كل شيء يفعله الانسان له غاية، فالمسلم المتذبذب في عصر العولمة والمسلم الجوهري لا يعبث، والإنسان الغائي يكون منذ البداية إلى المنتهى في صورة واحدة، في طاعة الله وفي الورع والتقوى وعدم الخيانة والأمانة والصدق، يسير وفق هذه الأسس في الطريق المستقيم إلى العاقبة الحسنة، وهذا هو معنى الهدفية...
طرحنا سابقا التحديات التي تواجه شخصية الإنسان المسلم في عالم اليوم، وتأثير هذه التحديات على تشكيل شخصيته، والعناصر التي تؤدي إلى بناء هذه الشخصية، في هذا المقال نسعى لمعرفة اشكال وانواع المسلم.
ومن خلال استكشاف هذه الهوية وطريقة تشكيل شخصية المسلم، نصل إلى عملية التغيير والإصلاح التي يحتاجها المجتمع الإسلامي، من خلال تغيير طريقة وتربية وبناء الإنسان المسلم.
هناك مجموعة من القضايا التي يمكن أن نشخص فيها شكل شخصية هذا المسلم، هل بناء هذا المسلم هو نتيجة للأعراف الاجتماعية أم للمنظومة الاسلامية، فهل تم تشكيل شخصية من خلال الأعراف الاجتماعية الموجودة، أم أن تشكيل شخصيته تم من خلال قيم المنظومة الإسلامية أو التربية الإسلامية؟
هناك فرق بين الأعراف الاجتماعية والمنظومة الإسلامية، فبعض الأعراف الاجتماعية لها جذور في المنظومة الإسلامية، ولكن بعض الأعراف الاجتماعية ليست كذلك بل هي أعراف ربما تشكلت من خلال العادات والسلوكيات الموجودة في المجتمع، وبعضها قد تكون مخالفة للشرع. لذلك حينما نحاول ان نقرأ تشكيل الشخصية، سوف نقرأها كشخصية انبثقت من المنظومة الإسلامية.
هناك أنواع للمسلم يمكن معرفتها من مدى انتمائه للمنظومة الإسلامية وتماهيه معها:
المسلم الظاهري
أولا: هناك مسلم ظاهري لا ينتمي للإسلام إلا بالاسم، لكن تفكيره وسلوكه ليس له علاقة بالإسلام، فهو مجرد مسلم بالاسم فقط، فهو مسلم بالولادة وينطق بالشهادتين، لكنه لا يمتلك انتماءً ثقافيا وفكريا واجتماعيا وعقائديا للإسلام، لذلك تجد شخصيته شيء آخر لا علاقة له بالإسلام، وربما بعض هؤلاء لا يعرف أبسط قواعد الإسلام وأحكامه.
فهو قد لا يعرف الصلاة والصوم والخمس، ولا يعرف الكثير من المسميات والأسماء الموجودة في العقيدة الإسلامية، وهذا النوع يتشكّل نتيجة للتغرّب عن الإسلام، وحالة التخلف التي يعيشها العالم الإسلامي وعدم وجود توعية دينية مناسبة، وظاهرة الغزو الثقافي وظهور مناهج أخرى في المجتمع الإسلامي، كل هذا أدى إلى تغرّب هذا الشخص عن المنظومة الإسلامية بشكل كامل، فحدث له انفصام عن الهوية الإسلامية.
المسلم الشكلي
ثانيا: المسلم الشكلي أو الشكلاني، من خلال الالتزام ببعض الشكليات، ولكن سلوكياته متناقضة أو متذبذبة وليست لها علاقة بالجوهر الإسلامي، فهو في شكله مسلم، لكنه في واقعه كعقيدة وكثقافة وكنهج وأسلوب لا علاقة له بالإسلام، لذلك يمكن أن يرتكب الحرام بسهولة، ولا يعمل بأبسط القواعد الإسلامية، فهناك تناقض بين عمله وبين كونه مسلما.
