إذا بقي المواطن على هذا التعامل البارد مع حقوقه في الحرية سوف يفقد ما تبقى له من مميزات ضئيلة للديمقراطية، وسوف نشهد على مجموعة من التقلبات السياسية التي تقربنا أكثر للحكم الاستبدادي. انظر من حولك وتأمل طبيعة النظام العام، هل تحكمه الأنظمة والقوانين، أم الأهواء والرغبات الشخصية للموظفين والسلطات العامة؟...
السؤال عن الديمقراطية في بلد مثل العراق، هو مراجعة لعقدين من الزمن أمضيناها رفقة النظام السياسي المبني على ركام ديكتاتورية لفظت أنفاسها خقناً بين يدي قوات أجنبية عام 2003.
يتضمن السؤال الرئيسي ثلاثة تساؤلات فرعية:
كيف بُنيت التجربة الديمقراطية في العراق؟
وكيف سارت طوال السنوات العشرين الماضية؟
وما يتوقع أن يحدث لها في المستقبل؟
مرحلة التخطيط للبناء ثم وضع اللبنات الأولى قد تكون الأهم في أي تجربة سياسية، وربما تأخذ سنوات طويلة من النقاشات والمداولات بين المعنيين بهذا الشأن.
من له حق المشاركة في عملية التخطيط، ومن سوف ينفذ الخطة، وما هي معايير التنفيذ.
المشاركون في التخطيط لبناء الدولة يرشحون من قبل الشعب، تجري عملية الترشيح بإدارة المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق، وبرعاية أميركية تامة.
الإشكالية أن الشعب ما يزال تحت تأثير الظلام، الشعب شبه السجين الذي يخرج من زنزانة الديكتاتورية المظلمة إلى أنوار الانفتاح الديمقراطي الساطعة.
لم يستطع الشعب التنفس بهدوء ليجد نفسه أمام خيار تأريخي، نحن الآن ضحية ذلك الاختيار الشعبي في ظل بيئة غير مناسبة.
جرت كل العمليات السابقة لإقرار الدستور تحت خيمة الولايات المتحدة الأميركية حيث اختفى أثر النظام السابق، جاءت واشنطن بمجلس حكم محلي الولادة، أجنبي التنشئة، لدى أعضائه من العقد النفسية والسياسية الكثير.
ينتهي دور مجلس الحكم، وتولد من بطنه جمعية وطنية انتخبها شعب تَعَوّد أن يأخذ هذه الممارسة الديمقراطية على أنها غلاف فقط، الانتخابات بالنسبة للشعب هي تنفيذ الأوامر وانتخاب ما تريده السلطة العليا حيث يجب أن تأتي نتيجة الاقتراع بنسبة 99%.
من كتبوا الوثيقة الوطنية الأهم "الدستور"، نسجوه بطريقة لا تلائم دولة ديمقراطية، بل دولة مبنية على شكل شجرة، له ثلاثة فروع، فرع للسنة وآخر للكرد، وثالث للشيعية.
كل مكون اجتماعي يسمى "بيت"، وتقسم الوظائف ويتسلسل التقسيم من الوزراء والمدراء العامين، ويتسرب إلى أبسط الوظائف من شمال العراق إلى جنوبه.
تسير الأمور على هذا المنوال، يسميها الحكام بأنها حقوق المكونات، ويسميها المعارضون "نظام المحاصصة"، أو "المقاطعات الحزبية للنظام الأوليغارشي".
تكبر المقاطعات الحزبية والسلطة والقوة لدى الحكام، مقابل تضاؤل قوة الشعب في تقرير من يصلح أو لا يصلح للصعود إلى قمة هرم السلطة، كما أن الشعب ما يزال يعاني من أثر الأضواء الساطعة للديمقراطية، وفي نفسه حنين دائم إلى ظلمات الديكتاتورية التي تعفيه من مسؤولية تحديد مصيره.
التجربة الديمقراطية محاصرة بين تعاظم قوة الأحزاب والقوى غير الديمقراطية، وبين جدار قلة الوعي الشعبي بأهيمة تحمل المسؤولية كضريبة للحرية الممنوحه له.
والقوى الناشئة من ظروف غير طبيعية شوهت النظام العام، والمواطن الذي فقد السيطرة على صوته الانتخابي وأعطاه لمن لا يستحق، هو ذاته بدأ يعاني في كل شيء تقريباً.
لا يسمح للمواطن بالتعبير عن رأيه في الإجراءات الرسمية غير العادلة، فإذا كانت غير عادلة لك بالنسبة إلى قانون العدالة المطلق، فهي عادلة بالقياس إلى قواعد المحاصصة وتقاسم الحصص، وأي انتقاد لممارسة سياسية معينة يمثل اعتداء على النظام العام وإهانة للدولة.
لا يتعلق الأمر بالقضايا الكبرى فحسب، يتسرب إلى أمور بسيطة، في المعاملات اليومية لنا مع موظفين مدنيين أو قوات الأمن، فقد المواطن قوة صوته، وانتهى به المطاف يستجدي من يساعده ويعطيه بعض الفتات الزائد من موائد القوى المتنفذة.
ما نعانيه اليوم هو نتيجة طبيعية للجرعة الديمقراطية المتسرعة والمشوهة عام 2003، فشلنا في استخدام الديمقراطية كدواء للقضاء على الديكتاتورية، لتعود الديكتاتورية لتطل برأسها، وتنضج وتكبر عاماً بعد آخر.
إذا بقي المواطن على هذا التعامل البارد مع حقوقه في الحرية سوف يفقد ما تبقى له من مميزات ضئيلة للديمقراطية، وسوف نشهد على مجموعة من التقلبات السياسية التي تقربنا أكثر للحكم الاستبدادي.
انظر من حولك وتأمل طبيعة النظام العام، هل تحكمه الأنظمة والقوانين، أم الأهواء والرغبات الشخصية للموظفين والسلطات العامة؟
وحتى القوانين نفسها، هل تشرع تلبية لرغبات شعبية أم محاولات من قبل السلطة لتضييق الخناق على الحريات العامة؟
اضف تعليق