q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

للعبودية وجوه

لو كان القطاع الخاص محكوما بقوانين وضوابط وقدرة على المراقبة كما يجري في العالم لتبدد قلق الشباب، ولو فُعل بطريقة صحيحة لتوفرت فرص عمل تشبع حاجتنا، ولقدم امتيازات مغرية لجذب الأيدي العاملة، ولفضله الشباب على القطاع العام، لذلك يفترض أن يحكم العمل فيه بعقود تحدد بنودها الجهات المعنية...

التقيته صدفة فسألته: أين يعمل ولدك الآن ؟، فأجابني بوجوم: في السجن، ما دعاني للرد سريعا: كيف بالسجن؟ فالفتى مثقف، وتمكن من انهاء دراسته الجامعية بتفوق، ومعروف بأخلاقه الرفيعة، ومسالم بطبعه، فلم تتسلل اليه الروح العدوانية كما تسللت لغيره، بالرغم من التراكمات المريرة لضغوط حياتنا الشائكة، ما أشاع الاحباط وفقدان الأمل بالمستقبل لدى الكثيرين من أمثاله، قابل الأب دهشتي بضحكة مشوبة بالحزن: لا يذهب بالك بعيدا، عمله يشبه السجن الى حد كبير، بائع في (مول) يبدأ دوامه من الساعة العاشرة صباحا وحتى الحادية عشرة مساء بمعدل (12) ساعة يوميا، وليس لديه من الوقت سوى للنوم واستبدال الملابس، وبأجر شهري قدره (600) الف دينار من دون التمتع باستراحة بما في ذلك أيام الجمعة.

وبابتسامة مماثلة قلت له: لا تبتئس فابنتي مثل ولدك في السجن ايضا، فمنذ تخرجها من الجامعة، وهي حبيسة المنزل، وحالتها النفسية بائسة، لم نجد لها فرصة عمل مناسبة، فثقافتنا حساسة ومازالت لم ترق لمستوى يتفهم فيه المجتمع عمل الفتيات في القطاع الخاص بعد أن أقفل القطاع العام أبوابه.

دعونا نناقش راتب الفتى الذي لا يقارن سوى بأدنى راتب يتقاضاه موظفون غير ماهرين في القطاع الحكومي وبساعات عمل محددة، ومثله لا يكفي للإيفاء بمتطلبات العائلة، اما اذا كانت ممن لا تملك منزلا فأمرها عسير جدا، فبدلات الايجار تستنزف الراتب كله ان لم يكن أكثر، فضلا عن الخضوع لأمزجة أصحاب العمل الذين غالبا ما يلوحون بالاستغناء عن خدمات العاملين، فيرضخون للأوامر وان كانت تنال من كرامتهم.

تقودني هذه المشكلة للقول: ان غياب الضوابط التي تحددها الدولة تدفع القطاع الخاص للعمل على هواه، ومن أهوائه انه بخيل، ويسعى للحصول على أطول مدة عمل مقابل أقل أجر، المال محرك أساس لهذا القطاع، ونادرا ما يكون للقيم الانسانية حضور، فنسبة بطالة الشباب المرتفعة وسعت من خيارات أصحاب العمل، والا بماذا نفسر أجر شهري مقداره (150) الف دينار لمعلمة في مدرسة أهلية، او (750) الف دينار لحامل شهادة الماجستير في الجامعات الأهلية، فهل من اذلال للإنسان أكثر من هذا ؟، ان قبول الناس بالأمر الواقع لا يعنى رضاها عنه، بل مجبرة بسبب ضيق الخيارات، بانكسار وألم ينظر الشباب للحكومة لعلها تحررهم من افتراس المتوحشين، انها عبودية بوجه آخر.

يشير واقع القطاع الخاص على ضيقه ان حقوق العاملين فيه خارج الاهتمام، والمستقبل فيه غير واضح، والعمل غير آمن، ما يدعو الشباب للمطالبة بالتعيين في القطاع العام والاستقتال من أجله، لكن الدولة غير قادرة على تلبيته للجميع، فيتسع التذمر وتزداد النقمة على الحكومات.

لو كان القطاع الخاص محكوما بقوانين وضوابط وقدرة على المراقبة كما يجري في العالم لتبدد قلق الشباب، ولو فُعل بطريقة صحيحة لتوفرت فرص عمل تشبع حاجتنا، ولقدم امتيازات مغرية لجذب الأيدي العاملة، ولفضله الشباب على القطاع العام، لذلك يفترض أن يحكم العمل فيه بعقود تحدد بنودها الجهات المعنية كالأجور وساعات العمل وغيرهما، ومحاسبة منتهكيها عمالا كانوا او أصحاب العمل.

يتزامن كلامي مع اعتزام مجلس النواب مناقشة مشروع قانون الضمان الاجتماعي، ولكن قبل ذلك يجب التداول فيه مع أصحاب الشركات والنقابات العمالية، فلديهم خبرة يمكن أن تثري القانون وتسد ثغراته، بما يحقق توازنا بين مصالح العمال وأصحاب العمل، والتأمل في تجربتنا السابقة التي أضاعت حقوق الناس وأسهمت بهجرة الكثير من أصحاب الشركات لاستثمار أموالهم في دول الجوار. بالتأكيد ليس جميع عمال القطاع الخاص يعملون في شركات مسجلة لدى الدولة، بل نسبة كبيرة منهم يعملون خارجها، ما يقتضي السيطرة على هذا النوع من العمل، وأتمنى إعادة تجربة مكاتب التشغيل التي طواها النسيان.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق