بوتين انطلق في هروب إلى الأمام فيما تحذر الولايات المتحدة من حرب نهاية العالم في حال استخدام السلاح النووي، متسائلة حول الخيارات المتاحة للرئيس الروسي. كيف سيجد بوتين مخرجا؟ كيف يتموضع بحيث يحفظ ماء الوجه ولا يخسر جزءا كبيرا من سلطته في روسيا؟ وهي أسئلة تتردد في جميع...
يبدو فلاديمير بوتين مصمما رغم النكسات التي تلحق بقواته في أوكرانيا والتشققات التي بدأت تظهر في روسيا نفسها، على المضي قدما في "هروبه إلى الأمام"، من غير أن يرتسم أي سيناريو للخروج من الحرب ما بين استحالة الدخول في مفاوضات في الوقت الحاضر، والتلويح باستخدام السلاح النووي.
ومع ضم مناطق أوكرانية وتعبئة مئات آلاف الروس وخطاب الكرملين المتوعد، تقول الباحثة ماري دومولان من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية "إننا نبتعد عن الحل أكثر مما نقترب منه".
وترى فرنسا أن بوتين انطلق في "هروب إلى الأمام" فيما تحذر الولايات المتحدة من "حرب نهاية العالم" في حال استخدام السلاح النووي، متسائلة حول الخيارات المتاحة للرئيس الروسي.
قال الرئيس الأميركي جو بايدن "كيف سيجد بوتين مخرجا؟ كيف يتموضع بحيث يحفظ ماء الوجه ولا يخسر جزءا كبيرا من سلطته في روسيا؟" وهي أسئلة تتردد في جميع العواصم الغربية التي تسعى لفهم أهداف بوتين وتبحث عن وسيلة لوقف الحرب.
وأعلنت رئيسة الوزراء الفنلندية سانا مارين المعارضة على غرار جميع دول أوروبا الشرقية لأي مساومة مع بوتين، أن "المخرج الوحيد من هذا النزاع هو أن تخرج روسيا ن أوكرانيا".
غير أن الانسحاب الروسي غير مطروح.
لا مفاوضات على المدى القريب
كما ليس من الوارد في الوضع الراهن الدخول في أي مفاوضات سلام والمستقبل يُحسم على الجبهة العسكرية حيث استعادت أوكرانيا المبادرة على وقع هجمات مضادة.
أقر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مقابلة أجرتها معه صحف من أوروبا الشرقية "ما زلنا في زمن حرب"، بعدما دعا لفترة طويلة إلى التفاوض واتهم باعتماد موقف مهادن حيال روسيا.
لكنه أضاف أن الحرب "لن تنتهي بمعاهدة سلام، بل في التوقيت والشروط التي يختارها الأوكرانيون" ولو أن باريس تردد أن الخروج من الحرب يجب أن يأخذ أيضا بالضرورات الأمنية الأوروبية.
في المقابل، اعتبرت دومولان العائدة من أوكرانيا أن الأوكرانيين "لن يتوقفوا قبل استعادة أراضيهم وإلحاق هزيمة عسكرية بروسيا"، مقرة في الوقت نفسه بأنها تجهل "في أي وقت يعتبر الأوكرانيون أنهم استعادوا ما يكفي من الأراضي" وما إذا كانت استعادة شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا لا تزال مطروحة.
اللجوء إلى النووي؟
الضعف الشديد لبوتين أو حتى يأسه قد يدشن مرحلة أكثر خطورة من الحرب بعد أن حذر الرئيس الروسي الغرب أن أي هجوم على الأراضي التي ضمتها روسيا قد يؤدي إلى رد نووي.
وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية ماريا زاخاروفا للصحفيين يوم الخميس إن موقف روسيا المتمثل في عدم خوض حرب نووية بحال من الأحوال لم يتغير.
وقال الرئيس جو بايدن في الأيام القليلة الماضية إن تحذيرات بوتين النووية جعلت العالم أقرب إلى “معركة نهاية العالم” أكثر من أي وقت مضى منذ أزمة الصواريخ الكوبية أثناء الحرب الباردة، حين اقترب الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة من مواجهة نووية.
دب جريح وخطير
وفيما وصفه دبلوماسيون بأنه "دبّ جريح" ما يزيد خطورته، يبقى من المستحيل كشف نوايا بوتين ولا أحد يعرف إلى أي مدى يمكن اعتبار "ابتزازه النووي" جديا.
