هل شاخ النظام الدولي الذي أقيم في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات والذي كرّس الولايات المتحدة قطبًا أساسيًا دون منازع؟ وهل يعني ذلك نهاية العولمة بصفتها التقليدية المعروفة؟ أليس مثل هذه الاستنتاجات متسرّعةً وفيها بعض دعاية وإرادوية في ظلّ الحرب الباردة الجديدة؟ فالحرب الأوكرانية ما تزال مستمرة منذ نحو خمسة أشهر ولم تحسم بعد...
هل شاخ النظام الدولي الذي أقيم في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات والذي كرّس الولايات المتحدة قطبًا أساسيًا دون منازع؟ وهل يعني ذلك نهاية العولمة بصفتها التقليدية المعروفة؟ أليس مثل هذه الاستنتاجات متسرّعةً وفيها بعض دعاية وإرادوية في ظلّ الحرب الباردة الجديدة؟ فالحرب الأوكرانية ما تزال مستمرة منذ نحو خمسة أشهر ولم تحسم بعد. هذه وغيرها أسئلة أمطرني بها حضور أكاديمي متميّز في محاضرة لي بمركز دانة في بغداد مؤخرًا.
وإذا كان من السابق لأوانه تبيّن وجه النظام الدولي الجديد، بل ويصعب التكهّن بملامحه، إلّا أن ثمّة حقيقتين بارزتين لا يمكن تجاوزهما في ظلّ التطورات الحاصلة.
أولهما – نهاية هيمنة الانفراد والتحكّم بالعلاقات الدولية.
وثانيهما – صعود الصين والتوجّه إلى الشرق وآسيا.
ولم يكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مبالغًا حين دعا لقيام نظام دولي جديد العام 2007 وهو ما أكّد قيامه فعليًا مع وجود روسيا قويّة فيه، وذلك في خطابه الذي ألقاه في مؤتمر سانت بطرسبورغ (يونيو / حزيران 2022) بل أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هو الآخر عبّر عن ذلك بوضوح نهاية الهيمنة الغربية على العالم”. وهناك من يضيف إلى هاتين الحقيقتين حقيقة ثالثة يلخصها بنضوب المَعين النظري القيمي للحضارة الغربية التي شهدت في العقد الماضي شكلًا من أشكال النزعات التفكيكية والعدمية مصحوبًا بعنصرية وشعبوية مخالفة لأسس الليبرالية الكلاسيكية وقيمها.
فكيف وإلى أين سيتّجه النظام الدولي الجديد؟ وهل الصين قادرة ومعها روسيا والهند وبقية دول البريكس (جنوب أفريقيا والبرازيل) التي تنتج ما يوازي 30 – 40 بالمئة من الانتاج العالمي من شق الطريق إلى المواقع الأولى بعد إنتهاء الأزمة الأوكرانية؟ خصوصًا عند محطّة 2030 علمًا بأن هذا التحالف يمكن أن يتوسّع.
التمحور حول الصين وتعدّد مراكز القوّة والنفوذ وبدايات تحالفات وتشكّلات قطبية، هو أبرز ما يمكن تلمّسه بعد الأزمة الأوكرانية. وحسب بوتين فإن روسيا لم تخسر بسبب العقوبات “المجنونة والعبثية” كما يسمّيها وأن العواصم الغربية تعاني أكثر منها؛ وأن العملية العسكرية وإن كانت “مؤلمة إلّا أنها ضرورية”.
وأستطيع القول أنه حتى الآن لم تأخذ الجوانب الإنسانية في هذه الحرب ما تستحقّه، وما تزال المأساة الأوكرانية ماثلة للعيان، حيث بلغ عدد اللّاجئين أكثر من 4 ملايين إنسان في ظروف بالغة القسوة، فضلًا عن تدمير منشآت حيوية ومرافق اقتصادية وبنى تحتية بنتها سواعد الأجيال وعلى مدى عقود من الزمن.
وإذا خاض الغرب صراعًا فكريًا وثقافيًا ودعائيًا ناجحًا في الخمسينيات والستينيات في مواجهة الاشتراكية لاختراقها من الداخل عبر “نظرية بناء الجسور” التي بلورها “تروست الأدمغة” الذي عمل فيه كبار صنّاع السياسة الخارجية الأمريكية بمعيّة الرؤساء، مثل كيسنجر وبريجينسكي ومادلين أولبرايت وكونداليزا رايز وستيفن هادلي وغيرهم، دون أن ننسى الحرب الاقتصادية وسباق التسلّح، إلّا أنه يعاني اليوم من مشكلات كبرى، بسبب التفاوت الاقتصادي والاجتماعي الحاد، فضلًا عن ضعف وهزال نظام الحوكمة القديم الذي كان يرتكز على مبادئ السيادة المعروفة، وخطل السياسة الثقافية الغربية، بل والحالة الثقافية عموماً.
فهل سينبثق بسبب ذلك نظام دولي جديد ما بعد الأزمة الأوكرانية؟ وأين موقع هذه الأزمة من الأزمات التاريخية؟
وبالعودة إلى التاريخ فقد تشكّل نظام دولي جديد مع بدايات تشكّل الدولة القومية، وذلك بعد حرب ضروس دامت 30 عامًا (1616 – 1648) بين الكاثوليك والبروتستانت، وقبلها حرب استمرّت 100 عام إلى أن تمّ التوصّل إلى معاهدة أو صلح ويستفاليا 1648 الذي اعترف بالحريات الدينية واحترام البلدان (المقاطعات) وسيادتها وإزاحة الحواجز الاقتصادية والعوائق التجارية وإنهاء الحروب الأهلية، لكن الثورة الفرنسية العام 1789 خلخلت النظام الدولي القائم تارة باسم التنوير والدعوة إلى الإطاحة بالملكيات، وأخرى بهدف التوسّع والهيمنة حتى انعقد مؤتمر فيينا العام 1815 بعد اندحار نابليون وبفضل مترنيخ أقيم نظام دولي جديد أساسه إعادة القديم إلى قدمه والمحافظة على ما هو قائم في إطار توازن دولي جديد، لكن هذا النظام اهتزّ بفعل ثورات العام 1848 الأوروبية.
واستمرّ هذا النظام حتى الحرب العالمية الأولى التي انتصرت فيها بريطانيا وفرنسا وتشكّلت عصبة الأمم 1919 في إطار نظام دولي جديد، لم يستمر طويلًا حتى بدأت الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945) والتي انتهت بتأسيس نظام دولي جديد بقيام الأمم المتحدة 1945.
وامتدّ إلى أواخر الثمانينيات على أساس القطبية الثنائية في ظلّ الصراع الأيديولوجي والحرب الباردة (1946 – 1989) حتى انهار هذا النظام وهيمنت الولايات المتحدة على المشهد الدولي والتي أخذت تضعف بعد تورّطها في احتلال أفغانستان والعراق (2001 – 2003).
إن استعادة روسيا دورها “الغائب” وصعود الصين هو ما يحدد ملامح النظام الدولي الجديد القائم على القطبية المتعددة وكسر احتكار الهيمنة. وعلى الرغم من الضباب الديبلوماسي الكثيف الذي رافق الحرب الأوكرانية، دون نسيان هدر حقوق الإنسان، الا أنه لا يستطيع إخفاء حقيقة بداية قيام نظام دولي جديد.
اضف تعليق