بعض الاحزاب والقبائل تتوجه بولائها للخارج. هذا اثر على الوحدة اليمنية. أما الجنوب كان تحت حكم دكتاتورية الحزب الواحد، التي قمعت بوحشية وفككت النظام القبلي، ونزعت سلاح من القبائل وأبقته تحت سيطرة الدولة وفرضت هيبة الدولة إلى درجة الترهيب والإرهاب النفسي. لقد فرضت هيبة الدولة وقوانينها...
كانت الجماهير اليمنية على وشك تحقيق نصر كبير واحداث تغيير سياسي شامل من خلال ثورة الشباب اليمني 2011 ضد الرئيس علي عبد الله صالح. لكن الأوساط الأمريكية والغربية سارعت إلى إجهاض هذه الثورة بعدة طرق، أهمها المبادرة الخليجية بتاريخ 3 أبريل 2011. وقد شاء القدر أن الشخص المسمى في المبادرة الخليجية، عبد ربه منصور هادي، ليحل محل الرئيس صالح غير كفء ورفضه المحتجون في شمال وجنوب اليمن.
قوض هادي النفوذ السياسي للسعودية وجميع دول مجلس التعاون الخليجي في اليمن وهذا يعني هو فشل للولايات المتحدة وخسارة كبيرة، أي فشل الولايات المتحدة في منطقة الخليج بأكمله. لم يتمكن التحالف من تشكيل سلطة متماسكة وفعالة بقيادة هادي ــ الأحمر. لأن قيادتهم لم تتلق أي دعم من الشارع أو من أي طبقة سياسية. وقتها كانت الطبقة السياسية، حليفة صالح سابقاً، أصبحت هي المنافسة لحزب صالح وتقود ضده التظاهرات، مثل حزب الإصلاح والحزب الناصري والحزب الاشتراكي.
عندها تدخلت الولايات المتحدة بذراعها النشط مع دول الخليج العربي لوقف العنف وطرح مبادرة خليجية. تسارعت الأحداث في 3 يونيو 2011، تم تفجير المسجد الرئاسي في محاولة لاغتيال صالح ومساعديه، بمن فيهم الرئيس الحالي رشاد العليمي وآخرين، لكنهم نجوا من الموت وتوجهوا إلى السعودية للعلاج. اثناء العلاج حدثت تغيرات كبيرة، الأحزاب الكبرى، المؤتمر - الإصلاح - الناصري - الاشتراكي... إلخ لم يكن لها تأثير في المجتمع، لكن تأثيرها كان فقط على أعضائها لغرض المصلحة الشخصية وليس مصلحة الدولة وإخراجها من الأزمة.
من عام 2012 إلى عام 2015، فشلت الولايات المتحدة في إقامة شريك استراتيجي حقيقي في صنعاء أو في إقامة نظام قوي ومستقل يمكن أن يمنحها التفوق على الصين وروسيا وإيران ويؤمن لها المنطقة. لم يتمكن الرئيس هادي والتحالف من تشكيل سلطة متماسكة وفعّالة. لأن المبادرة الخليجية كانت غير موفقة في اختيارها للقيادة السياسية البديلة للرئيس صالح. وعجزت في إبراز وتعيين قادة سياسيين، قادرين على تحقيق حركة سياسية تؤسس دولة حديثة على الرغم من الفرص العديدة التي أتيحت للمبادرة الخليجية.
منها تفعيل دور الأحزاب التقليدية ودعمها في بناء الدولة. السبب ان النظم الدستورية والتعددية الحزبية (مثل اليمن) يتعارضان مع النهج العام لدول مجلس التعاون الخليجي. لذلك تُرك اليمن أسير التجاذبات الإقليمية والحزبية الضيقة والقبلية. لذلك، أدت التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية المتزايدة التي واجهت حكومة عبد ربه منصور هادي إلى نفق مظلم ووضعت أمامه حل واحد فقط وهو الاستقالة: هذا ما حدث 22 يناير على ما أعتقد.
لم يكن هروب الرئيس هادي من صنعاء إلى عدن عفويًا، كان مخططًا ومنسقًا له من قبل أجهزة المخابرات الأمريكية - الصهيونية - الغربية. وذلك بعد أن اتخذ التحالف الأمريكي الخليجي قرار "الحسم العسكري". بعد وصول هادي إلى عدن وفراره السريع إلى السعودية، بدأ التدخل العسكري في 26 مارس 2015، والذي استمر أكثر من سبع سنوات دون تحقيق نصر يذكر.
للأمانة التاريخية، لم يشكل التدخل العسكري لقوات التحالف في عام 2015 وحده تهديدًا أمنيًا كبيرًا لاستقرار اليمن، هناك أزمات سياسية سابقة اجتمعت مع تدخل قوى التحالف 2015، وشكلت أدوات صلبة دمرت النظام السياسي لدولة الوحدة (1990)، الذي هو هش أصلاً. وكذا تعطلت المؤسسات الحكومية التي كانت قائمة في الشطرين قبل 1990. عمليا لم تكن هناك وحدة بين شمال وجنوب اليمن عام 1990. في الحقيقة الذي حدث هو إعلان إفلاس نظامين في عدن وصنعاء من قبل الرئيسين علي البيض وعلي عبد الله صالح وهروبهم إلى الأمام الى الوحدة. اعتمد البلدان الفقيران قبل الوحدة على تحويلات العمالة والمساعدات الدولية، وانخفضت هذه التحويلات بشكل كبير بعد حرب الخليج. حتى جذبهم نوع ثالث من رأس المال الدولي، من شركات النفط متعددة الجنسيات.
