لقد انتهت حصيلة معارك الاقطاب والزعامات عند مرفأ تشكيل الحكومة، لتبدأ معركة جديدة خلف الاســتــار لتقاسم المــواقــع فـي الحكومة الجديدة، وسيبدأ اختبار قـوة رئيس الــوزراء وقـدرتـه على ادارة الـتـوازنـات في مفاوضات تشكيل الحكومة بين المكونات أولا، وبين القوى التي رشحت السيد السوداني وهي قوى الإطار التنسيقي ثانيا...
قبل نجاح رئيس الوزراء المكلف السيد محمد شياع السوداني بنيل ثقة مجلس النواب والتصويت على برنامج حكومته، اشتغلت ماكنة سياسية إعلامية ضخمة برفع سقف التوقعات لدى العراقيين وتصوير انتهاء ازمة تشكيل الحكومة بأنها معجزة سياسية هبطت من السماء على ارض العراق.
لا شك ان عبور الانتخابات النيابية المبكرة التي اجريت في تشرين عـام 2021 وبعد عام مضن من الصدامات الدامية ومعارك الشارع والصالونات والأروقــة السياسية والاعلامية، يعتبر مكسبا فـي لحظة محفوفة بالمخاوف والنهايات المرعبة، لكن تشكيل الحكومة لوحده لا يعد إنجازا ضخما لأطراف العملية السياسية، بقدر ما يوصف بانه أكبر تمرين وتجربة سياسية تخوضها طبقة لا تجيد تدوير الزوايا الحرجة، رغــم ذلــك شعر الـنـاس والكثير مـن النخب والعقلاء من السياسيين بالارتياح لهذه الصحوة المتأخرة.
وسيكون مبكرا الحديث عن قوى فائزة واخـرى خاسرة، ورهـان ناجح واخـر فاشل، اذ تتحمل جميع القوى السياسية أوزار عام كامل من المماحكات والالعاب السياسية التي كادت تودي بالبلاد وتدخلها في حرب أهلية، وهو ما استدعى تحذيرات أممية ودولية لخصتها الاحاطة غير المسبوقة، التي قدمتها رئيسة بعثة الامم المتحدة في الـعـراق جينين بلاسخارت في الـرابـع من تشرين الاول امــام مجلس الامــن، والبيانات التي صدرت من دول كبرى كالولايات المتحدة وبريطانيا وسفراء أوروبيين في بغداد.
لقد انتهت حصيلة معارك الاقطاب والزعامات عند مرفأ تشكيل الحكومة، لتبدأ معركة جديدة خلف الاســتــار لتقاسم المــواقــع فـي الحكومة الجديدة، وسيبدأ اختبار قـوة رئيس الــوزراء وقـدرتـه على ادارة الـتـوازنـات في مفاوضات تشكيل الحكومة بين المكونات أولا، وبين القوى التي رشحت السيد السوداني وهي قوى الاطار التنسيقي ثانيا.
فقبل تشكيل الحكومة بشهر طرحت ورقة البرنامج الحكومي المفترض لهذه الحكومة في بنوده الرئيسة المتعلقة بمطالبات الكرد والسنة، والتي قيل إن بعض أطراف الاطار التنسيقي تحفظت عليها (السيد عمار الحكيم- الحاج هادي العامري-الدكتور حيدر العبادي) وقيل ايضا إن صقور الاطـار هم الذين وافقوا عليها خلاف ما كان متوقعا، خصوصا ما يتعلق منها بنفط الاقليم وتصديره وقــرار المحكمة الاتحادية بخصوصه، وقضية كركوك وأمن المناطق (المتنازع عليها) وحصة الاقليم من الموازنة والبيشمركة، بينما كان تحالف السيادة السني يطالب بـعـودة نـازحـي جــرف الصخر وقضية المفقودين وإعمار المناطق المحررة والعفو العام وإلغاء هيئة المساءلة والعدالة ومطالب اخـر.
