لا أتفق مع توصيف "سرقة القرن"، على قضية ضياع قرابة أربعة ترليون دينار من تأمينات الهيأة العامة للضرائب المودعة في مصرف الرافدين الحكومي العراقي، لأن هذا الوصف يوحي بانها أكبر عملية سرقة في تاريخ العراق المعاصر، بينما لم يثبت لي عدم وجود سرقة أكبر منها، فقد تكون هناك سرقة بخمسة أو عشرة مليارات دولار بدون أن يعرف أحد تفاصيلها...
لا أتفق مع توصيف "سرقة القرن"، على قضية ضياع قرابة أربعة ترليون دينار من تأمينات الهيأة العامة للضرائب المودعة في مصرف الرافدين الحكومي العراقي، لأن هذا الوصف يوحي بانها أكبر عملية سرقة في تاريخ العراق المعاصر، بينما لم يثبت لي عدم وجود سرقة أكبر منها، فقد تكون هناك سرقة بخمسة أو عشرة مليارات دولار بدون أن يعرف أحد تفاصيلها.
لا أستبعد وجود سرقة مهولة تصغر معها ما سميت بـ"سرقة القرن"، فنظامنا السياسي يتخفى عن أنظار الناس، السرية طبعه، والصفقات غير القانونية هي الترتيب السائد بين أركان النظام، حتى إن قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 قد أسرف في مسألة الحفاظ على سرية الوثائق والبيانات الرسمية وكأنه يريد التستر على الإجراءات التي تقوم بها السلطة.
ثم إنني أعاني من مشكلة غياب مصداقية المعلومات المتداولة، نواب البرلمان لا يمارسون دورهم بنزاهة وفق القانون، وهم مصدر غالبية هذه المعلومات، يستند النائب في عمله حسب العداوة والصداقة مع المسؤولين التنفيذيين، القريب من كتلتنا البرلمانية لا نمسه بسوء، وخصمنا السياسي نتولاه ضرباً مبرحاً بكل ما أوتينا من حجج قانونية وغير قانونية لنثبت فشله ونطرده أو نقلل من حظوظه في الترقي الوظيفي.
أغلب أدوار البرلمانيين سياسية تسقيطيه وليست للمراقبة والتشريع، يستغلون حصانتهم لأغراض غير تلك التي وضعها القانون، موافقتهم على ترشيح وزير أو إقالته لا تكون مجانية لصالح المجتمع، بل يجب أن يُدفع لها ثمن، إما ثمن سياسي عبر تسقيط الخصوم، أو بالحصول على حفنة من المال.
لا حاجة هنا لسرد الأدلة لإثبات عمليات التسقيط والبيع والشراء للمناصب، هم أنفسهم يتحدثون بهذه اللغة، وتكاد اللغة السائدة بينهم هي الاتهامات المتبادلة بهذه الأمور التي نتحدث عنها، ويبتعدون عن الأحاديث المفيدة في سياقها المؤسساتي.
من يُثبت أن المتهمين فيما يعرف بـ"سرقة القرن" هم أنفسهم الذين قاموا بالسرقة؟ أليست هناك تهم كيدية وعمليات تسقيط؟
من يقول أن هؤلاء هم المتهمين فقط؟ ألا توجد شخصيات أخرى تسببت بشكل مباشر أو غير مباشر بعملية السرقة؟
إذا كانوا يتحدثون عن ترليونات الدنانير الضائعة، لماذا لا يعلنون كيف كشفوها وأين ذهبت الأموال؟
ولنفترض إن كل شيء كان سليماً من الناحية القانونية ومثبت على أرض الواقع، فمن يضمن محاكمة عادلة للمتهمين؟ ومن يستطيع إبقائهم داخل الأراضي العراقية قبل هروبهم إلى الدول التي يحملون جنسيتها؟
عمليات الكشف عن ملفات والفساد بين فترة وأخرى أصبحت معتادة في العراق، وإغلاق ملف فساد أسهل بكثير، الوقت كفيل به، اشبعه تحقيقات وجلسات قضائية وارفد وسائل الإعلام ببعض التفاصيل السطحية ثم ينتهي الموضوع ويُسنى.
من موجبات عدم الثقة بالنظام السياسي غياب الحسم في حل الملفات المعقدة مثل قضايا الفساد، فعندما جاء رئيس الوزراء حيدر العبادي عام 2014 أطلق حملة كبيرى لمكافحة الفساد وألغى مناصب حكومية كبيرة مثل منصب نواب رئيس الجمهورية، واشتغل على مسالة تخفيض رواتب الدرجات الخاصة، كما كشف عشرات الآلاف من الجنود الوهميين في وزارة الدفاع.
حصل العبادي على تفويض شعبي وبرلماني وحتى من المرجعية الدينية ولو بشكل غير مباشر من أجل ضرب الفاسدين بيد من حديد، لكن يد الفساد قد أذابت يد الحكومة وهكذا انتهت قصة أربع سنوات مع العبادي.
جاء عادل عبد المهدي عام 2018 بقصة الأربعين ملفاً للفساد والتي قال إنه سوف يحلها خلال فترة حكمه، لكنه جعل الدولة أسيرة بيد مجموعة ضيقة من الأحزاب والجماعات المقربة من إيران لينتهي به المطاف مستقيلاً تحت أصوات المتظاهرين المطالبين بمحاكمته.
جاءت قصة "سرقة القرن"، لتضاف إلى مجموعة من الملفات التي تفتح مرفقة بالصخب الإعلامي والسياسي، وتغلق في الليالي المظلمة دون أن يعرف بها أحد.
نظام الفساد في العراق قوي جداً، وما يعلن بين فترة وأخرى عن القبض على متلبس بالرشوة، أو سياسي غير نزيه ليست إلا بعض الأقراص المخدرة لتقول بأن النظام لديه معايير وضوابط للمحاسبة، أما الحقيقة فهي إن الفساد يعلو ولا يُعلى عليه، والقانون فوق الجميع لكنه لا يكون فوق الفساد.
اضف تعليق