بائع جوال لم يكن معتاداً على الأماكن المغلقة المكيفة، فنسي خلع قبعته ونقابه الواقي من الشمس عندما دخل إلى القاعات المكيفة لمجلس النواب العراقي لبيع الحلوى والسكائر والسكنجبيل على أنصار التيار الصدري الذين يعتصمون الآن وقد أغلقوا المجلس بوجه أعضائه، تستطيع قراءة الصورة من وجوه متعددة...
كانت صورة مؤثرة بما للكلمة من معنى، بائع جوال ثيابه بسيطة مكونة من قبعة للوقاية من الشمس، مع نقاب يغطي الوجه بحيث لا تظهر منه سوى العيون، وبيجامة متواضعة وقميص تغيّر لونه من كثرة وقوفه تحت أشعة الشمس في التقاطعات المرورية، يلبس النَعْل المغطى بغبار الشوارع.
بائع جوال لم يكن معتاداً على الأماكن المغلقة المكيفة، فنسي خلع قبعته ونقابه الواقي من الشمس عندما دخل إلى القاعات المكيفة لمجلس النواب العراقي لبيع الحلوى والسكائر والسكنجبيل على أنصار التيار الصدري الذين يعتصمون الآن وقد أغلقوا المجلس بوجه أعضائه.
تستطيع قراءة الصورة من وجوه متعددة، قد يكون الوجه الأول دلالة على سقوط منظومة المحاصصة الحزبية، بينما كانت المنطقة الخضراء محصنة ومنيعة عن هذا النوع من المواطنين البسطاء، لم يكن بمقدور أي مواطن الدخول إلى المنطقة الخضراء كما يفعل أصحاب السلطة، وإذا أردنا الحديث عن التمييز الطبقي فالمنطقة الخضراء هي الشاهد الأول.
كما لا يمكن لأعضاء السلطة الحاكمة بجميع أحزابها وتياراتها التأقلم مع أوضاع المواطنين خارج الخضراء، لديهم سياراتهم المضللة باللون الأسود، لا تَرى ولا تُرى، ولديهم مواكبهم التي تفتح الشوارع بصافراتها المزعجة، فلا يستطيعون مشاهدة البائع الجوال، ولا حجم الخراب المنتشر في الطرقات وعلى جوانبها.
النتيجة أن الفقر والشعور بالظلم قد انفجر وداهم مجلس النواب في مواقعه المحصنة، وعندما رأيتُ المشهد تذكرت تحذيرات ممثل المرجعية الدينية في كربلاء بمقولته الغاضبة "ولات حين مندم".
قراءة أخرى نستنبطها من صورة البائع الجوال نقتبسها من الربط التَخَيُلي بين ما قام به مجلس النواب طوال السنوات السابقة، وما يقوم به البائع الجوال، كلاهما يبيع من أجل تحقيق الربح، الفرق أن البائع الجوال يبيع السكائر والحلوى لكسب لقمة العيش الكريم، بينما كان أعضاء مجلس النواب يبيعون المواقف والصفقات مقابل مردود مالي غير مُسْتَحَق.
ولست بحاجة هنا للتذكير بما رصده الإعلامي أحمد البشير في جلسة انتخاب محمد الحلبوسي رئيساً لمجلس النواب عام 2018، وطريقة التصويت وغيرها من الأمور التي تتعلق ببيع المواقف، كما أنني لا أجد ضرورة لسرد الشواهد على عمليات البيع والشراء التي جرت في قاعات مجلس النواب وحولته إلى "علوة للبيع والشراء".
لم يتغير الأمر فعملية البيع والشراء استمرت لكن طريقتها اختلفت، لم يعد هناك بيع للمواقف المخربة للوطن، هناك بيع للسكائر والحلوى والسكنجبيل.
أما القراءة الثالثة لصورة البائع الجوال داخل مجلس النواب، أن الخلافات السياسية فيها بعض الجوانب الإيجابية، فالصراع على السلطة كَسَرَ حواجز المنطقة الخضراء، وانهارت على أثره هيبة القوى السياسية الحاكمة.
لم يستفيدوا من الصفقات المالية الهائلة تحقيق انجازات فعلية توفر له حصانة تقيهم شر هذا اليوم المظلم.
ولم يبنوا شرعية شعبية تجعل الناس يدافعون عنهم في حال تعرضهم للخطر.
لقد أمضوا السنين السابقة يعيشون في عالمهم الخاص، وسياراتهم المصفحة، وبيوتهم المحمية بالكونكريت، ومن يقول لهم أن الشرعية هي من يحميكم لا يسمعون.
هذا هو وقت الشرعية الحقيقية، وما يقوم به التيار الصدري مجرد اختبار لمدى غضب الشعب من حكامه وتفضيله عدم التضحية في سبيلهم.
هل رأيتم بائع الحلوى لا يهتف ولا يرفع الشعارات السياسية لأنه يعرف أن ما يجري هو مجرد صراع على السلطة بين أطراف لا تعطي للشعب أي وزن مهما كانت مزاعمها في الدفاع عن المصالح الوطنية، فالبائع الجوال الذي شاهدناه داخل قاعات مجلس النواب لا يهمه من يتظاهر ولمن يناصر، قد يعود لممارسة عملية البيع عندما تنقلب الأمور ضد التيار الصدري، وقد يمارس عملية البيع حتى لو حدث انقلاب عسكري أو احتلال أجنبي، وقد تستقر الأحداث وتغلق المنطقة الخضراء بوجهه من جديد.
بائع الحلوى وهو الممثل الحقيقي لوجهة نظر الشعب، لم يستغرب من وجوده في مجلس النواب لأنه يعرف بأن الصراع السياسي على السلطة مستمر وما يتبقى هي "الصينية" التي يحمل فيها الحلوى، والمورد الحلال الذي يستلمه نهاية اليوم.
اضف تعليق