المسلم الملتزم
ثالثا: المسلم الملتزم، لكن طريقة تفكيره لا تنبثق من منظومة الإسلام، بل من منظومة أخرى مثل الثقافة الغربية، فتراه ملتزما، يصلي ويصوم، لكن أفكاره ناتجة عن ثقافة غربية، أكاديميا أو ثقافيا أو اقتصاديا أو سياسيا، مثلا قد يؤمن بأن (الغاية تبرر الوسيلة)، ويؤمن بأن الاقتصاد في البلاد لابد أن يكون ربويًا، والربا محرّم في الإسلام، لكن لأن هذا الشخص ثقافته مستمدة من الفكر الغربي فيحصل لديه تناقض بين الجوهر والمظهر.
فقد يكون هذا الشخص ملتزما ببعض الأحكام والوظائف الشرعية، لكن ثقافته المنهجية في الحياة قد تكون ثقافة غربية، مثلا يؤمن بكثير من الأفكار التي لا يقبلها الإسلام، فيؤمن بأفكار فرويد وداروين مثلا وأفكار بعض الفلاسفة، أو بالحقيقة النسبية وما شاكل ذلك، فهو يرى ان ذلك زمن مضى ونحن نعيش في عالم اليوم.
المسلم المتلوِّن
رابعا: المسلم المتلوّن بالإسلام تأثّرا بالأجواء وليس بإيمانه، فلأنه يعيش في أجواء إسلامية فهو مسلم، لكن بمجرد أن تتغيّر بيئته وأجوائه فسوف يتغير معها، وهذا من الشخصيات الموجودة بشكل واضح في مجتمعاتنا، فهو يعيش في المجتمع الإسلامي مسلما وقد يكون ملتزما أيضا، ولكن بمجرد ذهابه إلى بيئة أو حاضنة أخرى يميل ويتغير بحسب الحاضنة الجديدة، لذلك هذا الشخص يفتقد للأسس الحقيقية في المنظومة الإسلامية والتفكير الإسلامي.
الدين وسيلة وليست غاية
خامسا: المسلم الذي يستغل الدين للوصول إلى أهداف خاصة، فالدين والإسلام عنده وسيلة لتحقيق أغراضه الخاصة، أما في التجارة لكي يبدو للآخرين بأنه مسلم او متدين، أو في السياسة فيستغل الدين لتثبيت شرعيته، وسلطته، وهكذا يكون الدين بالنسبة له وسيلة وليس أساس وغاية وهدف وجوهر، وسيلة (لتمشية) أموره، ويمكن أن نصف هذا الشخص بأنه منافق، فهو يعلم بالدين ولكنه يستغله لمصالحه الخاصة.
يعني المنافق، إنه في ظاهره يبدو مسلما ملتزما ويدّعي التدين والالتزام بالدين، ولكن في الحقيقة أو في باطنه هو شيء آخر مناقض لظاهره.
وقد روي عن الإمام علي (عليه السلام) لما نظر إلى رايات معاوية وأهل الشام: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسلموا ولكن استسلموا وأسروا الكفر، فلما وجدوا عليه أعوانا رجعوا إلى عداوتهم لنا، إلا أنهم لم يتركوا الصلاة). واستسلموا في ظاهرهم للوصول إلى أهداف خاصة، أي ركبوا الموجة، هؤلاء ليس لديهم إيمان بل كفر، لذلك فهؤلاء (لما وجدوا عليه أعوانا رجعوا إلى عداوتهم)، فاستغلوا الأمر وصار لديهم سلطة وقوة، لكنهم في الظاهر يصلّون، وهؤلاء هم المنافقون.
من هم الحكام المزيّفون؟
وفي رواية ثانية يقول الإمام علي (عليه السلام): (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أسلموا ولكن استسلموا وأسروا الكفر، فلما وجدوا أعوانا عليه أعلنوا ما كانوا أسروا، وأظهروا ما كانوا أبطنوا)، هؤلاء هم القادة والحكام الذين يدّعون الإسلام زيفا، فهم يحكمون باسم الإسلام، ويستغلون الدين كوسيلة للهيمنة والسيطرة، لاسيما عندما تهيمن حالة من الجهل على المجتمع، فتجعله منقادا لهؤلاء الحكام.
