التجديد في الافكار والرؤى والتصورات إزاء حياة الانسان، والطبيعة، والوجود، من شيم العقلاء الباحثين عن الحقيقة ابداً على مر الأجيال والاحقاب، فما توصل اليه فيلسوف او عالم في حقبة معينة من الزمن، أفاد أبناء زمانه –قطعاً- فكان التفاعل والتجاوب، وفي حقبة زمنية لاحقة ترتقي فيها الشعوب والأمم سلم التطور في الفكر...
التجديد في الافكار والرؤى والتصورات إزاء حياة الانسان، والطبيعة، والوجود، من شيم العقلاء الباحثين عن الحقيقة ابداً على مر الأجيال والاحقاب، فما توصل اليه فيلسوف او عالم في حقبة معينة من الزمن، أفاد أبناء زمانه –قطعاً- فكان التفاعل والتجاوب، وفي حقبة زمنية لاحقة ترتقي فيها الشعوب والأمم سلم التطور في الفكر والثقافة بسبب الحروب والتلاقح الحضاري، تظهر الحاجة الى التجديد او التطوير لمواكبة الزمن، ومن اجل الاستفادة المستدامة من هذا الفيلسوف او ذاك، نسمع لهذا تلاميذ، ولذاك شرّاح لمؤلفاته مع قراءات جديدة وعصرية.
فاذا صدق هذا مع المسيرة الطويلة للبحث عن الحقيقة والمعرفة منذ عصر اليونان القديمة وحتى عصر النهضة الفكرية في اوروبا (الغرب) منذ القرن الخامس عشر، وما شهدناه من تجديد متواصل للفكر، فهل يصدق على المسيرة الطويلة والمستمرة للبحث عن مقومات الحضارة الاسلامية؟
جهود ذهنية جبارة غير مثمرة
لأسباب لسنا بوارد الخوض فيها، رجح علماء مسلمين الجهد الذهني –إن صح التعبير- لقراءة جديدة او عصرية للإسلام كعقيدة، وفكر، وسلوك، على الايمان بالغيب والتسليم للقيم والمفاهيم الثابتة في القرآن الكريم، وما تجسّد في حياة رسول الله، من قول وفعل وتقرير، بما يمكن تسميته بالجهد الروحي، فجرى الكلام في أصول الدين؛ التوحيد والمعاد والعدل والإمامة، كما جرى الكلام في مسائل فكرية مثل؛ القدر، والجبر والاختيار، والعقل، والقياس، فتأسست مذاهب دينية بفضل هذا الجهد تحمل هذه الافكار منذ القرون الاولى من التاريخ الاسلامي، كلها تجاهلت الجانب النفسي والروحي في الانسان وتأثيراته على الايمان والتفاعل مع الافكار، وهو ما أولاه الاسلام أهمية كبرى في المنظومة الثقافية والتربوية.
مع ذلك؛ الظروف الاجتماعية والتطورات الثقافية لدى ابناء الأمة على مر الاجيال، دعت البعض لإعادة تجربة الجهد الذهني من اجل قراءة جديدة لما توصل اليه الآباء الأولون على أمل ان تكون منافذ نحو المعرفة ومناهج ثقافية تجيب عما يدور في الاذهان من تساؤلات، ومن ثمّ للخروج بها كمنظومة عصرية للفكر والثقافة تستظل تحت لافتة الإسلام، بـ"أننا مسلمين وفق هذه النظرة والرؤية الى الحياة والدين والانسان"!
نورد مثالين على ذلك، من جملة أمثلة في مسيرة المعرفة والبحث عن الحقيقة، أحدهما؛ فيما توصل اليه صدر الدين الشيرازي، المعروف بـ "صدر المتألهين" في ابتكار حلقة الوصل بين الفلسفة والعرفان (الدين)، والمثال الثاني؛ في المعتزلة ونزعتهم العقلانية، وكلا المسارين نرى لهما أنصار ومؤيدين يتحدثون اليوم عن تجديد الرؤية الى الدين والعقيدة وفق متغيرات الزمن.
