السبب الرئيس في نهضة أمم وسقوط أمم هو مفهوم العمل وثقافة العمل لتلك الأمة، فالأمم المتقدمة تحترم ثقافة العمل، فيكون العمل لها رصيدا واكتنازا وحافزا لعملية التقدم والبناء، أما الأمم التي لا تحترم العمل، وليس لها ثقافة العمل والجد والاجتهاد والابتكار والإبداع، فإن هذه الأمم يسيطر عليها التخلف...
(أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وَهَفْوَةٍ عَنِ الْعَمَلِ وَغَبَاوَةٍ مِنَ الْأُمَمِ)
العمل هو أحد اهم أركان نهج الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، لانه يمنع عن الانسان الحاجة والفقر ويحقق له الاكتفاء، ومنقذ له من حياة روتينية قد تخنق وجوده بالملل والضجر والكسل. فالعمل هو المحرك لتقدم الأمم ورفاهها ونمو ابتكاراتها، وتضعضعه يؤدي الى الغرق في مستنقع التخلف والبؤس,
عندما نقسِّم المجتمعات إلى أصناف متعددة نلاحظ أنها لُخِّصت إلى صنفين، فبعض الأمم والمجتمعات لها موارد كثيرة وتختزن الكثير من الثروات الطبيعية في داخلها، ولكن مع وجود هذه الثروات نلاحظ أن هذه المجتمعات وهذه الأمم متخلفة، ويخيّم عليها الجهل والمرض والفقر والبؤس والشقاء والاستبداد والعنف.
وهناك مجتمعات ثانية لا تمتلك إلا القليل القليل من الموارد الطبيعية في أرضها، وربما تمتلك الجغرافيا فقط، لكن نلاحظ أن هذه المجتمعات متقدمة مرفّهة ماديا وتكنولوجيا وصناعيا وزراعيا، فما هو السبب في حدوث هذا الفرق بين الاثنين؟
إن السبب الرئيس في نهضة أمم وسقوط أمم هو مفهوم العمل وثقافة العمل لتلك الأمة، فالأمم المتقدمة تحترم ثقافة العمل، فيكون العمل لها رصيدا واكتنازا وحافزا لعملية التقدم والبناء، أما الأمم التي لا تحترم العمل، وليس لها ثقافة العمل والجد والاجتهاد والابتكار والإبداع، فإن هذه الأمم يسيطر عليها التخلف، فالعمل بقيمه وثقافته واخلاقياته هو معيار لنمو وارتقاء المجتمع وارتقاء الإنسان وتطوره ونمو قدراته.
الأمم العاطلة وهيمنة الغباء عليها
إن الإنسان العامل يرتقي ويتقدم ويتطور، ولديه حوار دائم مع الزمن فيتقدم ويتطور، أما الذي يبقى راكدا جامدا كسولا فهذا الإنسان يتخلف عن الزمن وبالتالي يكون غير منتج وغير منتمي أصلا للحياة.
إن الأمم العاملة أمم متقدمة منتجة ذكية، والأمم غير العاملة والتي تعيش على البطالة المقنّعة، وعلى الفشل والتراخي فإنها أمم متخلفة ويهيمن عليها الغباء، كما في الحديث عن الإمام علي (عليه السلام)، حيث يقول في وصف مبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وَهَفْوَةٍ عَنِ الْعَمَلِ وَغَبَاوَةٍ مِنَ الْأُمَمِ).
بمعنى أرسله في فترة انقطاع عن ارسال الرسل، وهفوة عن العمل تعني تركا للعمل أو عمل منحرف أو عمل ضعيف أو عمل غير مجتهد أو عمل ليس حلالا، أي اللاعمل، فهو عمل كله زلّات وأخطاء، لهذا فإن الأمة تكون متخلفة، وهذا العمل المتخلف أو اللاعمل وتركه يؤدي إلى غباوة الأمم، فالعمل ذكاء والكسل غباء.
هذا أمر طبيعي لأن العمل يحرك التفكير ويولد الأفكار وينتج الفهم مما يدفعه الى المزيد من العمل، أما إذا ترك الإنسان العمل فإن مخه سوف يجمد ويسكن ويتبلّد، وتموت الأفكار فيسيطر عليه الغباء.