عندما استشهد الإمام علي (عليه السلام) في محرابه، وسمع أهل الشام أن الإمام (عليه السلام) استشهد في محرابه تعجبوا بأنه كان يصلي، وهنا يكمن تفكير القطيع، لذلك فإن أهم نقطة عند الإنسان المسلم هو الوعي، فالدين وعي والدين علم وفهم، فلا يصح أن يكون المسلم منقادا بشكل اعمى لأيٍّ كان، فالرجال تُعرَف بالحق، والحق لا يُعرَف بالرجال كما روي عن الإمام علي (عليه السلام): (إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله). وفي رواية أخرى عنه (عليه السلام) عندما قال له الحارث: لو كشفت -فداك أبي وأمي- الرين عن قلوبنا وجعلتنا في ذلك على بصيرة من أمرنا قال (عليه السلام): (قدك، فإنك امرء ملبوس عليك، إن دين الله لا يعرف بالرجال بل بآية الحق، فاعرف الحق تعرف أهله).
فلابد أن يكون الإنسان واعيا فيعرف الحق ليعرف الرجال ويستطيع أن يقيّم من هو معاوية ومن هو علي، فيجب أن يعرف التفريق بينهما، وهذا الذي لا يعرف أن يفرّق بينهما، فهذا إنسان لا يمتلك هوية إسلامية حقيقية، وليس في منظومة إسلامية حقيقية، فيكونوا جهلاء لكنهم مقصّرين في تحصيل المعرفة والفهم، لأنهم لم يتعلموا مضامين الإسلام جيدا، فلم يخرجوا من حالة التلبيس.
إنهم ينظرون إلى الإسلام من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، أو القنوات الفضائية الموجودة، بل عليه أن يعرف ويتعلم حتى يستطيع أن يفهم الإسلام، ولا يكون خاضعا لهؤلاء المتلاعبين بالدين ويستغلونه من أجل السلطة والمال.
مسؤولية توضيح المبادئ الإسلامية
من يتحمل مسؤولية عدم فهم الإسلام بالشكل الصحيح؟، فربما يكون هؤلاء أو بعضهم ضحية المجتمع، أو ضحية أهواءهم الشخصية، فمن يتحمل مسؤولية توضيح المبادئ الإسلامية الصحيحة لهم؟
المسؤولية الأولى يتحملها الإنسان نفسه، (اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد) فمن الواجب على الإنسان أن يتعلم، حتى يتخذ الثقافة الصحيحة في حياته، ويتعلم من أجل لا تشكّله الأهواء والأجواء والمصالح من هنا وهناك، وأن لا يتعلم الثقافة والعلوم المتذبذبة والطالحة، عليه أن يتحصل على العلوم الحقيقية الصحيحة في حياته.
بعض الناس توجد لديهم حالة اللامبالاة، فيكون لديه حالة تقصير لأنه لا يطالع كتابا، ولا يستمع لموعظة، ولا يتعلم شيئا في يومه، طبعا سوف يكون مخ هذا الإنسان فارغا، ومعبّأ بالأشياء السيئة، والثقافة السيئة.
فلابد له أن يتعلم علما حقيقيا، لكن ليس لديه الإرادة الجدية للتعلم، ويكون لاهيا بالمتع الدنيوية والعبث وقضاء وقته في السمر واللهو والمتع الدنيوية، فهذا الإنسان بالنتيجة يصبح شخصية مشوهة في علمه وثقافته، ولا يعلم ماذا يجري في العالم، ولا يوجد عنده وعي وإدراك، فيكون سهلا أمام الغير للتلاعب به، وقد ذكرنا ذلك في مقالاتنا السابقة حول اللامبالاة، فيكون منقادا من هنا وهناك.
