تراجعت الثقة بالولايات المتحدة وبالتزاماتها في الدفاع عن السعودية من أي عدوان خارجي. وإحجام الولايات المتحدة عن إقامة بنية دفاعية حديثة والسماح بإدخال التقنيات المتقدمة الى منطقة الخليج، لأن هذا يتعارض مع مبدأ التفوق الإسرائيلي. لكن المنطقة لا تزال تمثل مصدر قلق للولايات المتحدة، لأن معظم إمدادات الطاقة...
لمحة تاريخية:
في القرن الماضي، في 28 سبتمبر 1928، حاول ابن سعود إقامة علاقات دبلوماسية مع الأمريكيين لكن وزارة الخارجية الأمريكية أبدت تحفظها. كرر ابن سعود الطلب من خلال خطاب تم تسليمه إلى القنصلية الأمريكية في عدن في 13 أكتوبر 1928، لكن هذه الرسالة لم تتلق أي رد، ناهيك عن عدم اعتراف أمريكا بسلطة آل سعود. في أبريل 1931، زار رجل الأعمال الأمريكي ريتشارد كرين السعودية ورتب جون فيلبي له مقابلة مع ابن سعود، الذي يعاني من صعوبات مالية بسبب تمردات الإخوان المسلمين التي كلفته الكثير من المال لإخمادها، فضلا عن تأثير الأزمة الاقتصادية العالمية 1929-1933.
طلب ابن سعود من كرين دعم الأمريكيين في تطوير إمكانية البلاد الاقتصادية. استجاب كرين لطلبه وكلف المهندس الأمريكي كارل تويتشل بإجراء مسح للتربة. كشفت نتائج الفحوصات المخبرية عن احتمال وجود النفط. تم منح رخصة الاستكشاف لـ Standard of California، والتي أصبحت فيما بعد ــ نواة أرامكو. اكتشاف النفط بكميات تجارية في حقول الدمام كان في 4 مارس 1938، وشحن إلى الأسواق العالمية في مايو 1939. بعد ذلك، ازداد اهتمام إيطاليا وألمانيا واليابان بالنفط السعودي، وفي هذا الوقت قررت حكومة الولايات المتحدة إعادة النظر في إنشاء تمثيل دبلوماسي أمريكي مع السعودية.
خلال الحرب العالمية الثانية توقف مصدرا دخل الملك السعودي: وهما إنتاج النفط والحج إلى مكة المكرمة. لذلك زوده الرئيس روزفلت بالمال، في عام 1943 كتب روزفلت إلى وزير الخارجية أن "الدفاع عن السعودية أمر حيوي للدفاع عن الولايات المتحدة "، مما يجعل ابن سعود مؤهلاً لتلقي 17.5 مليون دولار من الأموال الأمريكية بين عامي 1943 و 1946. حافظت الولايات المتحدة والسعودية على علاقة وثيقة لما يقرب من ثلاثة أرباع القرن. خلالها ضمنت الولايات المتحدة تأمين إمدادات النفط لحلفائها مقابل أمن الرياض.
منطقة الخليج الفارسي دائمًا على رأس أولويات السياسة الأمنية الأمريكية. الهدف هو الحفاظ على التدفق المستمر للنفط وبسعر معقول وبكميات كافية لتلبية احتياجات أمريكا وحلفائها. لذلك صُممت السياسة الأمريكية على منع أي قوة خارجية أو إقليمية تحاول السيطرة أو فرض النفوذ في المنطقة. النفط حيوي للاقتصاد العالمي وقد زاد من أهمية الموقع الجغرافي الاستراتيجي.
يعد الخليج أحد الممرات المائية الرئيسية للملاحة بين الشرق والغرب. لكن قربه الجغرافي من روسيا زاد من مخاوف الولايات المتحدة. خاصة بعد أن منع الاتحاد السوفيتي الغرب من الوصول إلى برلين الألمانية. هذا أثار مخاوف الغرب من عدوانية الاتحاد السوفيتي، التي قد تشمل غزو إيران والعراق وكذا الخليج العربي.
أصبحت إدارة ترومان قلقة من أن القوات الأمريكية وحلفائها قد لا تكون قادرة على وقف غزو الاتحاد السوفيتي. وزادت الأزمة الإيرانية عام 1946 وسلوك ستالين العدواني تجاه إيران من خوفهم. كرد فعل في إدارة ترومان للعامل السوفيتي، تم إعلان مبدأ ترومان عام 1947 (احتواء التوسع الجيوسياسي السوفيتي خلال الحرب الباردة)، أي التزمت الولايات المتحدة بالحفاظ على التوجه الموالي للغرب في دول غرب آسيا على الحدود مع الاتحاد السوفيتي. وهكذا، فإن السياسة الأمريكية في الخليج، من إدارة ترومان إلى إدارة ريغان، قد بنيت على ثلاثة عناصر: (1) احتواء ومواجهة النفوذ السياسي والعسكري السوفياتي في المنطقة (2) ضمان الوصول إلى إمدادات نفط الخليج (3) ضمان أمن إسرائيل.
