملية التوظيف هذه تتناقض مع تعهدات رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بتفعيل دور القطاع الخاص.
يتضع من قرارات الحكومة الحالية أنها لا تعطي أهمية للقطاع الخاص، وهي تسير على نفس أسلوب حكومة السيد نوري المالكي التي فتحت أبواب مؤسسات الدولة أمام التوظيف فأثقلت كاهل الموازنة العامة بكتلة رواتب هائلة.
لا نعترض إطلاقاً على حصول شباب العراق من الخريجين وحملة الشهادات العليا على فرصة للتعيين في مؤسسات الدولة الرسمية، لكننا نطالب بتوفير الفرص لهم في القطاع الخاص وبما يهيء لهم ممارسة اختصاصاتهم بشكل أفضل في المؤسسات الخاصة.
من الخطأ التركيز على القطاع العام وإهمال القطاع الخاص، فالشباب لم يتظاهروا أمام بوابات المنطقة الخضراء إلا لأن الحكومة قد أغلقت أبواب العمل في القطاع الخاص.
بدون تفعيل القطاع الخاص سنكون أمام حملة تظاهرات تطالب بالتعيين بعد أربع سنوات حيث تتخرج كتلة طلابية هائلة من الكليات الحكومية والأهلية، وبما أن التوظيف في القطاع الحكومي أصبح شبه مستحيل بسبب عدم تحمل الموازنة العامة، سيكون من الواجب النظر في مسألة تفعيل القطاع الخاص لكي لا تضطر الحكومة القادمة إلى اتخاذ قرارات أخرى للهروب إلى الأمام.
اضف تعليق