اذا استجيب للطرفين الكردي والسني بهذه الالتزامات الكبيرة، تكون الحكومة المرتقبة قد كبلت نفسها بشروط يصعب عليها تجاوزها بسهولة، خاصة ما كان مرتبطا بقرارات المحكمة الاتحادية الباتة، والمشكلات المعلقة التي هي مدار أزمة مستدامة بين الاقليم والمركز، ومنها ايواء قوميين اكـراد من تركيا وايــران في كردستان العراق، بما تسبب في هجمات مسلحة من جانب الجارين انتهكت سيادة وأمـن العراق واوقعت خسائر كبيرة، أحرجت أطرافا عراقية ذات علاقة خاصة مع انقرة وطـهـران (مــولاة بلا شروط).
الامر لا يتوقف على هذه الشروط فحسب، اذ لا يقل موضوع توزيع الحقائب الوزارية والمناصب الخاصة المؤثرة، حساسية بين اطـراف الاطار التنسيقي نفسها، فليس هناك من يزهد بالمواقع الحكومية والحصص المتوقعة الا القليل النادر، اذ الأغلبية تقاتل على نيل حصة وازنة من التشكيلة الحكومية الجديدة، لقبض ثمن الاتعاب والمواقف السياسية، وهــذه قصة لا تنتهي في العراق، فالتوافقات والتأييدات لها ثمنها الخاص، ولا تعبر عن واجـب وطني وبرنامج سياسي يعنه الحزب أو الفصيل امـام الجمهور العام، فحكومة (الخدمة الوطنية) تعني في تفاصيلها ارضاء القوى الداعمة لها، فوق ذاك عمدت قوى سياسية إلى احراج رئيس الحكومة الجديدة قيد التشكيل، بمطالبات شعبوية تصطدم بحقائق وقوانين الاقتصاد، كالمطالبة بإعادة سعر صرف
الدينار العراقي بدعوى معالجة الفقر، والبطالة وتحريك الاسـواق، فحتى لو استعانت الحكومة بـاقـوى خـبـراء الاقـتـصـاد فـي العالم لمعالجة معضلات الاقتصاد الريعي، فإن العراق سيبقى رهين مدخولات النفط كمصدر وحيد للايرادات في ظل دورة اقتصادية بدائية، وستبقى مافيات الاستيراد والفساد والربح السريع تعمل عملها المعطل للاستثمارات والمانع من الانـتـاج، كما ستبقى معدلات التوظيف في حدها الادنى، بغياب القطاع الخاص النشط وترهل ادارات الدولة وفساد هياكلها وأطقمها، كما وصفها وزير المالية المستقيل علي علاوي.
إن مطالبة رئيس الحكومة الجديدة باجتراح معجزات اقتصادية لا تعدو أكثر من مزايدات حزبية وإعلامية للاستثمار في مشاعر الجمهور المتوثب، ومن غير المعقول مطالبة الحكومة في ظرف سياسي وأمني مضطرب، محليا ودوليا بتحقيق نمو اقتصادي حقيقي غير مرتبط بارتفاع أسعار النفط، وتقليل البطالة ومواجهة غول الفساد المحمي بـإرادات سياسية مسلحة، وكل ذلك مرتبط هو الآخر بقدرة الحكومة على اقناع التيار الصدري بأنها لن تكون حكومة جناح شيعي متربص به، وفي ذات الوقت قادرة على احتواء احتجاجات ومطالبات بقايا تشرين من الشباب الغاضب، الذي يرفض السياسيين ويريد أحداث تغيير بلا بوصلة واضحة أو قدرات كبيرة فاعلة على الأرض، لكنها مطالبات قادرة على التأزيم والتحشيد وإرباك الأمن والنظام في محافظات ومدن كبيرة.
إن جل ما تستطيعه حكومة عراقية منسجمة بقاعدة دعم قوية هو العبور بالعراق من عنق الزجاجة، ووضعه على سكة التعافي السياسي تدريجيا، وهو ما يأمله الكثيرون ويرون أنه المهمة الاولى قبل أي مهمة أخرى. أما الحديث عن نهاية حقبة وبداية اخرى فلن يكون سوى أمان برع العراقيون من محترفي الخطاب الحزبي التبشيري في تسويقها دائما وتسببت في خداع الجمهور وضياعه وابعاده عن التفكير العقلاني.
اضف تعليق