يحدث هذا في حكم الحكام المستبدين، يقول القرآن الكريم (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) الزخرف 54. فالطاغية المستبد يكرس الجهل فيهم فينقادون له بسهولة، فالمجتمعات التي تفتقد للتفكير ولا تمتلك التعقّل فإنها تنقاد للحاكم المستبد والطاغية، ويصبحون ألعوبة بيده، من خلال تحويلهم الى كسالى لايعملون يعتاشون من ريع الحاكم واغلاله الاقتصادية، ومع الزمن يهيمن الغباء.
ترك الاولويات يؤدي الى الغباء
ان انشغال المجتمع بغير الأهم والمهم، وترك الأولويات بحيث ينشغل الناس بالأمور التافهة، والأمور الصغيرة غير المهمة يؤدي إلى اضمحلال التفكير واضمحلال التعقل، وبالنتيجة انسياق الإنسان إلى أعمال غير متقدمة ومن ثم تفشي البطالة والبطالة المقنّعة.
فكلما ترك المجتمع أولوياته، تتزايد فيه عملية الفشل والبطالة، لأن العمل يحتاج إلى محرك، والمحرك هو فهم الأولويات، واختيار الأهم في عملية البحث عن عمل، لأن العمل الذي لا ينطوي على أهمية يصبح عملا راكدا، لذلك بالنتيجة فإن الانشغال بغير الأهم يؤدي إلى الانضمام إلى مجموعة التوافه التي ستسيطر على المجتمع.
فعن الامام علي (عليه السلام): (من اشتغل بغير المهم ضيع الأهم)، و(من اشتغل بغير ضرورته فوته ذلك منفعته).
ثقافة الانتاج في العمل
هناك كثير من الناس يعملون الآن، لكن هل هو عمل منتِج، وكم هو إنتاج الفرد في مجتمعاتنا، وكم هو مقدار الإنتاج الحقيقي، أم هو تضييع للوقت وتبديد للأعمار، مع احترامنا للناس الذين يحترمون أعمالهم ويقدمون انتاجية جيدة، لأنهم يؤدون أعمالهم ويحترمونها احتراما ذاتيا، لكن البعض لا يحترمون وقت العمل، فيسرق ويختلس من وقت العمل، فيضيّع وقته ولا يؤدي حقوق العمل وهذا يعني عدم وجود ثقافة احترام للعمل.
إن محرّك المجتمعات المتقدمة اليوم هو العمل، فإذا كان المجتمع لا يحب العمل ويحب البطالة ويضيّع وقته، ويريد بحسب اللهجة العامية الدارجة (يسخّت) في عمله، فهذا يعني بأن المجتمع لا يمتلك ثقافة العمل، بينما في بعض المجتمعات تكون ثقافة العمل مقدسة، والإسلام يقدس العمل، كما في الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) الانشقاق 6.
الاستبداد والكسل
هناك أزمة موجودة في مجتمعاتنا بسبب سيطرة الحكومات المستبدة عليها، والاستبداد يعني الفساد، والفساد يعني البطر والكسل، فالمستبد والفاسد يدمّران منظومة العمل دائما، بالنتيجة فإن انعزال الإنسان يؤدي به إلى الفشل والبطالة والتراخي، وعدم فهمه للعمل واعتقاده بأن العمل غير مجدي، ويعتقد أنه مهما يعمل فإن ذلك غير مفيد له، وهذا يؤدي بالنتيجة إلى بناء ثقافة إستلابية جذرية قدَرية تؤدي بالإنسان إلى التنازل عن الحركة ويصبح جامدا راكدا.
لذلك تكثر التوافه في المجتمع وتتراجع الأولويات، وتسيطر التوافه مع اللعب واللهو والانغماس في المتع، حتى لو كانت هذه المتع شرعية، لكنه بالنتيجة يترك العمل ويتخلى عن الأولويات وينغمس في اللهو واللعب وتضييع الوقت.
متى يفقد المجتمع مهاراته؟
وعندما تتكرس سلوكيات البطالة والفشل والتراخي، فإن المجتمع يفقد مهاراته، ويتناقص عدد المحترفين في العمل، ثم بالنتيجة تنفقد قيمة العمل، لأن العمل قائم على المهارات، وهذا أيضا من سمات المجتمعات الفقيرة ومن سمات المجتمعات الغنية أيضا، في المجتمعات الفقيرة ليست هناك فرصة لكمية المهارات، بمعنى إن الإنسان الفقير لا تتوفر له الحاضنة أو البيئة التي تنمو فيها مهاراته، ويحدث هذا أيضا في المجتمعات الغنية لأنها تنغمس في اللعب واللهو فتفقد مهاراتها وتفقد قيمة العمل، وهذا يتسبّب باضمحلال الأمم.
