مساهمة لبناء وعي صحيح حول الاساس السليم لبناء مجتمع صالح قادر على انتاج دولة حضارية حديثة. ويتمثل الاساس السليم في منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري المؤلف من خمسة عناصر هي: الانسان والارض والزمن والعلم والعمل، ولا أخفى على القارئ اني كثيرا ما استند الى القران الكريم...
مقالاتي حول "القيم" ليست بحثا حول مسألة "القيمة" كما تبحث في الفلسفة، وانما هي مساهمة لبناء وعي صحيح حول الاساس السليم لبناء مجتمع صالح قادر على انتاج دولة حضارية حديثة. ويتمثل الاساس السليم في منظومة القيم العليا الحافة بالمركب الحضاري المؤلف من خمسة عناصر هي: الانسان والارض والزمن والعلم والعمل.
ولا أخفى على القارئ اني كثيرا ما استند الى القران الكريم لاني وجدت فيه افضل ما اجده عادة في كتب علم الاجتماع والفلسفة والعلوم السياسية في هذا المجال.
ومن هذا على سبيل المثال والاستشهاد الآيات التالية: "أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ".
تمثل هذه الآية اصلا في بناء المجتمعات. وتبين الشرط الاساس لبناء المجتمع بناء سليما يضمن استقراره وثباته واستمراره وتقدمه وازدهاره. يقول العلامة الراحل السيد محمد حسين الطباطبائي في كتابه العظيم "الميزان في تفسير القران" ان هذه الاية تتضمن "استعارة تخييلية شبه فيها حالهم بحال من بنى بنيانا على نهاية شفير واد لا ثقة بثباتها وقوامها فتساقطت بما بني عليه من البنيان وكان في أصله جهنم فوقع في ناره، وهذا بخلاف من بنى بنيانه على تقوى من الله ورضوان منه أي جرى في حياته على اتقاء عذاب الله وابتغاء رضاه." وفي الآية "مثلان يمثل بهما بنيان حياة المؤمنين والمنافقين وهو الدين والطريق الذي يجريان عليه فيها فدين المؤمن هو تقوى الله وابتغاء رضوانه عن يقين به، ودين المنافق مبني على التزلزل والشك."
وصحيح ان الآية نزلت بصدد حادثة بناء مسجد ضرار، الا ان مغزاها يتجاوز مسألة بناء مسجد ويمتد الى مسألة اوسع هي بناء المجتمع، وتطرح القاعدة الاساسية لبناء المجتمع السليم.
وطبقا للاية ٣٠ من سورة البقرة، فان المجتمع عبارة عن مجموعة من الناس يعيشون في بقعة محددة من الارض وتربطهم منظومة علاقات على محورين هما: محور العلاقات الانسانية، اي علاقة الانسان باخيه الانسان، ومحور العلاقات الطبيعية اي علاقة الانسان بالطبيعة.
وتقوم منظومة العلاقات بمحوريها على اساس مثل اعلى يتبناه او يخلقه المجتمع وتنبثق منه منظومة القيم العليا التي تتحكم بمختلف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية وغير ذلك.
ويبين القران الكريم في عدد كبير من اياته ان هناك ثلاثة انواع من المثل العليا هي: المثل العليا التكرارية، والمثل العليا المحدودة، واخيرا المثل الاعلى المطلق.
واذا كانت المثل العليا التكرارية والمحدودة كثيرة العدد والنوع، فان المثل الاعلى المطلق واحد، هو الله سبحانه وتعالى.
ويستفاد من الاية الكريمة ان مآل المجتمعات التي تقام على اساس المثل العليا التكرارية او المحدودة هو السقوط والانهيار، في الدنيا او في الاخرة. في حين ان بناء المجتمع على اساس "تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ" من بنائها على غير ذلك. وتقوى الله ورضوانه هي تعبير عن منظومة القيم العليا المستمدة من المثل الاعلى المطلق، اي الله سبحانه وتعالى الذي "لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"، و "لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ"، والذي يعرّفه القران في بعض اياته بانه :"هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ؛ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ؛ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ". وتكون صفات الله، كالحياة والقوة والعلم والعدل والرحمة وغير ذلك، عناوين عامة لمفردات منظومة القيم العليا.
ويبين القران الكريم ان العنصر الثالث في بناء المجتمع اي منظومة العلاقات تقوم في الحالة السليمة على اساس الاستخلاف الرباني للانسان في الارض. والاستخلاف يعني، على المحور الانساني، حق الناس بحكم أنفسهم بانفسهم بوصفهم احرارا متساوين، ويعني، على المحور الطبيعي، استثمار الطبيعة والتمتع بخيراتها على اساس الوفرة في الانتاج والعدالة في التوزيع.
اضف تعليق