فمن من واجب كل إنسان ان يكون عالما ومتعلما ومعلما للآخرين، في كل الأحوال والازمنة والامكنة، بأن (يتعلم علومنا ويعلمها الناس) كما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام)، وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (لست أحب أن أرى الشاب منكم إلا غاديا في حالين: إما عالما أو متعلما، فإن لم يفعل فرط، فإن فرط ضيع، فإن ضيع أثم، وإن أثم سكن النار والذي بعث محمدا بالحق).
المسلم المتمحض
سادسا: المسلم المتمحض بالأفكار الإسلامية، التي تتحول إلى ثقافة ومنظومة راسخة في داخله، فيكون مصبوغا بالأفكار الإسلامية وفي الآية القرآنية الكريمة: ((صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون) البقرة 138. ويقول الإمام الصادق (عليه السلام): (صبغة الله هي الإسلام).
الصبغ هو اللون، فما هو الفرق بين اللون والصبغة؟، اللون هو ما يتلون في الطبيعة، مثلا لون الشجر أخضر، وهو لون ذاتي للشجر، أما الصبغة فليست لون بذاتها، وإنما يلوَّن الشيء بلون من خارج الشيء كما يُصبَغ الجدار، فهو ليس لونه الحقيقي وإنما صُبِغَ بهذا اللون، بفعل فاعل، فالصبغة تعني الاكتساب، بمعنى اكتسب اللون من غيره، فالصبغة هي التي تلوّن شخصية الإنسان وتعطيه ذلك الشكل.
الصبغة الاسلامية
أفضل صبغة للإنسان هي صبغة الإسلام أو الصبغة الإسلامية أو الفكر الإسلامي أو التفكير الإسلامي الذي يشكل الإنسان في نفسه وأفكار وسلوكه وغاياته نحو كل مستويات الحياة في الدنيا والآخرة، وهذا يشمل تفكيره في قضايا الحلال والحرام، وتفكيره في الأخلاقيات والسلوكيات الذاتية والاجتماعية، وفي رؤيته للمعاد والتوحيد والنبوة والإمامة ورؤيته للآخرة.
وهكذا نعرف الإنسان المتمحّض بالأفكار الإسلامية في جوهره من خلال أسلوب تفكيره، فهو الذي يعرف معنى الوجود من المبدأ إلى المنتهى، ويتفاعل مع وظيفته، دون الانحراف نحو الأهواء والمصالح والإغراءات.
من هو المسلم؟
هو الذي تصبغه الثقافة الإسلامية، فيصبح تفكيره إسلاميا، وكل شيء ينبع منه إسلامي، وهذا هو المسلم الجوهري الذي يكون جوهره في مختلف المستويات إسلاميا، وهكذا تتراكم عملية بناء شخصيته من خلال كل العلوم الإسلامية التي تعلّمها، والقيم الإسلامية المنبثقة من الثقلين وهما، القرآن الكريم، ورسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأهل بيته (عليهم السلام)، هؤلاء الذين يعطون القيم الصالحة في تشكيل الثقافة الإسلامية وتشكيل التفكير الإسلامي عند الإنسان.
فيستثمر الدنيا لربح الآخرة، والابتعاد عن العبث واللهو، هذا هو المسلم الهادف، المسلم الذي له غاية، وهو الذي يعمل على إعمار دنياه من أجل آخرته، وينظر العواقب من حيث المبدأ ومن حيث المنتهى، وهو الإنسان الغائي أو المسلم الغائي.
المسلم الغائي
هناك مستويات متعددة لهذا النوع من الناس، فكلما يتقدم الإنسان ويتطور ويرتقي ترتفع درجته، ويكون فهمه للغايات أكثر وأعمق وأفضل، ويظهر أو ينكشف في المنعطفات، وفي الابتلاءات والتحديات، حيث يتبيّن جوهره، هل هو مسلم جوهري؟، حينئذ تراه في كل الأحوال ذا شخصية إسلامية بثقافته وتفكيره وسلوكه في الحياة.