دورات الاضمحلال
الأمم عندما تعمل وتنتج وتصبح لديها ثروات، فإنها تتراخى تدريجيا وتكسل إلى أن تسقط، وهذه من أكبر أسباب سقوط الأمم، لأن صعود الأمم عبر العمل وسقوطها في مرحلة الاكتفاء والتخمة تنتهي في ترك العمل والوقوع في الكسل، فهذه دورة تاريخية مستمرة.
إن اضمحلال الأمم يحدث نتيجة لهذه الأسباب، ويستمر الاضمحلال ليشمل الأجيال اللاحقة التي تفقد قوتها وحركيّتها المستمرة والدائمة، وهذا يحدث في دورات الأمم التي أشار إليها حديث الإمام علي (عليه السلام): (وهفوة عن العمل وغفلة من الأمم)، أي أن هذا الاضمحلال التدريجي يأتي بعده صعود تدريجي ثم اضمحلال تدريجي، فهذه دورة تاريخية في حركة الأمم.
لذلك لابد للعقلاء والخبراء والمفكرين أن يدرسوا دائما الآليات التي تمنع اضمحلال الأمم، ولا تسمح بوقوعها في حفرة الترف والكسل والتراخي. وهذا الهدف يحتاج إلى تفكير وتخطيط.
مساوئ غياب التخطيط
من أسباب ارتباط الغباء بقضية ترك العمل أيضا، غياب التخطيط وسيطرة الفوضى والعمل الارتجالي، وعندما يكون العمل فوضويا يفقد معناه، ويفقد تراكميته المستمرة ويتراجع، فهو يقدم عملا وينتج ثم يضمحل هذا العمل لعدم وجود تخطيط مستمر ومدروس لكي يكون العمل متصاعدا تدريجيا، ولا يرجع إلى الوراء مرة ثانية ويبدأ من الصفر.
سوء الإدارة والفساد
ومن المشاكل ارتباط الغباء بترك العمل سوء الإدارة وهو عامل مؤثر جدا في هدر الموارد البشرية والمادية، وهذا كله يؤدي إلى عملية تدمير العمل ومنهجيّته وفاعليّته وديناميكية هذا العمل.
ومن الأسباب المدمِّرة للعمل وقيمة العمل الفساد، والفساد ينتج من البطالة والكسل، وكذلك يؤدي إلى البطالة والكسل، أي ينتج عنها ويؤدي إليها، وهو آفة خطيرة جدا.
المدخلات والمخرجات
توجد دول تنجح فيها ثقافة العمل وتكون لها قيمة جوهرية ودول تفشل في ذلك، والسبب هو المدخلات والمخرجات، نلاحظ أن هناك دولا فيها كوادر بشرية كثيرة وموارد بشرية كثيرة وفيها ثروات طبيعية هائلة، لكنها ضائعة وتائهة، لأنه ليس هناك تخطيط لاستثمار المدخلات والمخرجات، لأن الموارد تحتاج إلى استثمار منهجي متعقّل، ووضع المدخلات التي تؤدي إلى مخرجات سليمة وصحيحة.
وهذا ما يعني به الإمام علي (عليه السلام) حين يشير إلى (غباوة الأمم) وعدم وجود ذكاء فهو نتيجة بناء المدخلات والمخرجات، والسؤال هنا من يتحمل مسؤولية المدخلات الصحيحة، هل هو المجتمع أم الدولة؟، الجواب كلاهما يتحمل ذلك، إن التهام الموارد الذي يحصل في أي مجتمع أو أية دولة يكون الجميع مسؤول عنه، لكنهم لا ينظرون إلى المستقبل وماذا سوف يأتي مستقبلا.
وفي حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي ذكرناه سابقا: (فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح بالقصد فيما تجمع وما ترعى به رعيتك) حول العمل المزيد والواسع والوفير والنظر إلى العواقب، فبسبب فقدان البصيرة للعواقب، أو تعمّدا في فقدان البصيرة بسبب سيطرة التفكير المادي، سوف يؤدي ذلك إلى اضمحلال الموارد كلها وخسارتها، كالذي يوجد لديه أموال كما ذكرنا ولا يستثمرها استثمارا صحيحا سليما. هذا الاستثمار للمدخلات والمخرجات يؤدي بالنتيجة إلى عملية الغباوة التي اشار لها (عليه السلام).
