لم يتحقق حلم الجنوبيين بأن ينعم بالرخاء تحت رعاية الدولة الموحدة، وبمجرد انتهاء نشوة الوحدة، وجدوا واقعاً مريراً ينتظرهم. بدأ المواطنون الجنوبيون يشعرون بالغبن والظلم بعد الوحدة، معتقدين أن الاندماج مع الشمال كان خطأ. أدى إلى تفكك الدولة الجنوبية وهيمنة الدولة الشمالية ووضع الجنوبيين مواطنين من الدرجة الثالثة...
الخلفية التاريخية للنظام الفيدرالي في اليمن
مع اكتشاف الانسان اليمني للزراعة والتي مثلت تحولا كبيرا في تاريخ الحضارة اليمنية. نشأت مجتمعات يمنية زراعية مستقرة في قرى صغيرة على شكل تجمعات عشائرية. تطورت وتوسعت وأقامت تحالفات بين عدة عشائر تولى زعماؤها واجبات إدارة المصالح العامة. أسست هذه التجمعات عوامل موضوعية لقيام الدولة اليمنية القديمة في أوائل القرن العاشر قبل الميلاد.
منذ ذلك الحين وحتى منتصف القرن الرابع الميلادي ظهرت عدة دول في اليمن: معين، سبأ، قتبان، أوسان وحضرموت. ومن ثم آلت كل هذه الاقاليم والمكونات للدولة الحميرية التي حكمت من (110 قبل الميلاد - 527 ميلادية) في ظل الاتحاد الفيدرالي (الإتحاد القبلي). النظام المعترف به في الدولة اليمنية القديمة وفق مفهوم القبيلة الزراعية المستقرة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن للقبيلة في اليمن خصوصية تنفرد بها، وهذا ما أكده دكتور جواد علي، وهي أنها لا تقوم على قرابة الدم فقط بقدر ما تقوم أيضًا على المصالح الدنيوية المشتركة لأبنائها.
هذا انعكس على شكل النظام السياسي للحكومة والتنظيم الإداري للدولة في اليمن منذ القدم، وهذا الرأي يذهب إليه أيضاً الدكتور محمد عبد القادر بافقيه. في الدول اليمنية القديمة، ساد النظام الملكي، كانت سلطة الملك محدودة. تشاركه في إدارة شؤون الدولة مجلس يسمى (المزاود) ومكون من شيوخ (الأقيال) وزعماء العشائر وكبار ملاك الأراضي. يتقاسم هؤلاء الأشخاص السلطة مع الملك، لا سيما في الأمور السيادية وفي سن القوانين المتعلقة بملكية الارض والضرائب وغير ذلك. اعتاد ملوك اليمن على نظام الشورى عند اتخاذ القرار فيما يريدون عمله سورة النمل 32 [يَٰٓأَيُّهَا ٱلْمَلَؤُاْ أَفْتُونِى فِىٓ أَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ] النظام اليمني تقدمي فيه شيء من الرأي والمشورة وحكم الشعب (الديمقراطية)، بالقياس إلى حكم الملكية المطلقة في آشور وبابل ومصر وإيران.
شهدت الدولة اليمنية صراع الإمبراطوريات الفرس والرومان، لذلك تعرضت طوال تاريخها للكثير من المحن، سواء على مستوى الصراعات الداخلية على السلطة، أو على مستوى الصراع الدولي على اليمن. هذا أنهك اليمن حتى ضعفت قوتها في مواجهة الظروف الجديدة. غزا كل من الرومان والفرس اليمن للسيطرة على موقعها الجغرافي المهم. بعدها تفرقت المكونات الاجتماعية اليمنية وانتشرت في القرى المتناثرة عند سفح الجبال والسهول والوديان، وشكلت أسواقًا ومدنًا متباعدة. حتى بعد ظهور الدولة الإسلامية وعصر الاستعمار الحديث. فلا عجب عندما نقول ظهرت دويلات قاتلت من أجل السيادة والنفوذ، تاريخ هذه الدول أو الدويلات بما فيها الحروب من أقوى الدلائل على وحدة الشعب اليمني والتراب اليمني، حيث سميت هذه الدول الصغيرة بأسماء عائلية: الصليحية، الرسولية، الطاهرية، الكثيري والقعيطي... إلخ لكن في إطار اليمن. اليمن، خلال تاريخه الماضي، لم يشطر رسميا إلا من قبل الغرباء الدولة العثمانية والبريطانية.
