آراء وافكار - مقالات الكتاب

محاولة اولى لتقييم حكومة السوداني

الجزء الثالث والأخير

معيار الانجاز في التقييم يحتاج الى وقت قبل تفعيله. لا يمكن تقييم الحكومة على اساس هذا المعيار منذ اليوم الاول. ربما نحتاج الى ١٠٠ يوم او ربما سنة او غير ذلك. وفي كل الحالات لا يمكن اغفال عامل الزمن. وفي القراءة الاولى يبدو ان المنهاج الوزاري أغفل عامل الزمن في الكثير من صفحاته...

المنهاج الوزاري هو المعيار الرابع الذي نقوم بتقييم الحكومة من خلاله، المنهاج الوزاري للحكومة ذو اهمية قصوى على المستوى الدستوري والشعبي. فالحكومة تنال ثقة الاغلبية المطلقة لمجلس النواب على اساس منهاجها الوزاري. ويتم تقييم اداء الحكومة على اساس ما حققته من الاهداف المذكورة في منهاجها.

ويمكنني القول ان المنهاج الوزاري الذي قدمه رئيس مجلس الوزراء الى البرلمان "رائع" إذا أردنا النظر اليه كنص ادبي سياسي انشائي. لأنه يمثل أفضل ما يمكن ان يكتبه كاتب صحفي متابع للشأن العام. لكن المنهاج الوزاري لا يكتبه كاتب صحفي، ولا استاذ جامعي، بهذا الوصف، انما يكتبه شخص او مجموعة اشخاص من موقع المسؤولية القيادية والتنفيذية في الدولة، وهم الاشخاص الذين تقع على عاتقهم مسؤولية اتخاذ القرارات الادارية والمالية المتعلقة بشؤون الدولة والناس.

يجب ان ينطلق المنهاج الوزاري من رؤية او نظرية شاملة للدولة تتبناها الحكومة او الحزب او الائتلاف الحاكم. وهذا ما تفعله الاحزاب في الديمقراطيات السليمة، وليس من بينها العراق بطبيعة الحال.

لم تقدم الاحزاب السياسية نظرية شاملة للدولة. وإذا كانت الدول نوعين: حضارية ديمقراطية حديثة، او سلطانية تقليدية، فان هذا الوضوح غير متوفر لدى الاحزاب السياسية العراقية لأنها في معظمها احزاب سلطانية تقليدية شخصانية في حياتها الداخلية. ومثل هذه الاحزاب لا تستطيع تقديم رؤية حضارية حديثة للدولة.

يحدد المنهاج الوزاري للحكومة في دولة حديثة الاهداف التي تسعى الحكومة الى تنفيذها في الزمن المعطى لها. ولهذا يجب ان تكون الاهداف واقعية ممكنة التنفيذ في إطار زمني محدد، وقابلة للقياس وفق معايير وارقام محددة.

لا اعرف حكومة عراقية منذ عام ٢٠٠٣ قدمت منهاجا وزاريا كتب بهذه الذهنية. ولهذا فلن احمل المنهاج الوزاري لحكومة السوداني فوق طاقته، لكني اغامر بالقول انه غير قابل للقياس في العديد من فقراته.

من الناحية الشكلية يتألف المنهاج الوزاري من الجزء الذي كتبه فريق الحكومة، وما تم الاتفاق عليه بين الكتل السياسية فيما سمي بورقة المنهاج الوزاري والتي تعتبر "جزءً لا يتجزأ من المنهاج الوزاري"، كما قال. وثمة نقطة جوهرية في ورقة الاحزاب وهي النص على "اجراء انتخابات مبكرة خلال عام".

وهذه العبارة الصغيرة تنسف معظم ما جاء في المنهاج الوزاري ويحول الحكومة الى حكومة مؤقته انتقالية عمرها عام واحد من تاريخ منحها الثقة في ٢٧ تشرين الاول ٢٠٢٢. ونحن نعرف ان اجراء الانتخابات المبكرة يتطلب حل البرلمان الحالي وينهي ولاية الحكومة الحالية، حيث سيكون على البرلمان الجديد منح الثقة لحكومة جديدة.

ولست ادري كيف توصلت الاحزاب الى هذه الفكرة العبقرية وكيف رضي السوداني بهذه القنبلة الزمنية الموقوتة. كان على السوداني ان يضع خطة لمدة عام واحد، ولا يرسم صورة وردية لمصفوفة اهداف كبيرة عريضة كثيرة لا يمكن تحقيقها في عام واحد، والا فكيف يمكننا القبول بقوله ان المنهاج الوزاري يتبنى خطة واقعية قابلة للتنفيذ تتضمن اصلاح القطاعات الاقتصادية والمالية والخدمية ومعالجة الفقر والبطالة ومكافحة الفساد الاداري والمالي ووقف الهدر بالمال العام وبما بضمن ارساء الحكم الرشيد وتخفيف العبء عن المواطنين بمكافحة التضخم والعمل على استقرار اسعار السلع والعمل على ارياء الامن والاستقرار وانفاذ القانون وتعزيز هيبة الدولة وتلبية مطالب الشعب بشكل عام والشباب المحتجين خصوصا.

