الناس تبحث عمن هو فوق الأمواج وفوق الازمات ليتمكن من تحديد الرؤية الصحيحة نحو الخلاص، أما اذا كان أهل الثقافة والوعي تحت هذه الامواج، فانهم سيكونوا أول من يكتوون بالفوضى الاخلاقية والقيمية، ولعل ما حصل للمعلم في فترة ليست بالبعيدة يكون مثالاً حيّاً لمآلات مشابهة تأتي في قادم الايام...
"اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"
رسول الله، صلى الله عليه وآله
من محاسن تفكير معظم افراد المجتمع؛ التطلع الى المدى البعيد لضمان الأفضل فيما يبقى من العمر، بل وضمان المكاسب المستدامة للسلف من الابناء، وهذا ملاحظ في ميدان العلم بالحرص على اكتساب التخصص ذو المواصفات المميزة مادياً ومعنوياً، كما هو الحال مع علوم الطب، كما نلاحظه في ميدان التجارة حيث الحرص على توفير الاموال، والتفكير أكثر من مرة قبل خوض مشاريع المضاربة، او الاستثمار، او افتتاح مشروع تجاري بسيط، بل وحتى نلاحظ هذا النمط من التفكير والمعروف في العراق تحديداً؛ في طريقة البناء واستهلاك المواد الانشائية، بالتأكيد على إدخال أكبر كمية من الحديد والاسمنت والرمل الاحمر وسائر المواد الانشائية ذات المتانة والقوة في أساس البيت المشيّد، وفي الاركان والأسقف ليكون البيت قوياً متيناً يواكب الاجيال والزمن!
وهذا ينمّ عن ايجابية في التفكير، وأمل وتفاؤل في النفس في مجتمع ما يزال يكابد كل أشكال الضغوطات والمنغّصات والتحديات من الخارج، تُضاف الى ما لديه من مشاكل في بنيته الداخلية، مما يستدعي التسديد من ذوي الحِجى والبصيرة لاستثمارٍ من نوع آخر يوفر حلولاً وبدائل ذاتية لما نحن فيه، إنما يحتاج الأمر بعض الالتفات الى الواقع الاجتماعي للوصول الى نتائج طيبة يرضاها الجميع.
الإعذار!
النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، تميّز عن سائر الانبياء والمرسلين في عدم التبرّم من كفر وعناد ابناء قومه خلال دعوته للتوحيد ولقيم السماء، والحديث الذي صدّرنا به المقال، جاء على لسان النبي وهو جالس يستعيد انفاسه بعد مطاردة من قبل اهالي الطائف وهم يرشقونه بالحجارة، وبدلاً من أن يدعو عليهم، رفع يده الى السماء بالقول: "اللهم اغفر لقومي فانهم لا يعلمون"، وقد تنبه علماء الحديث الى الشطر الثاني من الدعاء المصحوب بإعذار الناس، او ايجاد عذر لهم أمام الله والتاريخ بأنهم "لا يعلمون"، أي يجهلون خطل ما يصنعون، وهي رؤية منطقية جداً، فكيف لمجتمع عقيدته الشِرك، والعبودية للأوثان الحجرية وايضاً؛ البشرية، وعاش زمناً طويلاً على قيم وقوانين خاصة به، ثم يُقال له فجأة: كل ما لديك باطل وخاطئ؟
افراد المجتمع معرضون للزلل والخطأ في شتى المجالات، فماذا عن النخبة المثقفة في هذا المجتمع؟ ألا تخطأ في تقييمها للامور؟ او في احكامها وافكارها؟
الإعذار من شأنه اعطاء فرصة لاعادة النظر في جوٍ من الارتياح والانبساط النفسي، ثم الايمان والثقة بامكانية التقدم خطوات جديدة الى الامام مهما كانت الاخطاء، بينما من الصعب –اذا لم نقل من المستحيل- تصور افراد المجتمع يقبلون على افكار تنموية وإصلاحية وايجاد مصاديق عملية في حياتهم وهم يحملون في رقابهم إدانات ثقيلة بالجهل والغفلة والتخلف، مع حزمة من الصفات السيئة الخاصة بالنفس البشرية مثل؛ الجُبن، والنفاق، والانانية، وهي صور نمطية عالقة في أدمغة البعض.
