في الأحداث السياسية الجدلية التي لا تحتمل التبرير، يبحث المتضررون عن ذريعة، وهي مخزنة على رفوف المؤامرات، قد تبقى لسنوات بدون استخدام، وقد يزداد الطلب عليها بشدة في أزمات معينة، ليس من طرف مولع بالمؤامرات فحسب، بل من أطراف يفترض أن سلوكها مرافق للمنطق العلمي...
في الأحداث السياسية الجدلية التي لا تحتمل التبرير، يبحث المتضررون عن ذريعة، وهي مخزنة على رفوف المؤامرات، قد تبقى لسنوات بدون استخدام، وقد يزداد الطلب عليها بشدة في أزمات معينة، ليس من طرف مولع بالمؤامرات فحسب، بل من أطراف يفترض أن سلوكها مرافق للمنطق العلمي.
لماذا في هذا التوقيت؟
عبارة ملاصقة للأزمات السياسية المتسارعة، وأسهل وأسرع تبرير لأي فشل غير متوقع، هو أن نقول: "لماذا وقع الحدث في هذا التوقيت؟"، ولماذا أثيرت تسريبات معينة في ظرف كهذا؟ ولماذا اشتعل النقاش الاجتماعي بشأن اعتداءات عسكرية تمارسها دولة جارة بشكل يومي؟
لماذا التي تسأل عن التوقيت تشرب من نفس نهر المؤامرات المغذي لعقول جماعات سياسية عربية وعراقية، فمن قام بتسريب التسجيلات المنسوبة لرئيس الوزراء الأسبق السيد نوري المالكي مهاجماً فيها على أطراف متعددة، كان قد اختار التوقيت بعناية، من أجل التأثير على الإطار التنسيقي العازم على ترشيح المالكي لولاية ثالثة.
لماذا نشرت التسريبات بالتوازي مع صلاة الجمعة الموحدة في مدينة الصدر التي دعا إليها الخصم اللدود للمالكي السيد مقتدى الصدر؟ لأن القائم على التسريب قد اختار الوقت بعناية بهدف إثارة الفتنة الشيعية الشيعية، ودفع أبناء المكون الواحدة ليتقاتلوا بينهم، بعدما فشل في مشروعاتها ومؤامراته السابقة لتحقيق ذات الهدف.
وقد لا نعلم أن نشر التسريبات تزامن مع عقد قمة جدة التي هدفت للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي بحسب الرواية الإعلامية المضادة للقمة، ما يعني بداية مشروع التطبيع العراقي مع إسرائيل والتخلص من المالكي نهائياً لتجريد الشيعة من آخر قائد قوي ومدافع شرس عن حقوقهم، كما يزعم المصابون بداء المؤامرات.
لم يكن الكلام الذي أسرده نابعاً من تخيلاتي، بل من الأدبيات الإعلامية اليومية التي ترفدنا بها وسائل الاتصال السياسي لمجموعة من الكيانات العراقية، فمن السهل الربط بين مجموعة من الأحداث برابط الوقت لتبرير الفعل الفاضح أولاً، وكنوع من الوصفات الجاهزة للهروب من الأزمات السياسية.
بالعادة لا نستغرب الخطاب السياسي والإعلامي البائس للأحزاب الشيعية التقليدية، فهي معروفة بعدم الاعتراف بأخطائها واعتمادها على نظرية المؤامرة كأساس ثابت لتفسير كل ما يحيط بها من أحداث، ووفق هذه النظرية لا يكون السؤال عن التوقيت بهدف البحث عن الأسباب الفعلية للحدث السياسي، بل لبعثرة الاوراق وتعقيد الازمة ومن ثم الهروب منها للأمام.
لكننا نتفاجأ بحجم التعبئة المؤامراتية الموجودة لدى الفريق الآخر المضاد لخطاب الأحزاب الشيعية التقليدية التي بات خطابها غير فاعل وهو قائم على رد الفعل.
تركيا تنفذ عدواناً عسكرياً على أحد المصايف العراقية في محافظة دهوك، والحكومة تعلن استشهاد تسعة مواطنين وإصابة 23 آخرين، وجميع الضحايا من المحافظات الجنوبية.
بعضهم لم يمضي على زواجه أكثر من خمسة أيام فأراد قضاء شهر عسله في شمال العراق، لكنه عاد في تابوت ملفوف بالعلم العراقي، وزوجته ترملت حتى قبل إقامة وليمة اليوم السابع للزواج.
طفلة في السنة الأولى من عمرها لم تستطع والدتها توثيق لحظات لعبها بالماء البارد في المصيف، فوثقتها عدسات وسائل الإعلام، لكنها كانت مجردة جثة منقولة إلى المقبرة.
مشهد إنساني مسيل للدموع، في هذا المشهد لا تسأل سوى عن الذنب الذي اقترفه الضحايا، فلا تجد أي ذنب، تسأل عن الجاني فتجيبك الحكومة بأن القوات التركية هي من قامت فالجريمة، تبحث عن المعزين فتجد زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر على رأس المعزين، وهو الخصم اللدود لنوري المالكي صاحب التسريبات التي يتطاول فيها على الصدر.
وبما أن الصدر هو المستهدف بالتسريب، ومن مصلحته استمرار زخمها الإعلامي، لكن الطبيعي أن يكون للصدر موقف ضد الاعتداء التركي، ليس لأنه يريد تحويل الانتباه عن التسريبات، بل لأن الحدث يتطلب هذا الموقف، كما أن الإدانة للعدوان لم تقلل من شأن التسريبات لا سيما وأنها أخذت زخمها الكافي وهي من النوع الذي سيبقى تأثيره طويل الأمد لأن الملاحقات القضائية والتهديد بالملاحقة للمالكي سوف يبقى مستمراً.
تقلب الأمر يميناً وشمالاً فتجده متكامل الأجزاء، جريمة ومجرم وضحايا، وتعزية على الضحايا.
الغريب أن تبرر الجريمة بنفس الطريقة العتيقة، فيسأل أحدهم: لماذا يحدث العدوان التركي في هذا التوقيت بالذات؟ ولماذا لم تقصف تركيا في السابق، ولماذا تشوه سمعتها في هذا الوقت الحرج؟ وأشياء من جنس المؤامرات.
السؤال عن توقيت الحدث جزء من المنهجية العلمية لمعرفة الأحداث، لكن الخطاب السياسي العراقي ليس علمياً، بل يستخدم قشور العلم لصناعة حجج منطقية زائفة.
لماذا في هذا التوقيت بالذات؟
احذر، إنه سؤال زائف.
اضف تعليق