ادى اكتشاف النفط في المنطقة الحدودية منتصف الثمانينيات، إلى تضييق الخلافات بين النظامين وإضافة بُعد اقتصادي وحافز سياسي جديد للتوحيد. لذلك نجد أن الوحدة السياسية قد تم الإعلان عنها رسميًا في 22 مايو 1990، قبل دمج المؤسسات العسكرية والاقتصادية، وقبل فرض نظام أي من الدولتين رؤيته على الآخر. خلقت هذه الوحدة المرتجلة بيئة تصاعدت فيها التوترات بين مدرستين مختلفتين لمدة ثلاث سنوات انتهت بحرب صيف 1994. بعد ذلك حكم صالح اليمن برمته بأسلوبه وإدارته للخداع "بالرقص على رأس الأفعى" كما يقول وأسلوب المؤامرات في تعامله مع جميع القوى السياسية والاجتماعية، وكان الفائز من صراعه معهم.
النظام السائد في شمال اليمن هو نظام اقتصاد السوق الحر، بينما في الجنوب نظام الاقتصاد الشيوعي. حتماً ان الشركات الرأسمالية (الشمالية) المنتعشة نسبياً، بعد الوحدة، ستشتري القطاعات الاقتصادية الانتاجية المحتضرة التابعة (لدولة الجنوب). هذه القطاعات الاقتصادية المنتجة في الجنوب تعرضت في الأصل للنهب من قبل حكومة الجنوب في السابق، بموجب قرار رسمي صادر عن الدولة عام 1972 م، يقضي بمصادرة جميع المباني والعقارات من أجل الفائدة. الذي سيتبعه قانون آخر تمت بموجبه مصادرة الأراضي الزراعية الخاصة ونقل ممتلكاتها من ملاكيها وإعادة توزيعها على الفلاحين، ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم ظلت قوانين النهب سارية المفعول مستمدة شرعيتها من دولة الوحدة وتنفذ فقط في الجنوب. وبذلك قدم علي البيض ملف أملاك الجنوب على طبق من ذهب، طبق الوحدة لأبناء الشمال الميسورين. وهكذا أصبحت الممتلكات والأراضي التي نهبتها الدولة في الجنوب وقفاً خاصاً لأفراد الطائفة المنتصرة. وبعد الوحدة لم تتعامل السلطة بجدية مع هذه المظالم، بل أغلقت هذا الملف. هذه المظالم ستستمر في النمو كالخميرة وسوف تنتقل من جيل إلى جيل، ولن ينسى الجنوبيون حقوقهم الموروثة من آبائهم وأجدادهم.
بعد عام 1994، 2007، 2015 أصبحت هذه العقارات وسيلة للسلطة الفاسدة لكسب الولاء وشراء الذمم. لماذا لا تصادر الممتلكات الخاصة في الشمال كما في الجنوب. الجواب سهل في الشمال، نظام قبلي راسخ، حتى بعد ثورة 26 سبتمبر 1962 م. علاوة على ذلك، تنتشر الأسلحة في جميع أنحاء شمال اليمني، مما خلق نوعًا من الاكتفاء الأمني لهذه القبائل بعيداً عن مؤسسات الدولة، كما ان بعض الاحزاب والقبائل تتوجه بولائها للخارج. هذا اثر على الوحدة اليمنية. أما الجنوب كان تحت حكم دكتاتورية الحزب الواحد، التي قمعت بوحشية وفككت النظام القبلي، ونزعت سلاح من القبائل وأبقته تحت سيطرة الدولة وفرضت هيبة الدولة إلى درجة الترهيب والإرهاب النفسي. لقد فرضت هيبة الدولة وقوانينها على مختلف قطاعات الشعب. لذلك شعر أبناء الجنوب جيل الثورة أن في عدن نظامًا ودولة، وأصبح النظام جزءًا من حياتهم اليومية. بينما لا توجد دولة في الشمال، تعتبر الدولة "بقّالة" ومصدر رزق وليست مسؤولية. لذا نشأ جيل ثورة سبتمبر في ظل نظام فاسد.
الخلاصة: عندما يتعلق الأمر بالعملية السياسية السلمية، لا بد من التفكير بجدية بعيداً عن منظور اتفاقية مجلس التعاون الخليجي لعام 2011، والتي تنص على تشكيل حكومة مصالحة وطنية ونتائج مؤتمر الحوار الوطني. لأن ميزان القوى قد تغير، والاقتصاد اليمني يشهد الانهيار والمجتمع أصبح أكثر انقسامًا مما كان عليه قبل سبع سنوات. في ظل هذه الظروف الجديدة، من المستحيل العودة أو التفكير في منطق فترة السنوات الثلاث 2012-2014. يعتمد نجاح أي عملية سياسية جديدة على الاستفادة من الخبرة السابقة.
بالمناسبة نحذر من تطبيق مشروع المحاصصة بين الشمال والجنوب. لانها حتماً سوف تقودنا للعودة الى تجربة 2012 – 2014 والتركيز على النخبة السابقة (للعهدين صالح وهادي)، التي اثبتت فشلها واغرقت البلاد في فوضى وحرب اهلية. وسوف تتهم القيادة الجديدة بتجاهل مخاوف واحتياجات غالبية الشعب اليمني. لكن، في الوقت نفسه لا يمكن إقصاء هذه النخبة تماماً، بل يجب إعادة تشكيلها على أرضية اعادة تصميم عملية الوحدة الفدرالية.
اضف تعليق