عندما يعذر المثقف افراد المجتمع فانهم بالمقابل سيعفون عن كثير من الزلات والهفوات التي لا تقل خطورة عما يرتكبه عامة الناس، لما للكلمة والفكرة من تأثير ومدخلية في السلوك والآداب وطريقة التفكير.
الحقوق العامة قبل الخاصة
مما يميز المثقف عن سائر الناس وقوفه في نهاية الطابور للحصول على الحقوق المادية والمعنوية، من مِنح مالية و امتيازات، فهو الذي يُعد صوت الجماهير وتجسيد للضمير ولاهداف الناس، ينبغي عليه الانتظار ريثما يحصل آخر فرد بسيط في المجتمع على حقوقه، هذا الانتظار بحد ذاته، وإن كان نوعاً من التضامن أمام إجحاف و جور مؤسسات الدولة ومن بيدهم الحل والعقد، فهو يمثل قاعدة متينة من الثقة بين الجانبين، بامكانها تشكيل جبهة معارضة متماسكة ذات تأثير مباشر على القرار السياسي في مجالات عدّة، وتجعل رجال الدولة في مسمّى السلطة التنفيذية أو التشريعية او حتى القضائية في زاوية لوحدهم دون نصير، ليس لهم سوى الاستجابة لنداء الجماهير وحقوقهم.
صناعة البديل
هذا ما يتوقعه الطالب والكاسب والعامل والفلاح والمهني من الشريحة المثقفة المتخصصة في النشاط الذهني، فما اكتسبته من علوم ومعارف مع درجات من الفهم والوعي تمكنها من المساعدة على صناعة البديل للواقع السيئ، لاسيما عندما تتكالب الفتن والمحن على الناس بفعل التناحر السياسي والاقتتال على المال والسلطة والنفوذ، هنا أحوج ما يكون رجل السياسة الى أدوات للمواجهة والكسب الحرام على حساب حقوق ومصائر الناس.
عندما يغلب الحماس والانفعال على الرؤية إزاء قضايا واحداث مصيرية كالتي تجري في العراق، من الطبيعي أن يكون العقل في إجازة عن التفكير في بديل او حلول لما يعانيه الناس، فالناس تعيش الازمات، وليست بحاجة لمن يشتر في الحديث عن هذه الازمات، او ان يركب موجتها المصنوعة من هذا الطرف السياسي او من خصمه، ومن الغريب ملاحظة هذه الازمات تنصبّ على حياة الناس وليس على حياة السياسيين واوضاعهم المعيشية او الشخصية، فهم وعوائلهم في عالم آخر، بينما الناس العاديين يتعرضون لموجات متتالية لازمات تلد أخرى، وفي تطور جديد في الحياة المسيّسة في العراق منذ 2003، أضحت كل أزمة محوراً لاقتتال سياسي مقرف يدّعي كل فريق أنه على حق خصمه على باطل، وبين الحق المزعوم والباطل المعلوم يحصد الناس الغلاء، والشحّة، والقلق المريع، وآخرها؛ ما ألمّ بشريحة الطلاب وهم يستعدون للامتحانات النهائية، عندما عصفت بهم شبهة تسريب الاسئلة، وما أعقبه من لخبطة في المواعيد وخلخلة في اذهان الطلاب، مع شدّ عصبي وآثار سيئة من الصعب تتبعها في الوقت الحاضر، وقبلها الازمة القانونية حول مشروع مقترح تحت عنوان: "قانون دعم الأمن الغذائي".
الناس تبحث عمن هو فوق الأمواج وفوق الازمات ليتمكن من تحديد الرؤية الصحيحة نحو الخلاص، أما اذا كان أهل الثقافة والوعي تحت هذه الامواج، فانهم سيكونوا أول من يكتوون بالفوضى الاخلاقية والقيمية، ولعل ما حصل للمعلم في فترة ليست بالبعيدة يكون مثالاً حيّاً لمآلات مشابهة تأتي في قادم الايام.
اضف تعليق