المتغير الآخر المهم فهو النفط الذي يمثل عصب الاقتصاد الخليجي والعالمي. أن دول الخليج العربي تدرك أن أمامها فرصة زمنية محدودة للاستفادة من إمكاناتها النفطية لذا فقد مضت بعيداً في تنويع مصادر دخلها من جهة واستثمار نفطها من جهة أخرى...
فشلت أميركا أذاً في أدراك مدى القلق الأمني الذي تشعر به دول الخليج العربي نتيجة العوامل التي ذُكرت سابقاً، كما أنها فشلت في أدراك مدى قدرة تلك الدول على المناورة والابتعاد عن الخضوع التام لمتطلبات الاستراتيجية والمصالح الأميركية.
ترافق هذا الفشل مع جملة متغيرات محلية ودولية مهمة ساعدت دول الخليج على الاقتراب أكثر من موقف الحياد الاستراتيجي. فدول الخليج تدرك أن الصين أو سواها من القوى العالمية غير قادرة، للآن على الأقل، ان تنافس أميركا في مجال توفير مظلة الأمن لها.
لذلك يجب أن لا يُفهم الموقف الخليجي على أنه طلاق بائن بقدر ما هو كسب لمزيد من المرونة الاستراتيجية من جهة وأرسال رسالة واضحة وقوية لأميركا من جهة أخرى. أن أهم المتغيرات المحلية التي حصلت خلال السنوات القليلة الماضية هي تواجد قيادات خليجية شابة تعرف الغرب جيداً وتمتاز بعقلية أقل تحفظاً وأكثر استعدادا للمناورة والبراغماتية، ولها رؤية واضحة وطموحة (جداً) بخصوص مستقبلها.
لقد تجلى هذا التغير المهم في تركيبة منظومة الحكم الخليجية في أكثر من مناسبة مثل ما سمي بالاتفاق الإبراهيمي، ورفض الأمارات للتصويت ضد روسيا في الأمم المتحدة، ورفض السعودية لتخفيض أسعار النفط. مثل هذه المواقف كان لا يمكن حتى مجرد التفكير بها قبل عقدين من الزمن.
وعلى الرغم من التنسيق المستمر بين دول الخليج العربي في سياستها ومواقفها الخارجية الا ان المنظومة الجماعية فيها باتت تعتمد بشكل أكبر على المتطلبات العملية والمصالح الذاتية والرؤية المستقبلية لدولها منفردة وليس مجتمعة.
لقد قل دور منظومة التعاون الخليجي ومؤسساتها بشدة خلال العقد الماضي وصار من الصعب أملاء سياسة خارجية موحدة على دول الخليج العربي. كما قل تأثير مؤسسات الحكم وصنع القرار التقليدية المنافسة لحكام الخليج.
من جهة أخرى فقد وسعت هذه القيادات من شبكة علاقاتها ومجساتها داخل عواصم القرار المهمة كواشنطن ولندن والاتحاد الأوربي بشكل لا يزيد فقط من تأثيرها هناك بل يوفر لها معلومات مهمة من داخل تلك العواصم عما يمكن أن تجابهه من قرارات. فالسعودية مثلاً تعرف أن هناك تياراً قوياً داخل واشنطن يدفع باتجاه تأزيم العلاقات معـــــها وهو الذي جعل الإدارة الأميركية تعلن عن أجراء مراجعة شاملة للــــــعلاقات السعودية الأميركية في شهر أكتوبر الماضي في أعقاب رفض السعودية الطلب الأمريكي بتخفيض أسعار النفط.
عصب الاقتصاد
أما المتغير الآخر المهم فهو النفط الذي يمثل عصب الاقتصاد الخليجي والعالمي. أن دول الخليج العربي تدرك أن أمامها فرصة زمنية محدودة للاستفادة من إمكاناتها النفطية لذا فقد مضت بعيداً في تنويع مصادر دخلها من جهة واستثمار نفطها من جهة أخرى.
ان مشاريع نيوم السعودية، والفضاء والموانئ الإماراتية، والتنمية والتجارة الخارجية القطرية هي شواهد مهمة على أدراك تلك الدول لأهمية الإسراع بإيجاد موارد بديلة. هذا يعني الحاجة الى تنويع الشراكات الاقتصادية العالمية.
من جهة أخرى فأن تقلص أهمية النفط الخليجي لأمريكا بسبب شبه الاكتفاء الذاتي الذي باتت تتمتع به بعد تطويرها لحقول النفط الحجري فضلاً عن اتجاهها المتزايد نحو مصادر الطاقة البديلة يجعل دول الخليج العربي تعيد النظر في شراكتها الاقتصادية مع أميركا. يكفي هنا الإشارة الى أن واردات النفط الأميركية من السعودية انخفضت بمقدار الثلثين خلال العقد الماضي لتصبح حوالي نصف مليون برميل يومياً الآن مقابل حوالي مليوني برميل استوردتها الصين في الشهر الماضي.
وفي الوقت الذي بلغ فيه الميزان التجاري للسعودية مع أمريكا حوالي 39 مليار دولار وبفائض مقداره 9 مليار لصالح أمريكا، فأن الميزان التجاري للسعودية مع الصين بلغ حوالي ضعفي التجارة مع أمريكا وبفائض مقداره 3.4 مليار دولار لصالح السعودية.
كما أن المؤشرات الاقتصادية تشير الى ارتفاع ملحوظ متوقع في حجم التبادل التجاري الصيني الخليجي (وبالذات السعودي) في أعقاب الخروج التدريجي للصين من تبعات الجائحة ومحاولتها الإسراع لتعويض ما فاتها من جهة والخروج من مشاكلها الاقتصادية من جهة أخرى. مع كل ما سبق، فأن الدافع الأهم لهذه الشراكة الاستراتيجية بين الســـعودية (ومن ورائها معــــــــــظم دول الخليج) والـــــصين هو الــــهاجس الإيراني.
اذ يبدو واضحاً من خلال ما استعرضته في المقال السابق أن دول الخليج تنظر الى أيران بأنها التهديد الأمني الرئيس لها. لقد أثبتت أميركا، الشريك الاستراتيجي الأمني الوحيد لدول الخليج، أنها غير قادرة على الحد من التوسع الإيراني في المنطقة.
كما لم تستطع تلك الدول الحد من نفوذ ايران عبر الحوثيين، على حدودها الجنوبية بخاصة وأن الحرب هناك لم تؤدي للنتيجة الاستراتيجية التي كانوا يأملونها، بل بالعكس زادت من المخاطر الأمنية على دول الخليج. حتى العقوبات الأميركية وسياسة الضغط الأقصى والانسحاب من الاتفاقية النووية لم تؤدي للنتائج التي كانوا يرجونها.
لذا يأمل السعوديون والإماراتيون تحديداً أن تسهم هذه الشراكة الاستراتيجية مع الصين في تسليط مزيد من الضغوط(بخاصة الاقتصادية) على أيران التي تعد الصين رئتها الاقتصادية الأهم. يبدو أن أيران قد التقطت هذه الإشارة وأن عودة سريعة للمباحثات الإيرانية السعودية باتت وشيكة ومتوقعة. باختصار فأن السعودية على ما يبدو تنوي إكمال طوق الضغط على الاقتصاد الإيراني وصولاً لصفقة كبرى مع أيران تلبي كل الهواجس الأمنية الخليجية. لكن يبقى السؤال المهم عن طبيعة الشراكة الصينية الخليجية المتوقعة ومدى انعكاساتها على العراق وهو ما سنستعرضه لاحقاً.
اضف تعليق