الإنصاف وتكافؤ الفرص
كذلك غياب الإنصاف وتكافؤ الفرص فإنه يدمّر المجتمع، ولا يعطي للعمل أية قيمة، حيث يرى الإنسان العامل بعينه أن هناك من لا يعمل ويحصل على ما يريد، وهو يعمل ولا يحصل على شيء، فالأول عنده واسطة وجماعة ساندة له أو ينتمي إلى حزب سياسي فيحصل على ما لايستحق مع كسله، وهذا يعني أن هذا الإنسان الفقير ليس لديه فرصة في مقابل الآخرين، وليس لديه مزايا مقابل الآخرين، بينما الشخص الآخر الذي لديه قوة وهيمنة وحزب أو أية فئة معينة يحصل على كل شيء، في حين أن هذا الإنسان الذي يمتلك الخبرة والمهنية والعقل والقدرة والإدارة ليس لديه فرصة عمل.
عندما تضيع فرص من يستحقها ويصبح هذا السلوك ثقافة سيئة متوارثة في المجتمع، تتحطم قيمة العمل كقيمة إنسانية حقيقية في المجتمع، ويتعاظم جبل الأخطاء والخطايا وينمو حتى يصبح جبلا ضخما بل يصبح جبالا من الانحرافات والهفوات والاغلال.
وقد بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فيخلصهم من هذه الأخطاء التي وقعت فيها الأمة فأصبحت بسببها أمة غبية، فهل الإنسان الذي يستغل الواسطة والأساليب الملتوية هو إنسان ذكي؟ لكنه في الواقع غباء لا ينظر إلى العواقب فيدمر نفسه وأولاده والاجيال اللاحقة، وينشر ثقافة سلبية في المجتمع قائمة على الكسل والبطر والبطالة.
متى يتحطّم التوازن الاجتماعي؟
عن الإمام علي (عليه السلام): (بالعمل يحصل الثواب لا بالكسل)، فالإنسان يعرف قيمة شيء ما من نتائجه ومخرجاته، ويستفيد من التجارب التي يخوضها عبر معرفة آثارها ونتائجها، كذلك بالنسبة للعمل، حيث نعرف قيمته من خلال الثواب الذي ينتج عنه، فالعمل ينتج الثواب، بمعنى الإثابة والجائزة التي تنتج عن سلوك طريق الأسباب والمسببات الطبيعية، فبالعمل تحصل المكافأة، وليس بالكسل، فليست هناك مكافأة للإنسان الكسول.
إذا أعطينا مكافأة للإنسان الكسول، فما هو الفرق بينه وبين الإنسان المجدّ، وهذا يعني تحطيم التوازن الاجتماعي، وتتحطم القيم الطبيعية التي تقوم عليها فلسفة الوجود البشري، مثل قيم التنافس الاجتماعي، وقيم الجد والاجتهاد، وقيم الابداع والابتكار والذكاء والفهم، فيسيطر الغباء على المجتمع لأن الثواب يصبح من حصة الأغبياء والكسالى، وتسود المجتمع حالة من التدميرية الصفرية التي تتسبب بها عملية الكسل.
ومن هنا فإن الأمم الذكية المتفوقة هي الأمم العاملة، ولا يمكن أن نتصور بأن هناك أمما ذكية لا تعمل.
القوة في العمل
إن تعزيز علاقات العمل هي نتيجة لتعزيز الثقافة الاجتماعية، وتعزيز المشاركة ومن ثم تعزيز القوة الاجتماعية، تعزيز تماسك المجتمع وهذه تؤدي إلى تعزيز قوة الأمة، وقوة المصير المشترك، فالأمة تكون عزيزة ومنتصرة عندما تكون قوية، فما معنى القوة وكيف نصنع القوة في المجتمع؟
هل تأتي القوة بالأسلحة والتعزيزات العسكرية، أو بالأسلحة النووية، إن القوة الحقيقية للمجتمع هي قوة العمل، فالعمل هو الذي يعطي القوة للأمة، هناك دول مثلا الاتحاد السوفيتي السابق على سبيل المثال، كان يعتبر القوة العظمى في مقابل الغرب، وكان يمتلك أسلحة نووية وترسانة عسكرية هائلة، تجعله قادرا أن يسيطر على العالم كله.