لكن بعضهم بمجرد أن يصل إلى السلطة غلبتهُ ووقع في حبائل الشيطان وفقد غايته، وهذا الإنسان لم يكن مسلما جوهريا في الواقع، لم يترسخ الإسلام في داخله بشكل عميق، أحيانا يوجد في داخل الإنسان مواقع معبّأ فيها بأفكار غير صحيحة، وغير سليمة، فهناك بعض النقاط السوداء في قلبه، وبعض الأفكار السوداء في نفسه.
متى تظهر الأفكار السوداء؟
تظهر الأفكار السوداء عند المنعطفات والتحديات، مثال على ذلك، بعضهم يعتقد أنه من أجل رفع راية الإسلام لابد من الوصول إلى السلطة، فالسلطة بالنسبة له غاية بحد ذاتها، لذا فإن هدف رفع راية الإسلام يجب تحقيقه مهما كانت الوسائل، وهذا يأتي نتيجة للتفكير الأسود الموجود في داخله، وعندما يصل إلى السلطة، يدمر كل ما كان يريده.
إن الإنسان الذي لا تكون عنده قواعد عقائدية صحيحة في الحياة، فإنه يصل بالنتيجة إلى درجة أنه يضحي بدينه من أجل السلطة، وإنْ كان تبريره الوصول للسلطة لحماية الدين، فيقول إنني أرفع راية الدين من خلال السلطة الاستبدادية الغاشمة، لكن هذا لا يمكن لأنه شيء متناقض، وفيه ضرب للدين، الدين لا يظلم، فلا يمكن استخدامه لظلم الآخرين، فهذا تناقض شيطاني واضح، وهذا ضرب للغاية الإسلامية، وهي الغاية التي ينظر فيها الإنسان إلى العواقب.
يقول القرآن الكريم: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، المؤمنون 115. فالإنسان الذي يظلم الناس باسم الدين، ويعمل كل شيء من أجل السلطة باسم الدين، فإنه لا ينظر إلى العواقب وأن هناك حسابا وكتابا.
تضييع العاقبة الكبرى
كل شيء يفعله الانسان له غاية، فالمسلم المتذبذب في عصر العولمة وعصر الثقافة والمتأثر بكل الأفكار الموجودة حوله، يستهدف الربح السريع للوصول إلى تحقيق غايات خاصة، بالنتيجة سوف يضيّع العاقبة الكبرى، وهي رضا الله سبحانه وتعالى، هذا عبث، والمسلم الجوهري لا يعبث، والإنسان الغائي يكون منذ البداية إلى المنتهى في صورة واحدة، في طاعة الله وفي الورع والتقوى وعدم الخيانة وفي مسؤولية الأمانة والصدق، هذا الإنسان يسير وفق هذه الأسس في الطريق المستقيم إلى العاقبة الحسنة، وهذا هو معنى الهدفية في الحياة.
وكما قرأنا في الآية القرآنية الكريمة فإن الغاية لا تبرر الوسيلة، لا يمكن أن تجعل وسائلك عبث وتخرج عن الغاية التي تريدها، حتى العقلاء والخبراء الذين لا علاقة لهم بالإسلام يقولون (الغاية لا تبرر الوسيلة)، والذي يستعمل (الغاية تبرر الوسيلة) فإنه يضيِّع الغاية، في خضمّ الوسائل الشيطانية أو الوسائل الانتهازية.
المظهر فوق الجوهر
المسلم الغائي هو جوهر ويكمّلهُ المظهر، لكن المشكلة التي نعاني منها ولاحظناها، أن المظهر أصبح فوق الجوهر، وبات المظهر أولى من الجوهر، وفي الآية القرآنية درس لنا أرجو أن نتأمّلها جيدا، يقول الله سبحانه وتعالى: (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) الشعراء 128-130. والريع هو المكان المرتفع.
