ان الحياة عامة، والحياة السياسية خاصة لا تستقيم بوجود نزعة التعصب للرأي او الموقف او الحزب او الزعيم. ولابد من التخلص من هذه النزعة ليكون بالإمكان اقامة الحياة السياسية ومن ضمنها الحياة الحزبية والعلاقات البينية في المجتمع على اسس حضارية حديثة...
الحزب بحد ذاته، بوصفه مؤسسة سياسية، ظاهرة صحية ملاصقة للدولة الحضارية الحديثة وملازمة للديمقراطية. وتوجد احزاب في كل الدول ذات الديمقراطيات الكاملة وعددها ٢١ دولة في العالم. وتشهد هذه الدول حياة حزبية سليمة من معالمها التنافس السلمي بين الاحزاب، وتقاسم الادوار بين حزب حاكم واحزاب معارضة، وممارسة للنشاط الحزبي في جو امن … الخ.
في غير هذه الدول نشاهد ثلاث حالات:
الحالة الاولى: عدم وجود احزاب معلنة ومجازة.
الحالة الثانية: انظمة الحزب الواحد.
الحالة الثالثة: تعددية حزبية أقرب الى الفوضى.
وحين تنشأ الاحزاب في دول لم تصعد درجات كبيرة في سلم التطور الحضاري الحديث، وهي الدول ذات المجتمعات المتخلفة عموما، فان التخلف سرعان ما يفرض نفسه على احزاب هذه المجتمعات، ونادرا ما تفلت الحياة الحزبية من امراض المجتمع المتخلف، فتصاب هي بها، بل تفقد القدرة على معالجتها وتغيير مجتمعها المتخلف، فتحصل عملية اعادة انتاج للتخلف على صعيد الاحزاب ذاتها. ويمكن للباحث ان يرصد الكثير من الخصائص السلبية في الحياة الحزبية للمجتمعات المتخلفة.
والعراق يصلح ان يكون انموذجا لدراسة الحالة الحزبية في مجتمع متخلف. فقد بدأت الظاهرة الحزبية في اوائل القرن الماضي مع بداية تأسيس الدولة العراقية، ونشأت احزاب من مختلف المشارب، مات بعضها، وبقي البعض الاخر مثل الحزب الشيوعي، في ظل النظام الملكي، ثم الجمهورية الاولى. وفي الجمهورية الثانية، التي حكمها حزب البعث من سنة ١٩٦٨ الى سنة ٢٠٠٣ تم اعتماد نظام الحزب الحاكم الواحد مع السماح بوجود شكلي وهامشي لبعض الاحزاب، فيما لجأت الاحزاب الاخرى الى العمل السري. وشهدت الجمهورية الثالثة (من عام ٢٠٠٣ الى الان) ما يشبه الانفلات في تشكيل الاحزاب في كثرة كاثرة غير مبررة، رافقها استياء شعبي عام من الاحزاب، حتى اصبحت كلمة الحزب من الكلمات غير المحببة في الذائقة الشعبية العراقية.
ومن أبرز الخصائص السلبية التي اصيبت بها الحياة الحزبية في العراق هي العصبية الحزبية، او التعصب، او التشدد، او التطرف، مع الاختلاف النسبي في دلالة كل من هذه المفردات. ويظن بعض الباحثين ان التعصب من منتجات البشرية القدية في تاريخ قد يعود الى عام ٣٠٠٠ ق م. وتروى عن الرسول محمد (ص) احاديث بعضها صحيح وبعضها ضعيف يستخدم فيها مصطلح "العصبية"، كما في النص التالي:"ليسَ منَّا مَن دعا إلى عَصبيَّةٍ، وليسَ منَّا مَن قاتلَ عصبيَّةً، وليسَ منَّا من ماتَ علَى عصبيَّةٍ". ويروي المفسرون قصة في تفسير قوله تعالى: "يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُون." (المنافقون ٨) مفادها ان رجلين من المسلمين احدهما من الانصار والثاني من المهاجرين ازدحما على ماء فاقتتلا فصرخ احدهما يا معشر الأنصار و صرخ الثاني يا معشر المهاجرين. وكان هذا من العصبية.
والعصبية تعني كما تفيد هذه القصة ان ينحاز الشخص الى قومه بغض النظر عما هو حق او باطل. ودرس علم النفس السياسي وعلم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع هذه الظاهرة، حيث اتضح ان العصبية او التعصب تنطوي على تصور الشخص المتعصب انه يملك وحده الحقيقة، وانه وحده على حق، وان غيره على باطل، ويعتقد ان الخير كله في جماعته فقط، وان الشر كله لدى الاخرين، الذين يسهل عليه ايجاد الاسباب الشيطانية وراء مواقفهم وتصرفاتهم. ويخلق التعصب الارضية المناسبة لدى ذهن المتعصب في نفي الاخر واقصائه وحتى قتله بدم بارد، كما كانت تفعل الاحزاب العراقية فيما بينها ابان حكم عبد الكريم قاسم وكما فعلت داعش بمن خالفها سياسةً او مذهبا او دينا.