وقال مصدر دبلوماسي فرنسي مؤخرا "اليوم هو في وضع صعب، هناك حرب لا يتمكن من الانتصار فيها، فما الذي يمكن أن يرضيه؟ لا ردّ لدينا. لكن التصعيد العمودي يبقى خطرا ماثلا. لا يمكن لديكتاتور أن يخسر حربا، لأنه إن خسر فهذا يعني موته".
ويحض عدد من المحللين أوروبا والولايات المتحدة على عدم الرضوخ لـ"الابتزاز النووي" الذي يمارسه بوتين ومواصلة دعم أوكرانيا بحزم.
وكتب المؤرخ الأميركي تيموثي سنايدر على موقعه الإلكتروني أن الرئيس الروسي "يخسر الحرب التقليدية التي شنها. وهو يأمل أن تردع تلميحاته إلى الأسلحة النووية الديموقراطيات عن تسليم أسلحة إلى أوكرانيا وتسمح له بكسب بعض الوقت لإبطاء الهجوم الأوكراني".
كذلك اعتبر الباحث جوريس فون بلاديل في مذكرة للمعهد الملكي البلجيكي للعلاقات الدولية أن "روسيا تحاول كسب الوقت على أمل أن تنهار الدول الأوروبية أمامها".
تعمق متاعب بوتين في روسيا
يواجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أخطر أزمة داخلية في حكمه المستمر منذ 23 عاما، ألا وهي النزاع العلني المتصاعد داخل دوائر النخبة الروسية حول من يجب أن يتحمل مسؤولية الهزائم الميدانية المتتالية في أوكرانيا.
فمنذ أن تسلم مقاليد السلطة من بوريس يلتسين في آخر أيام العام 1999، عكف بوتين بعناية على إحاطة نفسه بنخبة جديدة موالية له بشدة تتكون في الأساس من رجال مخابرات سابقين ورجال أعمال ومسؤولين تنفيذيين اتفقوا فيما بينهم على حل جميع الخلافات خلف الأبواب المغلقة.
لكن سلسلة من الهزائم المهينة لقوة عظمى سابقة على يد أوكرانيا الأصغر بكثير أضعفت سلطة بوتين وعمقت إحساسا بالأزمة في موسكو لم تشهده منذ حالة الفوضى التي عانت منها في التسعينيات من القرن الماضي والتي تعهد هو نفسه بإنهائها.
تشققات في روسيا؟
وذكر باحثون من بين المخارج الممكنة انهيار نظام بوتين.
وهم يستندون إلى إشارات استياء ظهرت مؤخرا في صفوف النخب الروسية حيال الهزائم في أوكرانيا، ولا سيما الانتقادات اللاذعة التي صدرت عن الزعيم الشيشاني رمضان قديروف ومؤسس مجموعة فاغنر شبه العسكرية القريبة من الكرملين إيفغيني بريغوجين.
كما انتقد عدد من المسؤولين والمشرفين على الدعاية الروسية حملة التعبئة الجزئية التي دفعت عشرات آلاف الروس إلى الفرار من البلاد، معتبرين أنها كانت فوضوية واعتباطية.
وأشارت الباحثة في معهد كارنيغي تاتيانا ستانوفايا إلى أن النخب الروسية خلافا لبوتين لا تعتبر أن أوكرانيا تطرح "مشكلة وجودية" لروسيا.
وكتبت في مجلة "فورين بوليسي" هذا الأسبوع أن "المسألة الجوهرية تكمن في معرفة ما إذا كانت النخب الروسية والمجتمع عموما مهيئة للحاق به في رحلته إلى الجحيم، أم أن بوتين فتح الطريق لسقوطه بنفسه بتصعيد رهانه الكارثي في أوكرانيا".
وأوردت صحيفة واشنطن بوست الجمعة أن أحد أفراد الدائرة المقربة من بوتين عبر له صراحة عن عدم موافقته على قيادة الحرب في أوكرانيا، غير أن مصادر في أجهزة الاستخبارات لفتت ردا على أسئلة الصحيفة إلى عدم وجود مؤشرات إلى مخاطر بإطاحة النظام.
وقالت ماري دومولان بهذا الصدد "يجب ألا نعتبر تمنياتنا واقعا" مشددة على أن التوتر بين "الفصائل داخل النظام" لا تطال الرئيس الروسي نفسه.