فمع كل الأسلحة التي كانت تمتلكها هذه الامبراطورية انهار هذا الاتحاد في عام 1990 مع انهيارها الاقتصادي عندما أصبح المجتمع عاطلا عن العمل وغير منتج بسبب السياسات الاشتراكية التي افرغت العمل من محتواه الحقيقي، فلا تكفي القوة العسكرية حتى تجعل البلد قويا، وإنما قوة العمل والإنتاج، هي التي تجعل الحركة قوية ونامية في المجتمع.
لذلك يقول الإمام علي (عليه السلام): (من يعمل يزدد قوة، من يقصر في العمل يزدد فترة)، الفتور بمعنى الضعف، يفتر ويتضاءل ويتنازل ثم يفقد قوته تدريجيا إلى أنه ينتهي، فالعمل هو الذي يعطي القوة للأمة، بينما عدم العمل يؤدي إلى امتصاص كل الموارد والقدرات فتضمحل وتفتر وتضعف هذه المجتمعات وهذه الدول، وغالبا ما يرتبط هذا الشيء بالاقتصاد.
هناك أمور أخرى قد ترتبط بهذا الأمر، ولكن كمثال واضح عن قوة العمل هو الاقتصاد، فالأمم تُعرَف اليوم باقتصاداتها وهناك مؤشرات اقتصادية تعبر عن قوة الأمة وانتاجها وقدرتها، مثل المؤشرات التي تفرق بين الإنتاج والاستهلاك.
إن الدول المنتِجة تكون دولا قوية، بينما الدول الأخرى كالدول الريعية مثلا، هي دول مستهلِكة وليس لديها انتاج مثال ذلك الدول النفطية، فلولا امتلاكها للنفط فإن شعوبها تموت جوعا، فالثروة النفطية هي التي تنقذها لأنها مجتمعات مستهلكة وغير منتجة.
وهذه من علامات ضعف الدولة لأنها تحتاج إلى دول أخرى لتحقيق اكتفائها وحصولها على الموارد الثانية كالأمن الغذائي، والطاقة والأشياء الأخرى التي تحتاجها لمواصلة حياتها.
بناء الإنتاج المعرفي
ان بناء الإنتاج يتحقق عبر مشاركة مجتمعية بين كل الأطراف، لكي تتمكن من تحقيق نهضة القوة العاملة، ويمكن تقوية القوى العاملة من خلال تمكين قوة انتاج الفرد، فالفرد الذي يحمل مهارة وقدرة وعقل، يمكنه أن يكون فردا منتجا، ولذلك تهتم الدول المتقدمة بأصحاب المهارات وأصحاب المعرفة، وأصحاب العقل المتمكن، فهذا يزيد المجتمع قوة وإنتاجا، أما في مجتمعات الدول التي تحكما أنظمة استبدادية، فهي لا تريد أناسا خبراء، لأن المستبد لا يحب العقول، لا يرغب بها، فالعقل ينصحه لكن المستبد مغرور ومتكبر لا يقبل النصيحة.
وعن الامام علي (عليه السلام): (مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ، وَمَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا).
بالنتيجة يستبعد المستبد الخبراء والعقلاء، ويأتي بالمتملقين والمنافقين والمتزلفين، هذه هي المشكلة المتجذرة في المجتمعات غير المنتجة، لذلك فإنه من أهم عوامل قوة المجتمع حرية العمل، حيث يكون العمل حرّا، فالعمل بلا حرية باطل، ويعني اللاعمل لأنه ليس فيه جدوى ولا فائدة، لذلك ينتشر الكسل في المجتمعات المستبدة، بينما العمل يصعد ويتصاعد في المجتمعات الحرة، كما ان قوة الاقتصاد تعتمد على حرية العمل، وحرية التجارة، وحرية الانتاج.
الحرية في القطاع الخاص
لابد من تشجيع المجتمع على ثقافة العمل، وأن يكون له حرية في العمل من خلال حرية القطاع الخاص بعيدا عن تدخلات الدولة بشكل مباشر، فالدول الاستبدادية هي التي تفرض على شعوبها طبيعة العمل بشكل إجباري لكي تبقى الشعوب خانعة لها، أما وجود القطاع الخاص فهو يعطي حرية للناس في بناء اقتصادهم وفي طبيعة أعمالهم.
والتحرر من الخنوع للاستبداد الريعي يبدأ من تغيير طريقة التفكير لبناء المستقبل وما سيحدث فيه، من خلال تغيير البرمجيات التي نفكر بها لإدارة حياتنا.