اليمنيون والهوية القومية الحديثة
وتشير المصادر التاريخية مع انتشار الإسلام في اليمن قسّم الرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) اليمن إلى ثلاثة مخاليف وعين حكامًا وهي: مخلاف الجند ومركزه مدينة الجند، وكان معاذ بن جبل واليا عليه. ومخلاف صنعاء، ومركزه مدينة صنعاء، وكان باذان واليا عليه. ومخلاف حضرموت، ومركزه حضرموت، وكان زياد بن لبيد البياضي واليا عليه. بالإضافة إلى تعيينه حاكما عاما لليمن. استمر هذا التقسيم طوال الخلافة الراشدة، قبل أن يتحوّل الحكم إلى ملك وراثي ارستقراطي، اسسته الدولة الأموية، بعدها دخلت اليمن في نفق مظلم ونشأة إمارات صغيرة خاضت حروباً بينية لردحٍ طويلٍ من الزمن.
ونظراً للحروب التي نشبت بين الامارات اليمنية، بالاضافة الى الايديولوجية الاسلامية، قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] أي عقيدة إسلامية عالمية لا تعترف بالقومية. لهذا السبب لم تتطوّر عند اليمنيين هوية قومية واضحة. حتى في عصر القوميات، ظل اليمنيون راسخين على هويتهم العربية الإسلامية الموروثة. يدينون أولاً بالولاء للعشيرة، ثم للطائفة أو القرية، أما فكرة الوطن، أو الولاء للوطن، هي ظاهرة جديدة كلياً في الثقافة السياسية اليمنية، ولم تبدأ إلا بعد الغزو العثماني والأوروبي أو قبل ذلك بفترة وجيزة، ولكن الشعور بالانتماء بالمواطنة اليمنية في ذلك الوقت إنحصرت بين العوام فقط.
اما التشطير لم يكن من مفردات الثقافة السياسية اليمنية وغريب عنها. تم خلق واقع التشطير في اليمن إلى الشمال والجنوب كان بفعل النفوذ الأنجلو-عثماني: في عام 1914. وقعت بريطانيا اتفاقية لترسيم الحدود بين مناطق نفوذها ومناطق نفوذ العثمانيين في اليمن، لكن لم يستطع المستعمرون البريطانيون والعثمانيون غرس روح التشطير في وعي الشعب اليمني. رغم ما فعله البريطانيون لتطوير مشاريع سياسية وثقافية تهدف إلى بلورة هوية جديدة لليمن الجنوبي والشرقي، كانت محاولة يائسة لشرخ هويته اليمنية، وذلك عن طريق وضع مشروع لاتحاد إمارات الجنوب العربي. كما قام الاستعمار بصنع كيانات سياسية وثقافية وإعلامية تتبنى تعميق مثل هذا الطرح. وشجعها على إصدار صحف (العدنية) تعمل على ترسيخ صورة اليمن وكأنه هو [الجزء الخاضع للإدارة الإمامة] فقط، والباقي جنوب الجزيرة العربية وربط مصالح هذه الكيانات به.
حتى إعلان ثورة سبتمبر 1962 وإعلان يوم جلاء الاستعمار البريطاني من عدن عام 1967 وتأسيس دولتين شطريتين في صنعاء وعدن، كان الشاعر اليمني الكبير عبد الله البردوني على حق عندما وصف الوضع في اليمن أثناء التشطير قائلاً: " في اليمن دولتان شطريتان بشعب واحد". تكسر الحلم اليمني بالوحدة وبنظام جمهوري ديمقراطي على صخرة التشطير.
