ان الأمية السياسية من شأنها تهديد الأمن والاستقرار السياسي، كما تُسهم في التدهور الاقتصادي، فضلاً؛ عن التسبب في اندلاع أعمال عنف وفوضى في الشارع بين فترة وأخرى للمطالبة بأمور أبعد من المسار الديمقراطي المعهود، كأن تكون المطالبة بإسقاط نظام الحكم بأكمله!...
يتصور الساسة في بلادنا –ومنها العراق- أن الجماهير لا تحتاج للوعي السياسي أكثر من المشاركة في الانتخابات كل اربع سنوات، والادلاء بأصواتهم للمحظوظين من المرشحين الطامحين الى الجلوس تحت قبة البرلمان، وانتظار الراتب بداية كل شهر، مع بعض المنح والتسهيلات المالية، و قطع اراضي وبعض الخدمات لضمان الموقف الايجابي أو موقف الحياد بين الولاء والمعارضة.
بينما المنظرون في السياسة يعتقدون أن الأمية السياسية من شأنها تهديد الأمن والاستقرار السياسي، كما تُسهم في التدهور الاقتصادي، فضلاً؛ عن التسبب في اندلاع أعمال عنف وفوضى في الشارع بين فترة وأخرى للمطالبة بأمور أبعد من المسار الديمقراطي المعهود، كأن تكون المطالبة بإسقاط نظام الحكم بأكمله!
نزعة السلطة والمال تقتل الوعي
يعلم السياسي أنه لن يبقى وزيراً، او نائباً، او أي منصب حكومي الى الأبد، إنما هي سنوات معدودة ويتنحّى جانباً، إن بإرادته او رغماً عنه، ومهما قال وفعل وثقّف وروّج فان صفته اعتبارية وليست حقيقية، بينما جماهير الشعب هم الحقيقة على ارض الواقع، وهم الموجودون دائماً، بيد أن نزعة التسلّط والاستئثار بالمال والجاه المغروزة في النفوس تدفع هذه الحقيقة جانباً لتلبية الرغبات والمصالح المحدودة بالزمان والمكان فيكون الفاسد سيّد الموقف، والفساد بالمليارات كما حصل مؤخراً في العراق، وذلك من خلال تكريس حالة الأمية والجهل في المجتمع بشكل تغرقه في اليأس والاحباط من الحصول على حقوقه المشروعة.
المشكلة ليست في الحقوق التي طالما يتشدّق بها الساسة ويرفعونها شعاراً في حملاتهم الانتخابية مداعبين مشاعر الناس، وما أكثر من يتحدث من الشاشة الصغيرة من نواب ووزراء عن ضرورة تلبية حقوق الشعب من ماء وكهرباء وتعليم وطرق و... الى آخر القائمة، إنما المشكلة في تقاطع هذه الحقوق مع ما يعده هؤلاء الساسة حقوقاً لهم شخصياً ولجماعتهم واحزابهم، وحتى اليوم فان الاخيرة هي التي تحصل على "حقوقها" من ماء وكهرباء وخدمات وامتيازات ورواتب عالية وكل شيء؛ لهم وللمقربين منهم، أما للناس العاديين، من عمال وكسبة في الاسواق، وطلبة، وفلاحين، فلهم الوعود الفارغة والأمل الكاذب بتحسين الأمور، وبما أن الناس تعيش فقط على الأمل، كما هو معروف، فانه يُعد الجسر الوحيد الذي يوصل الحكام الى جماهير الشعب ليربتون على اكتافهم ويهدئون من روع البؤس والشقاء الذي يعيشونه.
ولكن! الخطر الوحيد أمام الحكام؛ معرفة الطريقة المتبعة لدى الحكومة لتلبية حقوق الجماهير، مثال ذلك؛ شعار "مكافحة الفساد"، فالحكومة الساعية لأن تقوم بدور البطل في محاربة الفاسدين واللصوص، تعلن أنها بصدد استعادة هذه الاموال، أما عن اللصوص فلا أثر ولا خبر، وهو ما عزّ على الشعب العراقي رؤيته يوماً على شاشة التلفاز طيلة العشرين سنة الماضية، ظهور مسؤول فاسد مدان بالرشوة والاختلاس. نعم؛ يظهر اسمه على لسان بعض النواب، ولكن بعد فترة يظهر هو نفسه يستريح في البلد الذي يحمل جنسيته، ولا يتمكن النائب ولا أكبر منه استدعائه وادانته أمام جماهير الشعب على جريمة السرقة التي ارتكبها ليكون عبرة لغيره.