هل يمكن تحقيق كل ذلك في عام واحد؟!

لا قيمة لما تبقى من ملاحظات ايجابية او سلبية ما دمنا نتحدث عن عام واحد فقط!

المعيار الخامس والاخير في تقييم الحكومة هو حجم الانجاز، والذي تستمد منه الحكومة ما يسميه ديفيد ايستون "شرعية الانجاز" وهذه تختلف عن شرعيات ماكس فيبر الثلاث) التقاليد، الكاريزما، العقلانية)، كما تختلف عن شرعية التمثيل القائمة على اساس الانتخاب. تحصل الحكومة على شرعية الانجاز من خلال ادائها الناجح في تحقيق السعادة للناس في مختلف المجالات التي تتعلق بها تطلعاتهم الامر الذي يُكسبها مقبولية ورضا الناس عنها.

تلزم الحكومة نفسها بمنهاج وزاري وبرنامج عملي تعتقد انه سوف يحوز على رضا الناس، وبالأخص عامة الناس الذين تنتمي إليهم فئة الفقراء والمحرومين وذوي الدخل المحدود. وهو الامر الذي اوصى به الامام علي في كتابه الى مالك الاشتر بقوله: "وليكن أحب الامور اليك اوسطها في الحق، واعمها في العدل، واجمعها لرضى الرعية، فان سخط العامة يجحف برضى الخاصة، وان سخط الخاصة يغتفر مع رضى العامة."

يعتمد رضا العامة، اي عامة الناس، على ما يستطيع ان تقدمه الحكومة من انجازات مادية ملموسة خلال مدة ليست بالطويلة. ليس بالضرورة ان تكون كل مطاليب الناس معقولة وممكنة ومن ضمن صلاحيات الحكومة، لكن هذا لا يخلي ساحة الحكومة من ضرورة ان تحقق الانجاز المطلوب بالدرجة التي يُكسبها المقبولية ورضا الناس.

معيار الانجاز في التقييم يحتاج الى وقت قبل تفعيله. لا يمكن تقييم الحكومة على اساس هذا المعيار منذ اليوم الاول. ربما نحتاج الى ١٠٠ يوم او ربما سنة او غير ذلك. وفي كل الحالات لا يمكن اغفال عامل الزمن. وفي القراءة الاولى يبدو ان المنهاج الوزاري أغفل عامل الزمن في الكثير من صفحاته. وكان بالإمكان تقسيم منظومة اهداف الحكومة الى ثلاثة انواع زمنيا: النوع العاجل، والنوع المتوسط، والنوع بعيد المدى. وتطبيق معيار الانجاز على اساس هذا التقسيم الزمني، ومن ثم مراقبة تطور شرعية الانجاز وفق هذه المراحل الثلاث.

وفي كل الحالات فان الانجاز يتوقف على عوامل كثيرة يجب اخذها بنظر الاعتبار، مثل العامل المالي وتوفر الامكانات المادية الاخرى، والعامل القانوني والتشريعي والاداري، والعامل السياسي، والعوامل الخارجية، وقوى التأثير المحلية الحزبية والاجتماعية والدينية وغيرها. ولا يمكن اغفال التأثير الكبير للفساد المالي والاداري على قدرة الحكومة على الانجاز.

وقبل ذلك وبعده، فان الانجاز يتوقف على سلامة المركب الحضاري للدولة والمجتمع ومنظومة القيم العليا الحافة بعناصره الخمسة وهي: الانسان والارض والزمن والعلم والعمل. ونحن نعلم ان هذا المركب الحضاري يعاني من اختلالات حادة في جوانب كثيرة تعيق الاداء الجيد للمجتمع برمته بما في ذلك مؤسساته التنفيذية والتشريعية. ولا يمكن معالجة هذه الاختلالات دون ان يملك اصحاب القرار في التشريع والتنفيذ والادارة روية حضارية حديثة للدولة والمجتمع والافراد. وهذا امر لم تثبت السنوات الماضية ان الطبقة السياسية التي تولت الامور بعد سقوط النظام الدكتاتوري تملكه بدرجة من الوضوح تمكنها من تشكيل حكومات حسنة الاداء بالدرجة الكافية للحصول على درجة النجاح في مادة "شرعية الانجاز".

حكومة السوداني بنت هذه الطبقة، كما كانت حكومة الكاظمي من اسوأ افرازات هذه الطبقة بطبعة اخرى. ويتوقف نجاح السوداني على قدرته في تجاوز ذاته وطبقته السياسية وقدرته على ممارسة الحكم والادارة بنموذج حضاري حديث يتخلص بالصورة الممكنة من عيوب التأسيس والتحيزات الفئوية المتنوعة وقياس اعماله بنموذج الدولة الحضارية الحديثة وليس بنموذج الادارات السيئة التي سبقته. أستطيع ان اتمنى في هذه المرحلة، ولكني لا أستطيع ان احكم أكثر من هذا، لكني سوف اتابع عن كثب تصرفات هذه الحكومة وسوف أعلن عن ارائي بشأن تصرفاتها تباعا.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق