تكرست في العراق دكتاتورية جديدة بعد العام 2005 تمثلت برؤساء الكتل وقادة الأحزاب الذين لم يعد المشهد السياسي يحتملهم لتعددهم فباتت الزعامات السياسية في العراق من الكثرة بمكان، وهم بالغالب محصنين من المساءلة السياسية والقضائية، وبمنأى عن المساءلة الشعبية إذ لم يعد هؤلاء يترشحوا بالانتخابات بل البعض منهم...
أخذت الديمقراطية التشاركية تتردد في إرجاء العالم بوصفها الأسلوب الأمل لسد الثغرات التي تعترض الديمقراطية التمثيلية أو النيابية، فالأخيرة أضحت تفهم على أنها الطريق الديمقراطي لتشكيل الحكومات، وما تقدم بغاية الخطورة فالشعب لما يكون مصدر السلطة ومقياس شرعيتها ينبغي إن تكون له الكلمة الفصل في المسائل ذات الاهتمام العام.
وللأسف تكرست في العراق دكتاتورية جديدة بعد العام 2005 تمثلت برؤساء الكتل وقادة الأحزاب الذين لم يعد المشهد السياسي يحتملهم لتعددهم فباتت الزعامات السياسية في العراق من الكثرة بمكان، وهم بالغالب محصنين من المساءلة السياسية والقضائية، وبمنأى عن المساءلة الشعبية إذ لم يعد هؤلاء يترشحوا بالانتخابات بل البعض منهم أخذ يتعالى على الانتخاب ويرى نفسه كزعيم أوحد أو أعلى ويدين له العشرات من الأعضاء بالبرلمان بالولاء والانتماء لهذا بات البحث عن البديل أمر لا مفر منه.
فالديمقراطية التشاركية تزيد من مساهمة الشعب في الشأن العام على صعيد اتخاذ القرارات، ورسم السياسات، وبالخصوص فيما يتعلق بالحياة العامة ومصلحة المجتمع، فهذا النوع من الديمقراطية يعني ببساطة المساهمة الشعبية في تكوين المؤسسات الدستورية ومن ثم الإسهام في انجاز أعمالها وتحديد أولوياتها، والتشارك يشير إلى التحول في العلاقة بين المؤسسات التمثيلية والشعب والانتقال من علاقة التبعية إلى التشارك.
أي أن تتطور إلى درجة التشارك في الوظيفة أو على الأقل الانتقال إلى مرحلة من العمل المتميز بالشفافية وإطلاع الرأي العام على القضايا الجوهرية والاستماع لرأي الجمهور ومحاولة الاستجابة لتطلعات الشعب، بمعنى فتح نافذة من الحوار بين المسؤول وأفراد الشعب الأمر الذي ينسحب على أطر العلاقات الأخرى، الأمر الذي يفضي إلى اختصار المسافة بين المسؤول وأفراد الشعب ومنع تعنت أو تفرد الحاكم بإتخاذ القرار، ولما تقدم نحدد سمات الديمقراطية التشاركية بأنها:
1- تتبنى البناء الديمقراطي على أساس الطبقات المتعددة أو المراحل إذ من شأنها أن تزيد من مساهمة الفرد في الحياة العامة بكل المستويات.
2- أنها مكملة للديمقراطية التمثيلية أو النيابية وليس تبديلا شاملاً عنها.
3- من شأنها إن ترمم العلاقة بين الفرد والنائب عن الدائرة الانتخابية وتلزم الأخير على الرجوع بين الحين والأخر لمعرفة رأي الناخب.
4- من شأنها إن تكرس دور المجتمع المدني بكل تجلياته والذي من خلال مؤسساته يمكن المساهمة في الشأن العام والتأثير بالسلطات العامة.
5- من شأن هذا النوع من الديمقراطية إن يرمم الثقة بين الجمهور وممثليهم في المجالس التمثيلية على المستوى الوطني أو المحلي، حيث إن إعادة الانتخابات كل أربع سنوات قد لا يضمن للشعب السياسي رقابة فاعلة على المجالس التمثيلية وممثليهم فيها إذ إن انتظار تلك المدة الطويلة قد يتسبب في إحداث تغيرات عميقة وأضراراً جسيمة بالمصلحة العامة، لاسيما وان خلالها قد تتخذ قرارات غاية بالخطورة.
6- من شأن هذا النوع من الديمقراطية أن يعيد الثقة إلى الجماهير ويقدمون على الانتخابات، فعلى سبيل المثال في العراق سجلت الإحصاءات المستقلة تراجع عدد الناخبين في انتخابات 2021 إلى عدد غير مسبوق حيث أحجم ما يربو على الـ60% من الناخبين على المشاركة في الاقتراع العام لاختيار الممثلين في المجلس النيابي لأسباب شتى في مقدمها حالة اليأس التي دبت في عروق العراقيين بسبب الانحرافات التي رافقت عمل الحكومات ومجلس النواب ومجالس المحافظات في الدورات السابقة.
7- إن الديمقراطية التشاركية من شأنها إن تحقق العدالة الاجتماعية والسياسية في شأن التمثيل فقد يجري في أروقة المجالس التمثيلية أو الحكومية مناقشة مسألة تتعلق بفئة من الشعب كالنساء أو ذوي الاحتياجات الخاصة أو غيرهم فإشراك هؤلاء والهيئات التي تمثلهم مثل منظمات المجتمع المدني التي تسهر على صيانة حقوقهم ستكون النتائج مبهرة في الاستجابة لمشاكلهم ووضع الحلول الحقيقية التي من شأنها إن تخفف معاناتهم.
كما إن لظهور هذا النوع المستحدث من الديمقراطية أسباب عديدة في مقدمتها:
1- النظام الانتخابي المعمول به: حيث تعجز كل الأنظمة الانتخابية من التمثيل الكلي للإرادة العامة وبقاء عدد قد يكون كبيراً جدا من الناخبين غير ممثلين في المجالس المنتخبة، فهؤلاء ممن لم يفوز مرشحهم بحقيقة الأمر هم لم يلتفت لإرادتهم في تشكيل البرلمان ومن ثم الحكومة، أضف لهم من أمتنع عن المشاركة في الاقتراع، ولتجنب أن يشعر هؤلاء بالإحباط ممكن إن تفتح لهم نافذة الحوار مع المرشح الفائز عن دائرتهم.
2- تمتين سبل الرقابة الشعبية على ممثلي الشعب في البرلمان: لكي لا يتصرف هؤلاء بمعزل عن الإرادة العامة أو يقدموا مصالحهم الشخصية أو الحزبية على المصالح العامة للدائرة الانتخابية التي قدموا منها، فلو طبقنا ما تقدم على الحالة العراقية نجد إن جل المرشحين الفائزين لا يلتفتون بعد إعلان الفوز إلى ناخبيهم إلا بالقدر الإعلامي فحسب ولا يتواصلون معهم إلا قبيل بدء الانتخابات الجديدة وينغمسون طوال السنوات الأربع بتمثيل إرادة رئيس الكتلة أو الحزب والإصرار على إنفاذ رغباته والدفاع عن أفكاره وتوجهاته ولو كانت غير وطنية بالأصل.
3- التنظيم القانوني المعيب للعلاقة بين البرلمان والحكومة: إذ رافقت هذه العلاقة انحرافات شديدة بسبب تبني ما عرف بالحكومات التوافقية وعدم الذهاب باتجاه حكومة الأغلبية وتخصص الآخرين بالمعارضة البرلمانية الإيجابية لمنع الانحرافات.
4- التنظيم القانوني المعيب للعلاقة بين السلطات المركزية والمحلية على مستوى الأقاليم والمحافظات: حيث فشل المشرع الدستوري والعادي في صياغة قواعد قانونية من شأنها إن تجعل العلاقة تكاملية والمصلحة العامة هي الهدف فالعلاقة مثلاً مع حكومة إقليم كردستان كانت على الدوام سلبية تشوبها لغة التحدي والتقاطع بالرأي والفكر والتطبيق، والأمر ذاته بالنسبة للتنظيم اللامركزي على مستوى المحافظات والأقضية فقد أخفق قانون المحافظات رقم (21) لسنة 2008 في وضع أسس لعلاقة تعاون بين الحكومة المركزية والمحلية وكانت التقاطعات الحزبية والمذهبية حاضرة ما تسبب بإهدار المليارات بشكل فج واخفق الجميع في تقديم صورة جيدة لعلاقة قانونية قائمة على التكامل في تقديم الخدمات والتصدي للتحديات.
5- النظام الحزبي المنحرف في العراق: إذ إلى اليوم لم تؤسس أحزاب ديمقراطية تؤمن بالعمل السياسي والتداول السلمي للسلطة وتنتهج خطوات البناء المدني الصحيح سواء في تأسيس الحزب أو اختيار قياداته، وحتى بعد صدور قانون الأحزاب السياسية في العراق رقم (36) لسنة 2015 لم نشهد تحولا ديمقراطيا في الأحزاب بل تكرست حالة التفرد والاستبداد بالعمل الحزبي لشخصيات شاخت ولا زالت متمسكة بمكتسباتها الشخصية.
وقد يتساءل أحدهم فيقول هل لما تقدم أساس في الدستور العراقي النافذ للعام 2005؟ وللإجابة نقول نعم حيث ورد في المادة الخامسة منه إن "السيادة للقانون والشعب مصدر السلطات وشرعيتها" وأضافت المادة العشرون من الدستور معنى أكثر عمقاً حين انتهت إلى ان "للمواطنين رجالاً ونساءً حق المشاركة في الشؤون العامة والتمتع بالحقوق السياسية بما فيها التصويت والانتخاب الترشح" كما إن الديمقراطية التشاركية المحلية ضمنها أيضا المادة (125) من الدستور بالنص على أنه "يضمن هذا الدستور الحقوق الإدارية والسياسية والثقافية للقوميات المختلفة كالتركمان والكلدان والأشوريين وسائر المكونات الأخرى".
كما تضمن الدستور العراقي العديد من الأمثلة لتطبيقات عملية للديمقراطية التشاركية منها ما ورد بالمادة الرابعة البند الخامس "لكل إقليم أو محافظة اتخاذ أية لغة محلية أخرى لغة رسمية إذا أقرت غالبية سكانها ذلك باستفتاء عام" وما أشارت إليه المادة (126/ثالثاً) من أنه "لا يجوز تعديل المواد الأخرى غير النصوص عليها في البند ثانياً من هذه المادة إلا بعد موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب عليه وموافقة الشعب بالاستفتاء العام" والفكرة ذاتها أشارت إليها المادة (119) من الدستور التي أشارت إلى آلية تكوين الأقاليم بمشاركة واضحة للشعب فقد جرى النص على انه "يحق لكل محافظة أو أكثر تكوين إقليم بناءً على طلب بالاستفتاء عليه يقدم بإحدى طريقتين: الأول: طلب من ثلث الأعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الإقليم. الثاني: طلب من عشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الإقليم" والاستفتاء ولا شك تطبيق بالغ الوضوح للديمقراطية التشاركية.
ولاستكمال مجال البحث نشير إلى إن التطور التقني والتكنلوجي في مجال الاتصالات جعل العالم وليس العراق قرية صغيرة لذا يمكننا إن نقترح آليات يمكن من خلالها تعزيز تطبيقات الديمقراطية التشاركية أو على الأقل الوصول إليها:
1- إلزام النواب الفائزين إثناء العطلة التشريعية لمجلس النواب بعدم مغادرة العراق للسياحة، أو العلاج على حساب المال العام، والحضور إلى دوائرهم الانتخابية بشكل يومي واللقاء بالناخبين، وتنظيم زيارة يومية لمؤسسات المجتمع المدني الناشطة في الدائرة الانتخابية، وفي حال الرغبة بالسفر فعليه تقديم بيان وافي بالأسباب والمبررات والجهة التي تتحمل التكاليف إلى ناخبي الدائرة الانتخابية ونشرها بكل الوسائل الممكنة للإطلاع عليها.
2- تأسيس منصة تواصل اجتماعي الكترونية مع ناخبي الدائرة الانتخابية ليقوم من خلالها النائب بنشر أهم نشاطاته النيابية التشريعية والرقابية، وتقديم الشرح الوافي للناخبين عن أي قرار اتخذه بالتصويت، أو الامتناع، على القوانين، أو القرارات، وكذا يبين سير اعمال الرقابة على الحكومة وما تم ملاحظته من إخفاقات وما تقدم به من معالجات أضف لذلك يتلقى من خلال المنصة الأسئلة الشعبية والمقترحات والمشكلات وينبغي له متابعة أياً منها بشكل حثيث.
3- قبل بدء الحملة الانتخابية يقدم جميع المرشحين ولاسيما من كان منهم نائبا في الدورات السابقة كشفاً يتضمن صافي دخله من الرواتب والمكافآت التي تسلمها أو التي حصل عليها من أعماله، وتقرير كشف الذمة المالية المصادق عليه من هيئة النزاهة إن كان نائباً أو مسؤولاً حكومياً للسنوات الخمس الأخيرة على أقل تقدير.
4- تفعل دور فروع مكتب مجلس النواب في المحافظات بتلقي الشكاوى من المواطنين وكذا فسح المجال أمامهم بنشر أهم الموضوعات المعروضة على مجلس النواب لاسيما مشروعات القوانين مع اعمالها التحضيرية ورأي الوزارات القطاعية ومجلس الدولة فيها، لتلقي الملاحظات من الجمهور ونقلها إلى المجلس النيابي.
5- السماح للمواطنين بتقديم العرائض الخاصة بالمقترحات أو الشكاوى لتنقل إلى الجهات ذات العلاقة في الحكومة أو الجهات الرسمية الأخرى والإجابة عليها بأسرع وقت ممكن.
6- عرض ملخص وافي لأعمال ديوان الرقابة المالية الاتحادي في تدقيق إنفاق المال العام وأهم الملاحظات التي سجلت لاسيما على أداء الحكومة أو مجلس النواب كهيئات أو كأفراد ليطلع عليها الرأي العام ويبدي ملاحظات بشأنها.
7- مشاركة كل تنظيمات وتشكيلات المجتمع المدني لاسيما المنظمات غير الحكومية والنقابات في اقتراح مشاريع القوانين والاستضافة في لجان مجلس النواب عند مناقشة ما تقدم بل وحضور جلسات مجلس النواب المخصصة لها للإطلاع عن كثب على سير الأمور.
اضف تعليق