إن نزعة التسلّط والاستئثار هي التي تجعل صاحبها أشبه بالشيطان الماكر والمحتال الذي يتوسل بكل شيء لإبقاء الانسان جاهلاً وغافلاً، بينما في المفهوم الديني فان الانسان الذكي والواعي والفاهم لا ينزلق نحو المغريات التي تجر عليه الندامة والخسران، فالحكومة تسعى على طول الخط شراء الولاء والصمت بمختلف الاشكال حتى لا يكلف الناس عناء البحث عن الأرقام الحقيقية لما يحصل عليه البلد من عملة صعبة يومياً من بيع النفط والثروات الطبيعية الاخرى، ولا عن كيفية التصرف بها، وايضاً؛ المستوى العلمي والمعرفي للمسؤولين في الدولة بشكل عام، وغيرها كثير من الاسئلة والاستفهامات التي لا تظهر إلا بانفجار قنبلة الفساد هنا او هناك.
المعلم ودور طوق النجاة
لا نقصد بالمعلم ذلك الانسان الفاضل الذي يجهد قدميه لضخ العلم والمعرفة للتلاميذ وإنما من يحمل على عاتقه مسؤولية نشر الوعي السياسي بين جماهير الشعب بما يمكّنهم من معرفة ما يفعله الساسة، وعلى أية قواعد ومعايير يتخذون قراراتهم، ومن ثمّ يعرفون كيف يختارون من يمثلهم في الحكومة والنظام السياسي الذي يتبع النمط الديمقراطي في الحكم.
القضية ليست بهذه السهولة والتمنّي، إنما يحتاج الأمر "آلاف المؤتمرات والندوات، وعشرات الآلاف من الجلسات على مختلف المستويات في شرق البلاد الاسلامية وغربها، كما يجب ان تؤسس مراكز دراسات متخصصة في دراسة سبل مكافحة الجهل، وأن تؤسس مواقع بالشبكة العنكبوتية خاصة بذلك، وأن يتداول الخطباء والكتاب هذا البحث في بالدراسة والبحث والتذكير والإشارة"، يقول آية الله السيد مرتضى الشيرازي في مؤلفه؛ ملامح العلاقة بين الدولة والشعب، وهذه الخطوات المتعددة في طريق طويل يمكن ان يبدأ بخطوات تثقيفية بنيوية تجعل المواطن يدرك الحاجة الى الوعي السياسي وأنه شريك في كل ما يفعله السياسي كونه هو من أتى به خلف مكتب الوزارة او النيابة او الرئاسة؛ سواءً بشكل مباشر بالمشاركة في الانتخابات، أو بالجلوس في البيت وعدم المشاركة فهو سبب آخر لصعود هذه القائمة او ذلك المرشح، او العكس؛ خسارة هذه القائمة او ذلك المرشح.
حتى بعد تشكيل الحكومة وخلال الاربع سنوات من خوض الحكومة المنتخبة برئيس مجلس الوزراء واعضاء كابينته، فان الشارع الواعي سياسياً بإمكانه التعبير تقويم أي قرار او حتى قانون يُراد سنّه في البرلمان اذا تقاطع مع هوية المجتمع وطموحات الجماهير، وذلك من خلال الاحتجاجات السلمية، او التحشيد عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
إن دور الشريحة المثقفة من كتاب وخطباء وأدباء وعلماء في هذا المشروع الثقافي يسير على خطين متوازيين؛ الاول: يتجه الى تحقيق مصلحة المجتمع بخلق نوع من الحصانة والمنعة –ولو بشكل نسبي- من تطاول أفراد في الطبقة السياسية الحاكمة على ثروات الشعب وحقوقهم، وأن الصمت او الحياد بدعوى "ما لنا والدخول بين السلاطين"، كما قالها مجتمع الكوفة في العهد الأموي، وجرى ما جرى عليه، أو اطلاق سمات غير دقيقة ولا منطقية بأن السياسة كلها كذب ودجل وازدواجية، فلا فائدة من التلوّث بها! كل هذه من شأنه ان تبقي المشاكل والازمات على حالها، وفي نفس الوقت استمرار استنزاف البلد بثرواته وقدراته العلمية، واستمرار حالة التبعية للخارج الى أمد غير معلوم، وغير محمود العواقب.
أما الاتجاه الثاني: فهو صوب النظام السياسي والطبقة الحاكمة بأن الأمية السياسية لن توفر لهم الاستقرار السياسي والاطمئنان من جانب الناس في عدم تدخلهم بالسياسة وتفاصيل الحكم، لأن هذا الجهل والأمية هي التي جعلت الشعوب العربية تتحول الى مطيّة لتنفيذ أجندات خارجية قبل ان تتنفس "الربيع العربي"، فبدلاً من أن تجني ثمار شعارها: "الشعب يريد اسقاط النظام"، بنظام ديمقراطي يطوي صفحة الديكتاتورية الفردية، اذا به يغرق في مستنقع الدماء والدمار بما لم يفعله الديكتاتور نفسه.
اضف تعليق