q
يتوقف النمو الشامل في المجتمعات على ما تتمتع به الطبقات الاجتماعية من تربية وتعليم، وذلك يعني لا يجوز ولا يمكن ان نفصل العملية التطويرية عن التربية والتعليم والتأكيد عليها منذ الصغر، فلا يوجد تطور حضاري دون الاستناد على رقي علمي خالي من الشوائب والعوامل التي تضعفه...

احتضنت المدارس الابتدائية والثانوية الآلاف من الطلبة في مراحل متفاوتة، وسبق هذا التوافد على المرافق التربوية والتعليمية، هب الأهالي الى الأسواق لتجهيز الأبناء بالمستلزمات من الملابس وغيرها من الاحتياجات القرطاسية، بينما لا يزال بالنسبة لذويهم الامر مجهول ولا يعرفون ماذا سيتلقون ويكتسبون من معرفة ومهارات تعليمية وتربوية.

بداية العام الدراسي الحالي كانت غير تقليدية فيما يتعلق بالتحضير المكثف، بعد ان منعت جائحة كورونا التلاميذ من الانتظام في الفصول الدراسية، قرابة الموسميين، وقد سارعت وزارة التربية الى الإعلان عن ان العام الحالي سيكون دوام المدارس بشكل حضوري.

التأكيد على الدوام الحضوري جاء بعدما لمس الوزارة والاهالي بصورة جلية مدى الإخفاق والتراجع في المستوى التعليمي لدى الطلبة في العاميين الماضيين، وكان لابد من حصول الإخفاق؛ طالما البنية التحتية للتعليم الالكتروني في العراق غير متماشية مع الاحتياجات التربوية وتوفير الاجواء المناسبة للتفوق والتميز.

في هذا المقال لا نحاول التطرق الى كل ما يتعلق بالعملية التعليمية الجارية في البلد، ونسعى للتركيز في الطرح على أهمية الاعتناء بالجوانب التربوية والتعليمية بشكل أكثر من الجوانب المادية الأخرى، المتمثلة بالكتب والمواد الدراسية اللازمة.

ولا يكفي الاهتمام بهذه الأمور والاستغناء عن الأشياء الأكثر أهمية لو وضعناها في المعايير العامة التي تحكم حياة الافراد وبناء شخصيتهم، فمن الملاحظات التي يمكن تسجيلها على الحقل التعليمي في الفترة الأخيرة هو تحول التعليم في البلد الى نمط من الأنماط الحياتية المتعددة، وعدم إعطائه الاهتمام الكافي الذي يجعله في مقدمة النقاط الضرورية لتكوين شخصية الطلبة في مراحلهم العمرية الأولى.

نجد همّ الأهالي في هذه الأيام ينصب على اظهار التلميذ بمظهر لائق امام زملائه، وهذا لا يعني اننا ضد الاعتناء بالمظهر الخارجي ابدا، لكن يجب ان يكون نوع من التوازن بين الجوانب المتبقية، فالزاد الأهم بهذه المرحلة العمرية هي تنشئة الأطفال بصورة جيدة على الصفات والخصال الحميدة التي تجعل منهم رجال المستقبل وبُناته.

لقد تحول التلميذ في المدارس الحكومية والأهلية الى رقم عابر الى جانب الأرقام المتوالية التي تدونها الإدارات المدرسية في سجلاتها، وقد اخضعت الاعداد الكبيرة من الطلبة الى الإجراءات الإدارية أكثر منها الى الارشادات التربوية، ونتيجة هذا الاهتمام الأحادي الجانب، ظهر لنا جيل وان تمكن من مواده الدراسية بنسبة معينة، لكنه قليل الشعور بمبادئ الاحترام للشخص المقابل.

بينما التربية بمعناها الواسع وما يراد منها، تعني عملية التلقين المعرفي والتطوير العقلي، لضمان بقاء واستمرار المجتمعات الإنسانية بقيمها وهويتها والتي تشمل عاداتها وتقاليدها، وتؤكد ذلك الدكتورة المتخصصة في المجال التربوي نوال احمد نصر، اذ تقول هي "الأداة الأساسية التي تسعى بها الأجيال الأقدم إلى الحفاظ على بقاء واستمرار الجماعة، بنظمها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبقيمها الأخلاقية، وسلوكياتها وكل ما يرتبط بهويتها، ونقلها إلى الأجيال الجديدة".

يتضح لنا من التعريفين السابقين أهمية التأكيد في المدارس على التمسك بالموروث الثقافي التربوي الذي خلفه لنا الآباء نقلا عن الأجداد، وبالتالي ساعد البشرية على الاهتداء الى السلوكيات الحميدة والخصال الإيجابية التي تبني المجتمع وتقوي لحمته، ولا يحصل ذلك دون الاهتمام في الأساس التربوي والتعليم من الصغر، ليكون الفرد فيما بعد قادر على تحمل المسؤولية الإصلاحية.

للقائمين على العملية التربوية بعض النقاط التي تعد بمثابة خطة العمل والتعامل مع الأطفال في المراحل العمرية المبكرة، لتلازمهم وتعيش معهم ما تبقى من حياتهم، وبالتالي تحدد السياقات العامة وملامح الشخصية الفاعلة والمؤثرة في المجتمع، فالأطفال بالمدارس وخصوصا في الوقت الذي تشتد فيه الهجمات الثقافية الدخيلة، يحتاجون الى بيئة خاصة تغذيهم بالخبرات الاجتماعية وتحدد كيفية التعامل مع العالم الجديد المتمثل بالجو الدراسي ليشع نور العلم على مفاصل حياتهم.

ولا تقتصر عملية التنشئة الاجتماعية على البيئة المدرسية فحسب، بل هنالك عوامل مجتمعة تتحد فيما بينها لتشكل الكم الكبير المتجسد بالمنظومة القيمية التي يحتكم اليها الفرد عند الشروع بتصرف ما يتعلق بضرورياته اليومية، فالمدرسة وحدها لا تكفي بأن يكون الطالب او التلميذ مثالي في كل شيء، وهنالك عوامل مساعدة أخرى منها النادي الرياضي والاجتماعي ودور العبادة وغيرها.

الخلاصة يتوقف النمو الشامل في المجتمعات على ما تتمتع به الطبقات الاجتماعية من تربية وتعليم، وذلك يعني لا يجوز ولا يمكن ان نفصل العملية التطويرية عن التربية والتعليم والتأكيد عليها منذ الصغر، فلا يوجد تطور حضاري دون الاستناد على رقي علمي خالي من الشوائب والعوامل التي تضعفه، وبالتالي يكون ركيزة ودعامة قوية ترتكز عليها الأجيال للمضي قدما في مواجهة التحديات المعاصرة.

اضف تعليق