لو أننا قرأنا التاريخ ولحد الآن، فإن كل حاكم وكل طاغية يريد أن يبيّن إنجازاته المادية، فيبني الأبراج والقصور ويقوم بإعمار مادي هائل لكي يثبت وجوده في الحياة وأنه قوي وسلطان، ليس لديه غاية ولا هدف، يريد أن يثبت وجوده فقط ويثبت طغيانه، من المفارقات أن بعضهم يستشكلون على الأنبياء فيتساءلون: لماذا لا نرى آثارا للأنبياء؟ بينما نرى آثارا موجودة للطغاة مثل الفراعنة؟
إننا ابتعدنا عن التفكير الإسلامي، وأصبحت أفكارنا أفكارا مادية، أفكار ربحية، أفكار فيها الغاية تبرر الوسيلة، أفكار سلطوية، أفكار أنانية، كل هذا يؤثر في التفكير، فالفرق بين الأنبياء والطغاة في التاريخ أن الأنبياء يستهدفون بناء الإنسان فكريا وثقافيا ونفسيا ومعنويا، بينما الطغاة يريدون إثبات أنفسهم فيبنون أبراجا هائلة لكي يثبت بأنهم أقوياء واصحاب إعمار وسلطة.
لذلك يقول القرآن الكريم (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ)، فالإعمار الذي يقوم به الطاغية ليس للناس، وإنما لنفسه (وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون)، الطاغية يريد أن يخلّد نفسه، ويجعل نفسه غاية ومعجزة وأنه خالد في هذا البرج الذي شيّده، لكن نلاحظ أن الذي بقى هو آية للناس، أن أولئك الطغاة ذهبوا وفًنوا وأن الله تعالى هو الباقي. فالطغاة لم يخلدوا بأعمالهم، لأنها أعمال مادية ومظهرية بقيت عبرة للآخرين، (فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً ۚ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنْ ءَايَٰتِنَا لَغَٰفِلُونَ) يونس 92.
والمشكلة أن التفكير الموجود الحاكم حاليا هو كلما فتحت (مولات) فهذا تقدم وتمدن، لكن هذا النوع من البناء ليس جوهريا، ولا بناء للإنسان، وإنما هو بناء مادي لذلك فهو عبث.
(وإذا بطشتم بطشتم جبارين)، فصوت الطاغية يكون عاليا متبجّحا، أنا بنيتُ وعمَّرتُ، ويستخدم القوة المفرطة للتكبر والتجبّر والقمع والقتل.
البناء الفائض وبال على صاحبه
الحاكم البائد في العراق بنى مئة قصر لكي يبيّن للآخرين بأنه موجود وخالد وقوي، ولكن ماذا بقي منه؟، مع كل القمع الذي استخدمه ضد الناس، والمقابر الجماعية، كل هذا دلالة على العبث غير الواقعي، فالعبث يدمر الإنسان والامم، لذلك لا يصح أن يكون تفكيرنا عبثيّ لانه يقودنا الى تدمير الذات والغير لعدم إدراك العواقب، فلتكن أفكارنا غائية، وهذا هو معنى الجوهر الإسلامي.
وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قصة طويلة: (إن كل ما يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة، إلا ما لابد منه).
فهناك من يبني لكي يثبت وجوده فقط وهم الطغاة، إنه مثلا بنى برجا أو عمارة من 150 طابقا، فهو قوي وجبار ومتمكن ومسيطر ومهيمن ليقول للعالم أنه ماذا فعل، لكن هذا وبالا عليه في الدنيا والآخرة، ونقمة على صاحبه، إلا ما لابد منه، كالشخص الذي يعبّد الطرق والجسور لتسهيل حركة الناس، أو يشيّد البنى التحتية، ويبني المدارس، والبنايات التي تسهّل حياة الناس، نعم هذه كلها أشياء مفيدة للإنسان، وليس البناء الذي يهدف منه لإثبات وجوده وطغيانه.
والكلام حول المسلم بين الغاية والعبث له تتمة...
اضف تعليق