التعصب للرأي او للحزب او للعشيرة او لغير ذلك ظاهرة مرضية من ظواهر المجتمع المتخلف وهو احد الافرازات الفوقية للخلل الحاد في المركب الحضاري للمجتمع ومنظومة القيم العليا الحافة به وبعناصره الخمسة، الانسان والارض والزمن والعلم والعمل. والخلل هنا يتمثل في توهم المتعصب انه وحده يملك الحقيقة، ما يجعله يرفض الاراء الاخرى، والمعلومات التي يجهلها، ويرفض التعايش مع الاخر، ويميل الى اقصائه والتخلص منه، وفرض رأيه وسلطته على الاخرين.
وقد سعى القران الكريم الى ارساء اسس المركب الحضاري السليم، فدعا الى عدم التعصب للرأي او المعتقد، و الانفتاح على الاراء الاخرى، والحوار، والتعايش، والجنوح الى السلم في العدد الكثير من اياته مثل قوله تعالى:"لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ"، "وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ۖ أَنتُم بَرِيٓـُٔونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَا۠ بَرِىٓءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ"، "وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ"، "قُلْ يَٰأَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍۢ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ"، "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ". وغير ذلك. ويروى عن الامام علي عدد من النصوص في هذا السياق مثل قوله: اضربوا بعض الرأي ببعض يتولد منه الصواب، وقوله: امخضوا الرأي مخض السقاء ينتج سديد الآراء، وقوله: من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ.
لكن الانتكاسات المتتالية التي شهدها عموم المجتمع الاسلامي، وخصوص المجتمع العراقي، جعلت الكثير من الناس يصابون بمرض التعصب وما ينجم عنه من ممارسات خاطئة وغير حضارية ومضرة في المجتمع والدولة.
ومن هذا ما شهده المجتمع العراقي من ردة فعل قوية ضد الاحزاب، وبخاصة الاحزاب التي شاركت بحكم العراق بعد سقوط النظام الدكتاتوري في عام ٢٠٠٣. والسبب المباشر لهذا هو خيبة الامل التي اصيب بها الجمهور من سوء ادارة هذه الاحزاب وارتباط الفساد بها وغير ذلك. وبلغ من قوة ردة الفعل ان حزبيا قديما كالدكتور اياد علاوي يقترح تشكيل حكومة مؤقتة لا تشارك فيها الاحزاب التي شاركت بالحكم بعد ٢٠٠٣.
ومع ان هذا الطلب غير واقعي لان كل الاحزاب الموجودة الان شاركت بالحكم بما في ذلك الحزبان الكرديان اللذان لا نتصور امكانية تشكيل حكومة عراقية بدونهما، الا انه (اي الطلب) يكشف عن حدة النفور من هذه الاحزاب.
لكن ردة الفعل هذه اصيبت هي الاخرى بمرض التعصب. فالملاحظ ان الجهات التي رفضت الاحزاب لم تتخلص من ابرز امراضها واقصد التعصب. واعني بذلك "الاحزاب الجديدة"، او ما يسمى باحزاب تشرين، وجمهورها، والجهات غير الحزبية. فمن خلال متابعة تصريحات ومشاركات افراد هذه الاحزاب الجديدة نجد ان مرض التعصب انتقل اليها بهذا الشكل او ذاك وذلك مثل تصور امتلاك الحقيقة، ورفض الافكار الاخرى، واقصاء الاخر، وعدم القدرة على التعايش وغير ذلك.
وكان هذا متوقعا لاسباب تخص المجتمع المتخلف من جهة، ولاسباب تخص الاحزاب الجديدة نفسه، من جهة ثانية. وجامع ذلك قدرة الظواهر المتخلفة على التسلل الى الكيانات السياسية الجديدة بسبب عاملين هما المحايثة والوراثة الاجتماعية، من جهة، وعدم وعي هذه المجموعات لمشكلة الخلل الحاد في المركب الحضاري الذي انتج ظاهرة التعصب الحزبي وغير الحزبي، من جهة ثانية. فاذا كنا ننتقد الاحزاب التقليدية على نزعتها المتعصبة في التعامل مع غيرها، فان النقد يوجه ايضا الى الاحزاب الجديدة والتجمعات غير الحزبية لنزعتها المتعصبة ايضا.
ان الحياة عامة، والحياة السياسية خاصة لا تستقيم بوجود نزعة التعصب للرأي او الموقف او الحزب او الزعيم. ولابد من التخلص من هذه النزعة ليكون بالامكان اقامة الحياة السياسية (ومن ضمنها الحياة الحزبية والعلاقات البينية في المجتمع) على اسس حضارية حديثة.
اضف تعليق