لم يعتد الصينيون الانغماس في مشكلات العالم خارج حدود الجوار الجغرافي لبلاد التنين الاصفر، فسياستهم الخارجية التزمت مبدأ الاستفادة من الازمات والمشكلات ذات الطابع الاقليمي، دونما ازعاج شديد لطرفي الازمة، فالصين كانت تنتهج سياسة الصداقة مع الجميع، ولم تتورط في نزاعات حادة خارج نطاق ما يسمى بالهند الصينية...
لم يعتد الصينيون الانغماس في مشكلات العالم خارج حدود الجوار الجغرافي لبلاد التنين الاصفر، فسياستهم الخارجية التزمت مبدأ الاستفادة من الازمات والمشكلات ذات الطابع الاقليمي، دونما ازعاج شديد لطرفي الازمة، فالصين كانت تنتهج سياسة الصداقة مع الجميع، ولم تتورط في نزاعات حادة خارج نطاق ما يسمى بالهند الصينية، ربما الان جوارها الجغرافي مساحة النفوذ، التي ترفض بكين ان ينافسها فيها قطب دولي او إقليمي.
في عام 2013 طرحت الصين مشروعها الاستراتيجي الأكبر لاختراق مساحات النفوذ الدولية، أنه مشروع الحزام والطريق، المشروع الطموح الذي يستثمر في الممرات البرية والبحرية من بلاد الصين إلى أوروبا، بهدف التسويق الأسرع للمنتجات الصينية، فالصين غدت مصنع العالم الاكبر ومركز سلاسل التوريد، والقاطرة الجديدة التي تحرك الاقتصاد العالمي، فضلا عن انها قطب تكنولوجي دفاعي جديد، يجتذب الهاربين من الارتهان لتكنولوجيات الغرب الباهظة واشتراطاتها الأمنية والسياسية.
لم يمض وقت طويل حتى قرعت أميركا وأوروبا أجراس القلق من النفوذ الصيني المتصاعد، وراحت استراليا ونيوزيلندا واليابان وكوريا الجنوبية والهند وأوروبا تساير خطوات أمييكا في التعبير عن القلق من النفوذ الصيني، يومها دخلت طهران المحاصرة بالعقوبات الأميركية والضغوط الاوروبية على الخط الاخر، خط الترويج للعالم الجديد، عالم بزعامة الصين المزدهرة التي تلحق بأميركا بسرعة، لتنتزع منها صدارة الدولة الاولى والقطب الاعظم، وقعت إيران اتفاقات كبيرة مع الصين بقيمة 450 مليار دولار تمتد لعشرين أو خمسة وعشرين عاما.
وانطلقت عاصفة التأييد من كل القوى والجهات الكارهة للقطب الأميركي، والمرحبة بالقطب العالمي الجديد الذي لم تتلوث سمعته بالاستعمار القديم والجديد، بل كانت الصين أحد اكبر ضحايا المشاريع الاستعمارية في المئتي عام الاخيرة.
موضع الاثارة كان في موجة الشعبوية السياسية والاعلامية التي اجتاحت منطقة الشرق الأوسط، والتي بشرت بنهاية وشيكة للقطب الأميركي العنيف، وبداية واثقة للقطب الصيني المسالم!، اختارت الصين الاقتصاد والاستثمار والقروض، وتنمية جانبي طريق الحرير الجديد، وتشغيل الملايين في الموانئ والسكك الحديد والمصانع والنقل البحري.
لم نتأخر نحن في العراق الالتحاق بالمرحبين والمعولين على المقاول الصيني الصبور، قليل الكلف والمتطلبات، وسارع بعضنا إلى الحديث عن اتفاقية عراقية - صينية ليس على شاكلة الاتفاقية الصينية الايرانية، لكنها كانت عصفورا كبيرا تلوح به الايدي القابضة على خنجر مقاومة الوجود الاميركي في الشرق الاوسط، بعد استقالة حكومة عادل عبدالمهدي عام 2019 إثر الاحتجاجات الضخمة التي لم يسبق أن شهد العراق مثيلا لها، قيل الكثير عن اسباب الاستقالة، لكن قوى سياسية اختارت أن تروّج لمقولة التدخل الأميركي الذي اسقط الحكومة، لأنها وقعت الاتفاقية المزعومة مع الصين، فواشنطن لا تريد للصين تهديد هيمنتها والاقتراب من مناطق نفوذها، غير أن هذا السبب لم تثبت صحته لغاية الساعة، وبقي جزءا من سردية صراع الدبين الأميركي الصيني على مناطق النفوذ.