مبررات الانفصال لدى الجنوبيين
بعد نضال طويل تظهر الى الوجود الدولة اليمنية الحديثة 1990 في وحدة اندماجية على اساس نظام جمهوري ديمقراطي، كانت وحدة طوعية جاءت برغبة المواطنين، لأن اليمن أمّة قبل أن يكون دولة.
لم يتحقق حلم الجنوبيين بأن ينعم بالرخاء تحت رعاية الدولة الموحدة، وبمجرد انتهاء نشوة الوحدة، وجدوا واقعاً مريراً ينتظرهم. بدأ المواطنون الجنوبيون يشعرون بالغبن والظلم بعد الوحدة، معتقدين أن الاندماج مع الشمال كان خطأ. أدى إلى تفكك الدولة الجنوبية وهيمنة الدولة الشمالية ووضع الجنوبيين مواطنين من الدرجة الثالثة. كذلك تم تهميش زعماء الجنوب في الحياة السياسية وتقليل ظهورهم في الواجهة السياسية. ونتيجة لذلك، ألقى الجنوبيون باللوم على الشماليين في هذه الصعوبات، والتي يرجع معظمها إلى المحسوبية القبلية من الشمال. ورغم أن الجنوبيين كانوا أكثر حماسًا للوحدة، إلا أنهم بدأوا بالحنين إلى الوضع القديم بعد أن رأوا موجة الاغتيالات التي طالت القيادات الاشتراكية. كانت الاغتيالات السياسية ورقة ضغط تفاوضية استخدمتها القيادة الشمالية ضد الحزب الاشتراكي والشخصيات الوطنية المستقلة. بدأت بمحاولة اغتيال عمر الجاوي التي سقط فيها رفيقه حسن الحريبي، ثم سقطت قائمة طويلة من القيادات الاشتراكية. تطور الحال وقتها نحو تعطيل كامل للخيار السياسي السلمي، واستخدم العنف كحل حاسم بالنسبة للشريك الشمالي في الوحدة، تجلّى في الحرب الدموية التي قادها ضد الجنوب 1994 معتمداً على تعبئة حقيقيه ضد الشيوعيين والانفصاليين.
تم تكريس السلطات بيد الرئيس صالح والتحالف العسكري القبلي الذي يعتمد عليه. وانتهت الحاجة للجنوبيين، لأن السلطة اصبحت بأيديهم بالكامل، وبعد ذلك تم فصل الكوادر المدنية والعسكرية الجنوبية من وظائفهم وتهميش قادتهم السياسيين. بمبادرة من بعض ضباط الجيش الجنوبي، تم حشد الجنوبيين وتنظيمهم للمطالبة بحقوقهم بالطرق السلمية ــ الحراك الجنوبي. استقبلتهم سلطة صنعاء، بقوة مفرطة. تطورت الأمور واتخذت منعطفًا جديدًا، نتيجة للقمع الذي مارسه النظام الذي اصطدم بطبيعة شعب الجنوب المائل إلى الحرية، وظهرت لأول مرة في تاريخ الجنوب الحديث ميليشيات مسلحة معارضة للنظام، مدعومة من قبائل الجنوب لمواجهة غطرسة الشمال الذي استخدم كافة أنواع الأسلحة لقمعهم، الأمر الذي أدى إلى تدمير وتهجير السكان. القسوة الشديدة التي واجه بها نظام صالح المعارضة الجنوبية ومؤيديها، عمقت الجراح والكراهية للوحدة، ودفعت الجنوبيين إلى اتخاذ قرار الانفصال.