فقد ظهر "الملا صدرا" في القرن العاشر الهجري في إيران الصفوية في وقت كانت الفلسفة اليونانية مطبقة على الفكر الشرقي –الاسلامي، ولم يسع لفلاسفة مسلمين مثل ابن سينا والفارابي وايضاً ابن رشد إلا شرح افكار ارسطو وافلاطون بلغة اسلامية، فكانت ردود الفعل السلبية سريعة وشديدة إزاء هذا التوجه البعيد عن خطاب القرآن الكريم، وتعاليم الاسلام، مما عرضهم الى مضايقات واتهامات شتّى. فحاول الملا صدرا ايجاد حل وسط بين الجهد الذهني الخالص و التوجه العرفاني –الصوفي الخالص ايضاً، من خلال النقلة "الثورية" من البحث في الماهية في تاريخ الفلسفة، الى البحث في الوجود ليخرج بنظرية جديدة لم يعرفها العالم من قبل "أصالة الوجود"، فصار يُعرف بصاحب "الحكمة المتعالية"، وكان هدفه "اخراج الفلسفة العربية –الاسلامية من دائرة الشرح والتكرار الى فضاء الفعل والتطوير، فهي أهم خاصية لهذه الفلسفة الابتكارية، ونستطيع ان نجزم بانها فلسفة ثورية أتت لتغيير وضعاً فلسفياً قائماً ولتمنح الفلسفة دوراً ومنحاً ايجابيين". (ملاصدرا رائد الحكمة المتعالية- إدريس هاني).
وللعلم هنا؛ أن ملاصدار يُعد خريج حوزة علمية ومن علماء الشيعة في زمانه، وكان أبرز اساتذته؛ الشيخ البهائي في مدينة اصفهان إبان الحكم الصفوي، ويبين في مؤلفاته أنه توصل الى ما توصل اليه من خلال ليس من خلال البرهان الذي طالما أكد عليه للوصول الى النتائج الصحيحة، وإنما "المجاهدات، والرياضات، والاشتعال النوري، والالتهاب القلبي، وأنوار الملكوت، والألطاف الإلهية" التي مكنته من التوصل الى "الأسرار والرموز"، كما يعبر في كتابه "الاسفار"، بما يعني أنه عندما تحدث عن أصالة الوجود، إنما كان برعاية إلهية، حتى وإن كان من جملة ما توصل اليه نفي المعاد الجسماني يوم القيامة، وإنما يُحشر الناس كأرواح!
والمثال الآخر في مساعي التجديد؛ ما يسعى اليه البعض حالياً لإعادة الحياة الى متبنيات مذهب الاعتزال الذي ظهر أول مرة في العهد العباسي واتخذه المأمون المذهب السياسي للدولة، وهو الداعي الى العقلنة في فهم الدين والعقيدة، وحتى يصل الانسان الى هذا الفهم والايمان عليه تحميل العقل كل الجهود للوصول الى الحقيقة أو "الحق"، وأن يكون حراً لا مقيداً، "فلا معنى للعقل اذا لم يكن حراً، فحرره المعتزلة وأجازوا له البحث لا في الشؤون الانسانية وحسب، بل في الامور الغيبية وقضايا الكون، وفوضوه الأمر كله وساروا معه الى النهاية القصوى في البحث المنهجي المنظم"، (ثورة العقل، دراسة فلسفية في فكر معتزلة بغداد- عبد الستار الراوي). بمعنى أن الايمان الصحيح بالإسلام يجب ان يكون ايماناً عقلياً، لا غيبياً، فكلما قبله العقل فهو من الدين وإلا فلا! ثم إن "الثورة"، او الحراك والنهضة يجب ان تكون في عقل الانسان، لا في الانسان ذاته، وفي أخلاقه وسلوكه وفكره.
هذه المساعي الفكرية والجهد الذهني الخالص مستمرٌ حتى اليوم في البحث عن قوالب عصرية مواكبة لتطور حياة الانسان والمجتمع بحيث تكون العقيدة والاحكام والأخلاق في مستوى معتدل تستوعبه عقول نسبة كبيرة من الناس، لذا نسمع بين فترة وأخرى بضرورة تجديد قراءة سيرة النبي الأكرم، وكذلك آيات الذكر الحكيم، وكل ما يصفونه بـ "الموروث الديني"، بل حتى نلاحظ الاصرار على إعادة النظر في كل الروايات الداعمة للشعائر الحسينية، وايضاً؛ الروايات التاريخية لتفادي الاحراح من بعض الاعمال (الشعائر) التي لا تمتّ الى العقل بصِلة.
كل هذه المساعي نأخذها على المحمل الحَسِن، فهي ربما تنطلق من نوايا حسنة لخدمة الانسان وجعله أقرب الى الحقيقة، وأن لا تكون عواقب أعماله الى ندم وخسران، بيد أن الصحيح ايضاً؛ النظرة الموضوعية الى الامور، مع شمولية في التفكير وتقييم الاشياء، لا تجزئتها، لأن الدين والعقيدة والاخلاق، منظومة فكرية واحدة غير قابلة للتجزئة، فما صلح في عهد الأئمة المعصومين، يصلح لهذا الزمان، والى يوم القيامة، إنما الانسان المتطور دائماً هو الذي عليه تطويع حياته وواقعه مع ذلك المسمّى بـ "الموروث الديني"، الذي يحسدنا عليه أتباع المذاهب والاديان الاخرى على ما فيه من الحِكِم، والشمولية، والعقل، والتحضّر.