بانعقاد القمة الخليجية الصينية، والقمة العربية الصينية في الرياض في التاسع من ديسمبر عام 2022، أفاق العالم على موقف صيني جديد لم يكن مسبوقا بخطوات تمهيدية، فقد تطابقت وجهتا النظر الصينية مع السعودية وباقي دول الخليج من ايران المشغولة بالعقوبات والاضطرابات الداخلية، وتصاعدت لهجة ايرانية غاضبة ومنفعلة من الصين، كما لو كانت الخطوة الصينية لدغة عقرب سامة أصابت الآخرين بالهذيان والهلوسة، ووجدنا من يحذر من التعويل على الصين و(غدر) الصينيين وعدم موثوقيتهم، وأنهم فضلوا مصالحهم الاقتصادية على الالتزام بمواقف سياسية مبدئية، كانت الدهشة من براغماتية صينية غير معهودة سببا لانفعال وغضب عارم من بكين التي تخطو بثبات، نحو ترسيخ قطبيتها العالمية في قبال القطب الأميركي الآفل والمتراجع، والقطب الروسي المفترض، الذي اثبت عجزه وفقره في ساحة المنازلة الاوكرانية.
ولم تعد الحسابات الموضوعية تعترف به قطبا واقعيا. نحن بازاء صين جديدة تستعد لمنافسة أميركا عمليا، دون ان تورط نفسها في حروب وسباقات تسلح، بل عبر المال والتمدد إلى اسواق الطاقة والترويج للاقتصاد الأخضر، والطاقة النظيفة وتكنولوجيا الجيل الخامس للاتصالات والابتكار.
ما الذي جعل البعض من الشرق أوسطيين يستغرب من نجاح السعودية في استمالة القطب الصيني الصاعد لتوازن به علاقاتها التاريخية مع أميركا؟ وما الجديد الذي أدهشت به الصين المصفقين لصعودها وجعلتهم يعيشون صدمة نفسية مباشرة؟
لا شيء غير متوقع من الصين بكونها دولة باحثة عن مصالحها، تقتنص الفرص وتفاضل بين الدول والأنظمة السياسية والساحات الاقليمية الاكثر إغراءً وأقل كلفة، فجميع امبراطوريات العالم تتصرف بنسق واحد حين يتعلق الامر بالمصالح والنفوذ، وكلها على منهج واحد في الاستجابة لضغوط الموقف والواقع.
ليس العيب في السلوك الصيني الذي ظهر في اكثر من مناسبة، براغماتيا وانتفاعيا للغاية، إنما العيب في العقلية المؤدلجة التي تتخيل العالم وفقا لرؤيتها وسرديتها، ثم تتفاجأ بأن العالم القوي لا يشاطرها الرغبات والاصطفافات والشعارات، لا شك أن عالمنا عالم مادي لا وجود لقيم مثالية فيه، ولم يحفل هذا العالم بأخلاقيات عملية مطلقة للعدل والمساواة، بل أن العلاقات الدولية ظلت ميدانا لنظريات وافكار مختلفة، ليست القيم والمبادئ ضمن أولوياتها الكبرى، وغن استُخدمت ذريعة لخدمة استراتيجيات ومشاريع الدول الكبرى، فيوما لتحديث العالم، وآخر لدمقرطته، وثالثا لحقوق الانسان، ورابعا لمكافحة الفقر والتغير المناخي، وخامسا لحماية الكوكب من المآسي والحروب، لكن هذه الإنسانوية لها انحيازاتها وتطبيقاتها الثقيلة الممجوجة، والملتحمة مع أغراض التدخل بشؤون الآخرين وبمعايير مزدوجة.
عالمنا يتغير، وهو يتغير بسرعة، لكن العالم الجديد بقطبية صينية اميركية، ام بغيرها، لن يختلف اخلاقيا وقيميا عن العوالم السابقة، من يريد العيش بمثاليته عليه أن يختار معركته بقدر امكاناته وقدرته على التمسك بها.
لا معنى لثقة نهائية بين الدول، بل مصالح متغيرة وحسابات متجددة، فبينما تتركز انظار العالم على التوتر الصيني الأميركي المنضبط بعقلانية الحسابات، كان مستشار المانيا ذو الوجه والملامح الهادئة يتحدث عن نقاط التحول في العقلية الدفاعية والسياسية الالمانية، يوم الخامس من ديسمبر 2022، كتب شولتس البارد في دورية (الشؤون الخارجية) الأميركية، داعيا إلى قضية في غاية السخونة السياسية والاستراتيجية، شولتس يدعو إلى عالم متعدد الاقطاب، بالضبط كما يريد الصينيون والروس والهنود والبرازيليون والافارقة والعرب، القطب الجديد- القديم هو أوروبا المتوحدة بزعامة ألمانيا، التي غدت ضامنة للأمن الأوروبي والقائدة لاقتصاد القارة العجوز، مشروع مثير ومهم لصناع الخطط الاستراتيجية، أوربا بعد حرب روسيا على أوكرانيا تشعر انها ينبغي أن تأخذ زمام المبادرة، حتى لو كانت تسير في نطاق الناتو خلف أميركا.
أوروبا لا تزال حيوية، صحيح ليست بحيوية واندفاع الصين، لكن الصين نهضت بفكر أوروبا والغرب ولا شيء غير الاقتصاد والمال تقدمه الصين للعالم، بينما القيادة العالمية تحتاج إلى الفكر والقيم والمعارف والتكنولوجيا والابداع مثلما تحتاج إلى الحريات والحقوق الإنسانية.
اضف تعليق