وختمت "لا أحد يعلم متى سيحصل ذلك، ووفق أي سناريو، ومن سيأتي بعد بوتين".
وقال سيرجي رادشينكو، المؤرخ المتخصص في فترة الحرب الباردة في جامعة جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة “تتآكل سلطة بوتين بسبب الإخفاقات العسكرية في أوكرانيا، وهناك شعور حقيقي بأن الخسارة في أوكرانيا ستقوض سلطته تماما”.
وأضاف “لم تمر روسيا في عهد بوتين بفترة أزمة حادة مثل تلك من قبل، لكن الآن هناك شعورا بوجود أزمة حادة لأن في كل يوم يسوء فيه موقف روسيا في ساحة المعركة، يتدهور بالتبعية وضع بوتين”.
ومنذ عام 1999، تجاوز بوتين سلسلة من الأزمات من غرق غواصة كورسك النووية عام 2000 وأزمة الرهائن في مسرح موسكو في عام 2002 إلى الاحتجاجات المناهضة للحكومة في عامي 2011 و2012، لكن لم تكن هناك أزمة تشكل تهديدا أخطر على وضع بوتين من الهزيمة المحتملة في أوكرانيا.
وبعد أكثر من سبعة أشهر من إصدار بوتين أمر الغزو، وجد زعيم الكرملين أن الهزائم في ساحة المعركة على بعد حوالي ألف كيلومتر من موسكو ارتدت لتهدد سلطته هو شخصيا في الوقت الذي يحتفل فيه بعيد ميلاده السبعين.
ولم يرد الكرملين على طلب للتعليق لكن بوتين يصف الحرب في أوكرانيا بأنها صراع أوسع نطاقا مع الغرب الذي يقول إنه عمل على إذلال روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 ويخطط الآن لتقسيم روسيا.
ومع ذلك، أجبرت الحرب بوتين على استنزاف كم هائل من الموارد المالية والسياسية والاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية.
وسيعتمد الكثير الآن على قدرة روسيا على تحسين موقفها العسكري في الشتاء.
وقالت تاتيانا ستانوفايا رئيسة شركة آر.بوليتيك للاستشارات السياسية إن “بوتين أصبح رهينة للوضع العسكري. لكنه أصبح أضعف بكثير بعد 24 فبراير”.
صراع مستتر على السلطة
لكن في الداخل، يواجه بوتين خلافا داخل النخبة التي أصابها بالصدمة بغزوه في 24 فبراير شباط لأوكرانيا ودعوته للتعبئة في 21 سبتمبر أيلول التي تعد الأولى منذ الحرب العالمية الثانية وقبل أقل من عام ونصف العام من انتخابات رئاسية تجرى في عام 2024.
وخسرت روسيا معقلها في ليمان مما يعرض الأجزاء الغربية من منطقة لوجانسك التي ضمتها روسيا للخطر. وهذه الخسارة أغضبت اثنين من الحلفاء المقربين بشدة من بوتين وهما الزعيم الشيشاني رمضان قديروف ومؤسس مجموعة فاجنر المرتزقة، يفجيني بريجوزن.
وسخر قديروف وبريجوزن من كبار الجنرالات، قائلين إن المحاباة متفشية في الجيش وأنه يجب تجريد كبار الضباط من رتبهم وإرسالهم إلى الجبهة حفاة القدمين للتكفير عن خطاياهم.
وقال رادشينكو “انتقادات قديروف تعكس على الأرجح صراعا مستترا على السلطة في موسكو نفسها. وليس وحده الذي يبث هذه الآراء”.
يضع هذا الغضب العام الموجه لكبار الجنرالات، بمن فيهم، ضمنيا، وزير الدفاع سيرجي شويجو، بوتين أمام معضلة: هل يقيل كبار الضباط في منتصف الطريق خلال حرب ويغامر بإثارة غضب الجيش، أم يخاطر بتحمل المسؤولية بنفسه؟
وشويجو هو أحد أقرب حلفاء بوتين وعين في منصبه عام 2012. وكان الرجلان يقضيان إجازاتهما بانتظام في غابات وجبال منطقة توفا التي ينتمي إليها شويجو.
وانصبت انتقادات قديروف أيضا على فاليري جيراسيموف، رئيس الأركان العامة لروسيا. وتوجيه ضربة نووية روسية يتطلب موافقة شويجو وجيراسيموف معا أو أي أحد يحل محلهما في منصبيهما.