إذن ما هي معوقات وقف الحرب وإحلال السلام؟
وتشكل مشاورات الرياض واستقالة هادي اعترافًا من التحالف بفشل الحملة العسكرية بعد سبع سنوات من انطلاقها ولا تزال قوات التحالف في طريق مسدود. الحقائق الأساسية للصراع لم تتغير. صحيح ما قاله توماس جونو، الأستاذ في جامعة أوتاوا: "لا تزال هناك العديد من العقبات". "لكن تهميش هادي بطريقة أو بأخرى ستكون دائمًا خطوة ضرورية، لكنها بعيدة عن أن تكون كافية".
في أعقاب الحرب الأهلية عام 1994، بدأ صالح في تركيز السلطة في أيدي مجموعة صغيرة من النخبة الشمالية، مشكّلة على أساس الروابط القبلية والقرابة. وهم المستشارين له عند إتخاذ القرارات وهي دائرة متماسكة أي "حكومة الظل" ومنهم (د. رشاد العليمي). حكومة الظل هي محور شبكة النخب القبلية والعسكرية التي لعبت دورًا حيويًا في مساعدة صالح على البقاء في السلطة. في أوائل عام 2000، رداً على تهميش صالح لفصيل الحوثي في الشمال والحراك الجنوبي، تم تشكيل حركة مقاومة. تدخلت جهات إقليمية ودولية لتهدئة الأوضاع وتسهيل انتقال الصلاحيات، وفق ما جاء في المبادرة الخليجية من الرئيس صالح إلى نائبه هادي. في هذه المرحلة، كانت "مجموعة النخبة الصغيرة" التي بناها صالح قلقة. اضطرت للتفاوض بشأن اتفاقيات نقل السلطة مع الحفاظ على نظام المحسوبية. انضم العديد من النخب التي كانت متحالفة في السابق مع صالح إلى المعارضة. لأنهم رأوا في الانتفاضة ضمان بقائهم في السلطة.
وأدت مشاركة النخب القبلية والعسكرية التي أسسها صالح في الثورة إلى نقطة مواجهة "إلى تنافس داخل النخب". هذا التنافس كان حاضرا أيضا في مؤتمر الحوار الوطني، ونراه من خلال التوصيات التي قدمها المؤتمر حول الدستور الجديد. قدم المؤتمر رؤى غامضة حول هيكل النظام الفيدرالي اليمني. رغم وجود العديد من المشاكل مرتبطة بهيكلية النظام الفيدرالي، منها حل المظالم في الجنوب [مطلب الحراك الجنوبي] والشمال [مظلومية الحوثي]. هذا على الجانب السياسي. أيضاً هيكل الدولة يحدد من لديه صلاحيات الإشراف وإدارة الموارد الطبيعية في اليمن، وخاصة النفط والغاز الطبيعي والمواني والجزر، لأنه من يتحكم في تدفق عائدات النفط والغاز والمواني في اليمن هو الذي يدير السلطة.
لهذا السبب، بنى صالح نظام المحسوبية الذي يضمن احتكار الحكومة المركزية (النخبة الصنعانية) لعائدات الموارد الطبيعية للدولة. بينما توجد معظم المناطق الغنية بالموارد في جنوب شرق اليمن (والمستثمرين الحضارم في الشتات). بعد الحرب الأهلية عام 1994، بدأ صالح وغيره من النخبة ذوي النفوذ في الشمال باستغلال الموارد الطبيعية الموجودة في جنوب شرق اليمن، غالبًا دون تعويض دون النظر للمستثمرين من أبناء المنطقة. يتذكر العديد من الجنوبيين ذلك عندما استولى صالح على عائدات النفط والغاز واستفادت منها النخبة من المناطق الشمالية من البلاد. رفض الجنوبيون هيمنة النخب الشمالية على السياسة والمستثمرين الشماليين على الاقتصاد. لذا الجنوبيون مصرين على إعادة التفاوض بشأن السيطرة على الموارد الطبيعية وتوزيع الأرباح بشكل عادل وتعويض الجنوبيين المتضررين من النظام الشيوعي السابق في عدن.
اضف تعليق