فالكثير من الشباب اليوم في حالة بطالة بسبب كثرة الأزمات الاقتصادية، لماذا لا يبدأون بمشاريع صغيرة، نعم هو لا يربح كثيرا ولكن ربما بعد سنة أو سنتين يحصل على أرباح جيدة كما حدث مع آخرين، لكن أغلب الشباب يريد الربح السريع.
هذا الأمر يحتاج إلى مبادرات مجتمعية مشتركة، نحتاج أولا إلى ثقافة عمل جيدة، ويتم تشجيع الناس على هذه الثقافة وعلى إطلاق المبادرات المجتمعية، وأن لا يعتمدوا على الدولة، أو على النظام الحاكم الذي لن يقدّم مبادرات تخدم المجتمع، فمن طبيعة المجتمع أنه يحب الخير والخدمة والمساعدة، ولكن لابد أن يرتفع ويرتقي بأولوياته.
مثلا هناك الكثير من الناس يرغبون بمساعدة الإنسان الفقير، ويقدمون لهم سلّات غذائية، ويعطونهم أموالا ومساعدات أخرى، ولكن لا يصح أن نطعم الفقير فقط، لابد أن تبني له مشروعا وتعلمه مهنة وحرفة ومهارة، هناك مثل يقول: (إذا أعطيت سمكة لجائع أطعمته يوما، وإذا علمته الصيد أطعمته عاما).
قيمة الإنسان الحقيقية بقيمة ما يطلقه من مبادرات، فإذا كثرت هذه المبادرات وانتشرت في المجتمع، يتعلم هذا المجتمع قيمة العمل وحب العمل، عندئذ لا يذهب وراء أعمال بسيطة، ولا يبحث عن تعيين في قطاعات الدولة، بل يذهب إلى تنمية وتطوير قدراه الذاتية وحياته.
وإذا ما تحركت المبادرات المجتمعية وازدادت في المجتمع، واستثمر الناس أموالهم في هذا النوع من المبادرات، لبناء المهارات وزيادة وتقوية العمل، وبناء المشاريع العملية المنتِجة، سوف تنتشر هذه الثقافة بكثرة بين الناس، وحتى النظام الحاكم سوف يضطر للمساهمة في هذا العمل.
دعم المشاريع الشبابية
إن تحقيق هذا الهدف يحتاج أولا إلى تحريض الناس على فهم أهمية المبادرة المجتمعية في تطوير العمل وآفاقه، وتشجيع الشباب ومساعدتهم على العمل وتطوير مهاراتهم لإنجاز المشاريع، هذا الجانب مهم جدا في عملية التحريض والبناء الثقافي، والتوعية الثقافية المستمرة، بالإضافة إلى إيجاد مؤسسات وسيطة محمية قادرة على أن تحمي رؤوس الأموال، وتحمي الاستثمار الذي تقوم به في عملية مساعدة الشباب.
لكي يصبح استثمار رأس المال هادفا، وليس عبثيا، وهذا يحتاج إلى عملية تنظيم وإعداد وتخطيط، وأهم نقطة في هذا الجانب هي فهم الأولويات، فإذا فهمنا أولويات أهمية العمل ودوره في الإنقاذ الاجتماعي سوف نخطو خطوة صحيحة، فمساهمة العمل كمفهوم وكثقافة وكمشروع يكمن في عملية إنقاذ المجتمع من الأزمات وتحسين أوضاع الناس لاسيما الفقراء منهم وتوفير الفرص الكافية لهم.
لابد أن نساعد الناس، نساهم في توفير الطعام لهم، وبناء المشاريع الخيرية، وبناء المستشفيات، وبناء المدارس والجامعات، كل هذه الأمور مهمة، ولكن الاهم أن نؤسس ونطوّر ونبني للأعمال، ونبني المهارات التي يحتاجها الشباب في عملية تطوير حياتهم.
وعندما تنقذ الشباب من البطالة واليأس من خلال دعمك لهم، فإنك أنقذت جيلا كاملا، وأنقذت أسرة كاملة بسبب التزامك بهذه الثقافة المسؤولة، ونعني بها ثقافة العمل التي تحافظ على كرامة الإنسان وتجعله متفائلا وتفتح له آفاقا كثيرة وكبيرة، لكي يكون إنسانا حاضرا وفاعلا من حيث القيمة المجتمعية في خدمة نفسه أولا وخدمة مجتمعه، وبالتالي يبني هذا المجتمع وينعكس هذا البناء على بناء حضارة الامة.
* سلسلة حوارات تبث على قناة المرجعية تحت عنوان (جواهر الأفكار)
اضف تعليق