النفط والأمن القومي الأمريكي
كانت احتياجات أمريكا المتزايدة من الطاقة خلال الحرب العالمية الثانية هي التي دفعت روزفلت إلى إعطاء اهتمام بنفط الشرق الأوسط، واقتنع بأن نفط الخليج والأمن القومي الأمريكي وجهان لعملة واحدة. عملياً نرى أن الارتباط وثيق بين مواقف شركات النفط وموقف وزارة الخارجية الأمريكية. على سبيل المثال، الهجوم الياباني على بيرل هاربور، فسره كبار المسؤولين الأمريكيين ذلك على أنه عمل نابع من طموح اليابان للسيطرة أولاً على جنوب المحيط الهادئ والمحيط الهندي ثم جزر الهند الشرقية لفتح منفذ لهم الى نفط الشرق الاوسط. وبالمثل، لم يغفل الأمريكيون عن هدف هتلر من الزحف نحو الشرق، واحتلال حقول النفط في رومانيا وروسيا، وربما العراق وإيران وذلك نابع من مشكلة الطاقة الألمانية.
لذلك تردد الرؤساء الأمريكيون وتعثروا في اختيار أفضل طريقة لوقف دول المحور ثم الشيوعية السوفيتية وإبعادهم عن نفط الشرق الأوسط. اختار الرئيس ترومان (1945-1951) المواجهة العسكرية لمواجهة أعدائه، ودارت حروب محلية في البلقان وإيران وكوريا (كان التورط في كوريا هو الذي أدى لاحقًا إلى حرب فيتنام). أما آيزنهاور (1952-1960) فقد تبنى أسلوب الردع النووي، لكن هذه الطريقة فقدت مصداقيتها لأن أحداً لم يكن مستعداً للوصول إلى حافة الهاوية. ثم جاء كينيدي (1961) واعتمدت إدارته أسلوبًا آخر، لا الحرب ولا الردع، بل "سباق التسلح". روبرت مكنمارا لخص سياسة كينيدي في محاضرته (14 سبتمبر 1961) في كلية الدفاع بواشنطن - قائلا: يجب أن نجبر الاتحاد السوفيتي على تغيير أولوياته. يعد النظام الشيوعي الجماهير بمجتمع الرفاهية يستبعد فيه الفقر. وبمجتمع المساواة ينتفي فيه التمايز الطبقي. لتحقيق هذه الأهداف، يجب على الاتحاد السوفياتي أن يضع التنمية قبل الأمن. لذا يجب أن نجبره على رفع أولوية الأمن ووضعها قبل التنمية، ويجب أن نجره إلى سباق التسلح، أي السباق الذي يحبس أنفاسه ويستنزف موارده ويتركه في النهاية بترسانة نووية ضخمة بدون خبز أو قطعة لحم. بعد تقديم الأمن على التنمية يزداد معها تمركز السلطة في أيدي المسؤولين ( طبقة ) من الحزب و أجهزة الدولة، مما ينفر الناس العاديين منهم ويعزلهم.
هنا تحصل الولايات المتحدة على ما تريده. في الواقع، بفضل "سباق التسلح" تحققت نبوءة كينيدي التي اعلن عنها في 20 يناير 1961 بتمكين الولايات المتحدة من صد انتشار الشيوعية، وجعل التجربة الأمريكية نجمة إرشادية لشعوب العالم، تحققت بعد ثمانية وعشرين عامًا (1989)، بفشل التجربة الشيوعية وانهيار النظام السوفيتي.
الانسحاب البريطاني من الخليج:
في 16 يناير 1968، قررت حكومة حزب العمال البريطاني الانسحاب من شرق السويس. في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة متورطة في هجوم وحشي على فيتنام (1955-1975). حرب تسببت في خسائر كبيرة وإحراج أمام الرأي العام الأمريكي والكونغرس. أضف إلى خوفها من مواجهة الاتحاد السوفيتي لوحدها. قال زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ الأمريكي جون مانسفيلد في ذلك الوقت: " أنا آسف لأن البريطانيين شعروا بأنهم مضطرون لاتخاذ هذه الخطوة وسيطلبون منا ملء هذا الفراغ ولا أعرف كيف أفعل ذلك لأنني لا أعتقد لدينا الرجال والموارد".
مع ذلك وضعت واشنطن خيارات لمعالجة (الفراغ) الذي سيخلقه الانسحاب. كان الخيار المقترح هو إمكانية إنشاء تحالف دفاعي إقليمي من دول المنطقة تركيا وإيران وباكستان والسعودية والكويت. لم يتلق هذا المشروع استجابة من معظم هذه البلدان. كررت الحكومة الأمريكية جهودها لثني حكومة حزب العمال البريطاني عن قرارها بالانسحاب من شرق السويس، فشلت جهودهم مرة اخر.