وقال عباس جالياموف، كاتب خطابات الكرملين السابق، إن “هناك تصدعات متزايدة في النخبة”.
وأضاف جالياموف “إذا تمكن الجيش من تحقيق استقرار في الجبهة، فقد يستغرق الأمر وقتا أطول، لكن ستأتي نقطة لن يستطيع بوتين عندها إنهاء الحرب أو مواصلتها”.
فرض عظمة روسيا بأي ثمن
بالنسبة لفلاديمير بوتين، يشكل ترسيخ عظمة روسيا في النظام العالمي هاجسا قد يكون تُوّج بهجومه لإخضاع أوكرانيا، بعد أكثر من ربع قرن من الجهود.
لكن بعد هجوم روسي عسكري على أوكرانيا مستمر منذ سبعة أشهر وبالتزامن مع عيد ميلاده السبعين، أصبحت روسيا معزولة إلى حد كبير وجيشها منهكا. أما هو، فيهدد باستخدام السلاح النووي.
في العام 2000، وصل بوتين البالغ من العمر حينذاك 47 عاما، بجبهته العريضة ونظرته الثاقبة، إلى الكرملين خلفا لبوريس يلتسين الخاسر، بوعد صداقة وتعاون مع الغرب.
يومها، حيّا الرئيس الأميركي جورج بوش الابن "قائدا مميزا" تربطه صداقة مع الألماني غيرهارد شرودر والإيطالي سيلفيو برلوسكوني.
بعد عقدين، رأى جو بايدن، خامس رئيس أميركي في عهد بوتين، في الرئيس الروسي "قاتلا" حتى قبل الهجوم على أوكرانيا، فيما تراكمت الخلافات عبر السنوات والعقوبات الأميركية على روسيا، لا سيما بسبب اتهامها بانتهاكات لحقوق الإنسان.
في المقابل، لا زال بوتين يتمتع شعبية كبيرة في روسيا، إذ يفخر مواطنوه بتحقيقه ازدهارا نسبيا لهم وبعودة موسكو إلى نادي القوى العظمى.
كارثة جيوسياسية
فرض بوتين سلطة عمودية يغذيها الفساد حسب معارضيه، معتمدا على مساعدين أثرياء مثل الأخوين روتنبرغ أو رجل الأعمال الغامض يفغيني بريغوجين، منظم مجموعة فاغنر المسلحة والتي يعمل أعضاؤها في عدد من دول العالم لترسيخ النفوذ الروسي.
وسمح تعديل دستوري تمّ بموجب استفتاء نُظّم في أوج جائحة كوفيد-19، لبوتين بالبقاء في الكرملين حتى 2036، أي حتى بلوغه الرابعة والثمانين من العمر. وتزامن ذلك مع اتساع دائرة القضاء على المعارضة، مثلما انتهى الأمر بالمعارض الرئيسي له أليكسي نافالني في السجن بعد تعرضه للتسمم.
ويرى بوتين على غرار عدد كبير من الروس من جيله، أن زوال الاتحاد السوفياتي ونفوذه شكّل إهانة يجب محوها. كان حينذاك ضابطا في جهاز الاستخبارات السوفياتي (كاي دجي بي) في ألمانيا الشرقية وعاش الهزيمة بشكل مباشر.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أصبح الفقر الشديد واقعا في روسيا، في تناقض واضح مع أجواء الانتصار في الغرب. بعد سنوات، أكد بوتين أنه أُجبر، مثل العديد من مواطنيه، على العمل على سيارة أجرة بشكل غير قانوني.
وهذا ما أقنعه بأن نهاية الاتحاد السوفياتي كانت "أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين"، وما غذّى أيضا رغبته في الانتقام من حلف شمال الأطلسي (ناتو) والاتحاد الأوروبي الذي يتوسع باتجاه دول الكتلة السوفياتية السابقة.
واقتناعا منه بأن الغرب يسعى إلى إخضاع روسيا، أصبحت مهمته وقف ذلك وأصبحت أوكرانيا الخط الأحمر. بالنسبة لبوتين، شكلت الثورة المؤيدة للغرب في كييف في 2014، القشة التي قصمت ظهر البعير، واعتبر أنها انقلاب قام به متطرفون مناهضون لروسيا برعاية واشنطن.
