قيمنا تتعرض للتدمير، ومجتمعنا يعاني من سوء تقدير لمخاطر التنازلات المستمرة تجاه القيم الاجتماعية الإيجابية لصالح الغش والتزوير وانتهاك القانون، والنتيجة أن كل طالب يستطيع أن ينجح بالغش، وكل مسؤول يصدر قرارات أيضاً بعيدة عن روح القانون وممارسة أنواع الغش والتزوير وكل ما له علاقة بالفساد وأخواته...
يتحدث أحد طلبة كلية الصيدلة عن بطولاته في مساعدة زملائه خلال الصف الدراسي، كما يستنكر أسلوب أساتذته الذين يعاملونه بشكل سيء عندما علموا بإسهاماته العلمية المحفزة لنجاح أصدقائه وزملائه في الصف.
ما هي المساعدة التي تقدمها للطلاب؟ أنا تساءلت.
يجيب صيدلاني المستقبل، أعطيهم معلومات من المنهج العلمي لا يعرفونها تسهم في اجتيازهم الامتحانات الشهرية، فهم كسالى وأنا أكثرهم متابعة للمحاضرات ومن ثم الأكثر فهما للمادة العلمية، وبالمعنى الدارج "أنا الشاطر والسجاج (كثير الدراسة)".
أليس هذا هو الغش بعينه؟ تساءلت.
يرتبك الصيدلاني المستقبلي، يتلعثم ثم يجيب بكلمات غير مترابطة، أه أنا أتعاطف مع الطلاب وأخشى أن يرسبوا في الامتحان إذا لم ينقلون الإجابات الصحيحة مني.
يستدرك ويعيد حساباته بسرعة، ويتساءل: ألست أنا من انتقد الفساد والغش في مؤسسات الدولة؟ ما أقوم به أنا غش أيضاً، سوف أتوقف عن هذه الممارسة حتى وإن تعرضت للنقد من زملائي فأنا لست مؤسسة خيرية وإذا فشلوا في الامتحانات فهذه مشكلتهم وحدهم.
المحادثة القصيرة حقيقية جرت معي قبل أيام مع طالب في كلية الصيدلة، وهو مجتهد وحريص أشد الحرص على التعلم بكل الوسائل الممكنة سواء تلك التي تفرض عليه في المنهج الدراسي، أو المواد الأخرى الخارجية وبما يسهم بتطوير قدراته في مجال اختصاصه.
كما أنه حريص أشد الحرص أن يكون مفيداً لمجتمعه، لكن التقاليد الخاطئة تجبر هذا النوع من الأشخاص على ممارسة الغش بكل سهولة وبدون الشعور بالذنب.
المجتمع جعل من الغش الدراسي مساعدة، أي ربطها بالشرف والقيم الإنسانية العليا، ومن لا يوفر الغش في المدرسة أو الجامعة يصنف بأنه طالب معقد ولا يستحق أن يحمل صفة الصديق.
يعيش منبوذاً مغضوباً عليه من مجتمع الطلبة، وكما هو ثابت علمياً فالانسان كائن اجتماعي يسعى دائماً إلى الاندماج أو الانضمام إلى مجموعة لا سيما في فترة الدراسة المدرسية أو الجامعية حيث الحاجة شديدة إلى الشعور بالانتماء لجماعة.
سوف يحاول الظهور بمظهر الشخص الملائم لسلوك الجماعة، ومن ضمن أهم معايير الانتماء في جماعة طلابية هو العطاء غير المحدود والمساعدة خلال الامتحانات، هذا التعريف الطلابي اللطيف للغش.
في حالة تبادل الغش بين الطلاب تكون المسألة واضحة ولا تحتاج إلى كثير من الشرح، فهي عمليات مكشوفة وغير معترف بها من قبل الأساتذة لأن الطالب الذي يمسك متلبساً بالغش يتعرض لعقوبة قانونية.
ما بالك بما تقوم به وزارة التربية أو وزارة التعليم من تشويه لمنطق المساعدة وبقرارات رسمية مبوبة قانونياً بحيث لا تستطيع جهة أخرى معاقبة من وقع على قرار المساعدة.
تقوم وزارة التعليم مثلاً بإضافة خمس درجات لمعالجة حالات طلبة الدراسات العليا الراسبين، ثم يعترض بعض الراسبين الذين يحتاجون إلى درجات أكثر فتضيف خمس درجات أخرى.
ورغم الدرجات العشر يرقد قيد بعض الطلبة الفاشلين، فتقرر الوزارة إعادة المرقنة قيودهم، يعودون إلى مقاعد الدراسة وينجحون مهما كانوا فاشلين.
ونتيجة لكثرة قرارات المساعدة (أو التحايل على القانون)، غاب مفهوم الطالب الراسب أو الفاشل في اجتياز المرحلة الجامعية، الكل ينجح، والكل يحصل على الشهادة الجامعية، بل وحتى في الدراسات العليا، الكل يحصل على الشهادة العليا مهما كان فاشلاً.
القضية خطيرة جداً، المعايير مفقودة في بلادنا، تغيرت صفة الغش من خلال ارتدائها ثوب المساعدة، فصار المعارض للغش الدراسي منبوذاً في مجتمعه.
على مستوى القرارات الرسمية غابت روح القانون وسادت روح القيم المجتمعية المشوهة، خرق القانون ورفع قيمة الفاشلين يفسر على أنه مساعدة وتكريم من قبل الوزارات يعطى للطلبة من الدراسة الابتدائة وحتى الدكتوراه.
مساعدات من هذا النوع تنخر جسد الدولة مثلما ينخر مرض السرطان جسد الإنسان، وهذا هو حالنا اليوم، الغش من أبسط طفل وحتى أكبر مسؤول حكومي.
قيمنا تتعرض للتدمير، ومجتمعنا يعاني من سوء تقدير لمخاطر التنازلات المستمرة تجاه القيم الاجتماعية الإيجابية لصالح الغش والتزوير وانتهاك القانون، والنتيجة أن كل طالب يستطيع أن ينجح بالغش، وكل مسؤول يصدر قرارات أيضاً بعيدة عن روح القانون وممارسة أنواع الغش والتزوير وكل ما له علاقة بالفساد وأخواته.
اضف تعليق