الثقلين والحصانة من الضياع
بخلاف ما تصور الفلاسفة المسلمون وبعض العلماء من صعوبة صياغة المنهج العلمي الصحيح للتفكير والتقييم من القرآن الكريم، فان الآيات الكريمة تؤكد أن من صفاته؛ اليُسر، والبيان، وبالإمكان استخراج مفاهيم وقيم سامية ومعادلات كبرى في الحياة من آيات واضحة خالية من التعقيد والترميز، مثل؛ العقاب والثواب، والخوف والرجاء، وتعميم العطاء للبشرية (الرحمة)، والتماثل بين العمل ونتيجته؛ إن كانت سيئة أو حسنة، بينما روّج الفلاسفة والعلماء قرون من الزمن لاستحالة التدبّر التي دعا اليه القرآن صراحةً، بدعوى أن النظر في باطن وأعماق الآيات ودلالاتها المتعددة ربما توقع البعض في مهاوي الخطأ والانحراف.
واذا كان الانسان أقصى همّ الفلاسفة ودعاة العقلانية، فان نظرة خاطفة على كل الجهود الفلسفية والعرفانية تكشف عن تغييب عجيب لدور الانسان في تغيير واقعه الى ما يمكنه من الوصول بنفسه الى الحقائق بدلاً من ان ينوب عنه من يعد نفسه الأفهم والأعلم، وطالما ما أكد القرآن الكريم على هذه المسألة المحورية، فالحرية التي يدعو اليها الجميع تُعد قيمة مقدسة وأصيلة، والانسان يولد وتولد معه حرية الاختيار بين الهدى والضلال، وبين الحق والباطل، بعد ان تقام عليه الحجج والبراهين من قبل الانبياء والأوصياء المسددين من قبل السماء.
ومن أعظم ما بشّر به القرآن الكريم البشرية جمعاء؛ حرية التفكير للوصول الى أفضل النتائج، وعدم الجمود على ما توصل اليه الآباء الاجداد، {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}، فالثغرة التي يأخذ بها القرآن الكريم على المناهج والسبل البعيدة عن السماء، هي تنكرها للعقل وللنصح ممن يحملون كل مواصفات الإرشاد والهداية.
والسؤال الكبير الذي يقفز امامنا: كيف نضمن نجاح عملية التفكير الصحيح لدى شريحة واسعة من المسلمين، بل وأهل العالم كله؟
بكل بساطة؛ العلوم والمعارف التي نجدها في كلمات المعصومين، عليهم السلام، الى جانب الحِكِم العظيمة في سلوكهم وسيرتهم وطريقة تعاملهم مع الناس ومع الاحداث في زمانهم، ثم العِبر والتجارب التي تركوها للأجيال، وما نجده من تفاعل مستمر مع هذه التجارب في نهضات فكرية وحركات إصلاحية كبيرة، تمثل دليلاً على أن الانسان لن يرحم نفسه اذا لم يعتمد هذه السيرة الوضاءة في حل مشاكله الفكرية والثقافية.
ومن يبحث عن تفسير لكثير من الآيات الكريمة ذات الوجوه المتعددة، فما عليه إلا مراجعة من هم صنو القرآن الكريم بحكم العقل، فكلامهم دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين، ليس في شطط ولا تناقض مع العقل والفطرة الانسانية، وهي الحقيقة التي لم ينكرها الفلاسفة المسلمون والعلماء السابقون، إنما مشكلتهم في الاعتراف بمكانة الأئمة المعصومين، والايمان بولايتهم ومنزلتهم التي فرضها الله –تعالى- على المسلمين، وهو الفرض الذي اتضح بحكم العقل أنه عبارة عن رحمة للعالمين.
وفي الختام؛ من يروم الافادة لثقافة الناس والارتقاء بمستوى تفكيرهم، حرياً به مساعدتهم على تنمية الاستيعاب والفهم، وتعميق الايمان من خلال تسليط الضوء على ما نجحنا في الاستفادة من التجارب والعبر في حياة المعصومين، وايضاً مما اكتسبناه من بصائر القرآن الكريم، ثم البحث في اسباب العجز والتراجع عن مسيرة الارتقاء المأمول.
اضف تعليق