وسط ذهول الغرب، ضمّ شبه جزيرة القرم الأوكرانية ثم أشعل فتيل الصراع الانفصالي في دونباس. في 24 شباط/فبراير 2022، وبحجة حدوث إبادة جماعية في هذه المنطقة الناطقة بالروسية، أدخل دباباته إلى البلد الجار.
في 2015، لخّص الرجل المولود لعائلة من لينينغراد من الطبقة العاملة وحائز حزاما أسود في الجودو، فلسفته قائلا "إذا كان القتال حتميًا، فعليك أن تضرب أولاً".
وتقول تاتيانا ستانوفايا التي تترأس مركز التحليل السياسي "آر.بوليتيك" إن بوتين "يعتقد أنه (...) إذا خسر هذه الحرب في أوكرانيا أو من أجل أوكرانيا، فلن تعود الدولة الروسية موجودة قريبًا".
وكان يتوقع أن تحقق العملية نجاحًا باهرًا بفضل جيش حديث وقيادة عززتها نجاحاته الحربية في سوريا بعد 22 عامًا من حكم بوتين.
لكن موسكو التي يستشري فيها الفساد والتي فوجئت بتصميم الأوكرانيين، اضطرت للتراجع عن كييف في الربيع. وكانت كلفة غزو الشرق والجنوب كبيرة من ناحية العديد والذخيرة، بينما تتلقى كييف مساعدات عسكرية غربية.
وجاء الخريف مرادفا لانسحابات متتالية. وبدا الفشل واضحًا عندما أصدر فلاديمير بوتين قرارًا في 21 أيلول/سبتمبر بتعبئة مئات الآلاف من جنود الاحتياط، أي مدنيين، وهو الذي طرح نفسه طوال عقدين كضامن لروسيا مستقرة وسلمية.
اقتصاديا، أصبح البلد الذي يخضع لعقوبات معزولا عن قطاع المال الدولي والتقنيات المتقدمة.
دبلوماسيا، العزلة واضحة. إذ لم يُدعَ بوتين لحضور جنازة ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، تماما كما لم يدع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون والرئيس السوري بشار الأسد.
نهاية سيئة
اليوم، يهرب عشرات الآلاف إن لم يكن مئات الآلاف من الروس، من التعبئة والقمع.
قبل أيام قليلة من بدء الهجوم على أوكرانيا، عبّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن قلقه بعد أن أصبح "بوتين أكثر تصلبا وأكثر عزلة ودخل في نوع من الجنوح الأيديولوجي والأمني".
لم يعد بوتين الرجل الذي يمارس ركوب الخيل عاري الصدر في التايغا أو يغوص في بحيرة بايكال، بل أصبح شخصًا يجلس على بعد أمتار من ضيوفه على طرف طاولة عملاقة، منذ أن بدأت جائحة كوفيد.
على شاشة التلفزيون، يبدو شرسًا ضد الغرب الذي يقول إنه يشهد حالة تدهور أخلاقي وتنهشه الأفكار الليبرالية وتحركات مجتمع الميم-عين. وفي نهاية أيلول/سبتمبر، تحدث عن ظهور "عبادة شيطانية نقية وقاسية".
ويقول الباحث السياسي الروسي المستقل كونستانتين كالاتشيف إن "ماكرون أو (أولاف) شولتس يختاران كلماتهما، لكن فلاديمير فلاديميروفيتش لا. يقول ما يفكر به ويفعل ما يريد". وأضاف "لديه حرية كاملة ولم يعد هناك شيء يمنعه" من ذلك.
وبالقناعة نفسها، يكرر بوتين أن أوكرانيا ليست أمة وأن استقلالها منعطف سيئ في التاريخ. بهذا المنطق، أعلن في 30 أيلول/سبتمبر ضمّ أربع مناطق أوكرانية إضافية الى بلاده، رغم ان جيشه واجه انتكاسات عدة فيها.
وهتف أمام حشد في الساحة الحمراء "النصر سيكون لنا".
وتقول المحللة تاتيانا ستانوفايا "إنه يعتقد فعلا أنه موحِّد الأراضي الروسية. من وجهة نظري، يمكن أن ينتهي الأمر بشكل سيء".
وفي الحديث عن ضربة نووية، يقول بوتين نفسه إن "الأمر ليس خدعة".