في عام 1969، بعد عام من اعلان الانسحاب البريطاني، تولت إدارة نيكسون السلطة في الولايات المتحدة. اهتم الرئيس نيكسون بقضية الانسحاب البريطاني من الخليج. في ذلك الوقت، زادت أنشطة البحرية السوفيتية في الخليج الفارسي والمحيط الهندي. كما شهدت بعض دول المنطقة تغيرات سياسية كبيرة. ثورة العراق عام 1968، وتم الإعلان عن تشكيل الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي المحتل عام 1968، واستولت قوى اليسار على السلطة في اليمن الديمقراطي عام 1969، واستولى محمد سياد بري، حليف موسكو، على السلطة في الصومال عام 1969. فسرت واشنطن هذه الأحداث على أنها محاولة لتغيير ميزان القوى في المنطقة لصالح السوفييت، بهدف ملء الفراغ بعد انسحاب البريطانيين من المنطقة أواخر عام 1971. ومن هنا أصدر الرئيس نيكسون تعليماته لرئيس مجلس الأمن القومي هنري كيسنجر للتحقيق في الأمر. على الرغم من قلق كيسنجر بشأن حرب فيتنام، فقد أعطى أولوية خاصة لقضية الخليج وقدم اقتراحًا إلى مجلس الأمن القومي، حدد بموجبه الرئيس نيكسون ثلاثة خيارات لسياسة الولايات المتحدة في الخليج الفارسي، وهي:
الخيار الأول: الابتعاد - أن تواصل الولايات المتحدة تقديم المساعدة العسكرية للحكومات الموالية للغرب في الخليج الفارسي، لكن لا ينبغي لها قبول دور عسكري مباشر في المنطقة.
الخيار الثاني: التدخل - نشر القوات الأمريكية في الخليج العربي للقيام بالمهام (البوليسية) التي كانت بريطانيا تقوم بها في الماضي.
الخيار الثالث: إيجاد عميل، أي تجنيد قوة أخرى لتلعب دور (شرطي المنطقة) بدلاً من نشر القوات الأمريكية.
العلاقات المضطربة بين السعودية والولايات المتحدة
هنا، اختلفت سياسة نيكسون إلى حد ما عن سياسات الإدارات الأمريكية السابقة. صاغت إدارة نيكسون سياسة سعت إلى تجنب تكرار تجربة حرب فيتنام باستخدام دول إقليمية بديلة من التدخل المباشر لحماية المصالح الأمريكية. كان الهدف من العقيدة (مبدأ نيكسون لعام 1969) هو بناء وتقوية حلفاء أمريكا الذين مصالحهم مرتبطة بمصالح الولايات المتحدة في المنطقة عسكرياً. لذلك، أنشأت الولايات المتحدة نظامًا أمنيًا من ركيزتين لحماية مصالحها، إيران والسعودية.
بعد الثورة الإسلامية عام 1979، بدأ التحول السياسي بين طهران وواشنطن وأصبحت أمريكا العدو الأول لإيران. بعد أن كانت العلاقات السياسية والأمنية بينهما في زمن الشاه اتسمت بالكثير من المودة، وأطلق على إيران لقب شرطي الخليج. أما العلاقات بين السعودية وأمريكا فقد كانت وثيقة وقوية حتى نهاية عهد الملك عبد الله بن عبدالعزيز، صحيح كانت أحياناً مضطربة ومحرجة بسبب الاختلاف السياسي في الأنظمة والقيم، والرؤى كانت مختلفة لإسرائيل، مثل مواقف الملك فيصل عام 1956 و 1967 و 1973، مما جعل التعاون بينهما أمرًا محرجًا أحيانًا، وحتى متوترًا. لكن في النهاية، سادت الاعتبارات الاستراتيجية.
مع بداية عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز، تراجعت الثقة بالولايات المتحدة و بالتزاماتها في الدفاع عن السعودية من أي عدوان خارجي. وإحجام الولايات المتحدة عن إقامة بنية دفاعية حديثة والسماح بإدخال التقنيات المتقدمة الى منطقة الخليج، لأن هذا يتعارض مع مبدأ " التفوق الإسرائيلي". لكن المنطقة لا تزال تمثل مصدر قلق للولايات المتحدة، لأن معظم إمدادات الطاقة العالمية تأتي من الخليج، كما أن الاستقرار في هذه المنطقة أمر حيوي للحفاظ على سوق النفط العالمي واستقرار النظام الاقتصادي الدولي. لذا ممكن القول ان العلاقة السعودية الأمريكية حالياً، في عهد الملك سلمان تحت علامة؟؟؟
اضف تعليق