وضعك الله في السلطة
وسط إشادات به من مسؤولين روس منهم البطريرك الأورثوذكسي الذي وصفه بأنه "عطية من الله"، احتفل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الجمعة بعيد ميلاده السبعين، في وقت تزداد عزلة روسيا على الساحة الدولية ويتراجع زخم قواتها في أوكرانيا.
في روسيا، ضاعفت النخبة الروسية إشاداتها ببوتين، دون التطرق بأي حال إلى النكسات العسكرية التي منيت بها القوات الروسية مؤخرا على الجبهة الأوكرانية أو إلى عزلة موسكو المتزايدة والتي تخضع لسلسلة من العقوبات الغربية.
وقال البطريرك الأرثوذوكسي كيريل، متوجها إلى بوتين وداعيا للصلاة من أجل صحته، "وضعك الله في السلطة لكي تتمكن من إنجاز مهمة ذات أهمية خاصة ومسؤولية كبيرة بالنسبة لمصير البلد ومصير شعبه".
وتوجه إليه بصفته "قائدا وطنيا وفيا لوطنه"، خصوصا بعدما صادق الرئيس الروسي الأسبوع الماضي على ضم أربع مناطق أوكرانية تحتلها القوات الروسية بشكل كلي أو جزئي.
وتمنى البطريرك كيريل لبوتين الذي يرأس روسيا منذ العام 2000 والذي قد يبقى في الحكم حتى العام 2036، الصحة و"القوة الجسدية والمعنوية لسنوات عديدة" مقبلة.
وضع البطريرك كيريل، وهو رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية منذ العام 2009، كنيسته في خدمة سلطة فلاديمير بوتين ووصفه في العام 2012 بأنه "معجزة".
وعلى غرار البطريرك، سارع مسؤولون روس أيضا إلى تهنئة رئيس الكرملين. وأشاد الزعيم الشيشاني الاستبدادي رمضان قديروف "بواحدة من أكثر الشخصيات تأثيرا وتميزا في العصر الحديث". وقال قديروف، حليف بوتين، إنه رُقي إلى رتبة رفيعة في الجيش الروسي.
ومن جهته، نشر رئيس مجلس النواب الروسي فياتشيسلاف فولودين على تلغرام رسما للرئيس الروسي، وكتب "وجود روسيا من وجود بوتين".
وأعرب القادة الروس للمناطق الأوكرانية التي ضمتها روسيا عن ثنائهم أيضا، من بينهم القائد الانفصالي دينيس بوشيلين الذي عبر عن "امتنانه الكبير".
رأى الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشنكو، وهو الحليف الرئيسي لبوتين، أن تقديم جرار للرئيس الروسي بمناسبة عيد ميلاده مناسب، خصوصا أن مينسك مصنعة معروفة للجرارات، وفق ما صدر عن القناة غير الرسمية للرئاسة البيلاروسية على تلغرام "بول بيرفوغو" Pool Pervogo.
على مر السنوات، لم يقم بوتين في عيد ميلاده احتفالات عامة، لكن غالبا ما كان يزور في هذا اليوم مدينة سان بطرسبرغ وهي مسقط رأسه، أو يقضي يومه في التايغا مع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أو حتى في اجتماعات عمل.
وجمع بوتين الجمعة في سان بطرسبرغ قادة رابطة الدول المستقلة التي تضم العديد من دول الاتحاد السوفياتي السابق في "قمة غير رسمية".
وظهر بوتين في صورة نشرها حساب "بول بيرفوغو" وهو محاط بقادة آخرين ووراءهم جبل بطيخ ومجموعة فاكهة من جميع الأنواع.
وقبل هذا الاجتماع، كان عدد من رؤساء رابطة الدول المستقلة قد وجهوا رسائل تهنئة له، ومن بينهم الرئيس الطاجيكي إمام علي رحمن الذي أشاد ببوتين "القائد القوي والحكيم".
وفي يوم عيد ميلاده أيضا جاءت خطوات جديدة لتزيد الضغط على نظامه ونظام حليفه البيلاروسي وترفض غزو موسكو لأوكرانيا، إذ منحت لجنة نوبل النرويجية جائزة نوبل للسلام الجمعة في أوسلو للناشط الحقوقي البيلاروسي المسجون أليس بيالياتسكي، ومنظمتي "ميموريال" الروسية و"مركز الحريات المدنية" الأوكرانية غير الحكوميتين.
اضف تعليق