عند مشاهدة حالات الحزن البادية على المعلقين العراقيين بشأن موت بحيرة ساوة، لا بد من طرح سؤال غاية في الأهمية، هل فقدنا هذه البحيرة فقط أم أن هنالك موارد أخرى فرطنا بها سابقاً؟ وهل هناك موارد أخرى في طريقها للفناء؟ الإجابة بكل سهولة هي...
أبلغت وكالة الأنباء الفرنسية الشعب العراقي والحكومة بوفاة بحيرة ساوة في محافظة المثنى جنوب العراق، إذ لم يعد هناك أي أثر للبحيرة وتحولت إلى أرض قاحلة بسبب الأنشطة البشرية والتغير المناخي.
ولم يعد على ضفاف البحيرة اليوم_والحديث للوكالة الفرنسية_ سوى هياكل خرسانية لمبان كانت في تسعينات القرن العشرين فنادق وبنى تحتية سياحية تستقبل عائلات وحديثي الزواج الذين كانوا يقصدون المنطقة للنزهات أو السباحة.
لقد جفت بحيرة ساوة بالكامل وباتت ضفافها مليئة بالمخلفات البلاستيكية مع هيكلين حديديين أكلهما الصدأ لجسرين عائمين كانا يعلوان سطح البحيرة.
بعد تبليغ الوكالة الفرنسية بوفاة البحيرة امتلأ العراق بخطابات العزاء والنعي لهذا المسطح المائي المميز الذي لا يرتبط بأي منفذ نهري، البحيرة معتمدة على المياه الجوفية التي تغذيها، وهي مكونة من "صخور طينية معزولة بمادة جبسية" وكانت موطناً للعديد من الأنواع النادرة من الطيور في العالم مثل النسر الإمبراطوري الشرقي وطائر الحبار والبط البني.
من المسؤول؟
الحكومة في محافظة المثنى أطلقت تهمة مزدوجة تجاه الطبيعة والبشر، فقد ألقت باللائمة على التغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة في المحافظة الصحراوية التي تعاني من الجفاف وشح الأمطار.
أما البشر فقد حفروا الآبار الإرتوازية لإقامة مشاريع صناعية قريبة خصوصاً تلك المتعلقة بالأسمنت والملح، لتسحب المياه الجوفية التي كانت تغذي البحيرة، مما حولها إلى أراضٍ جرداء.
وفي أحد سرادقات العزاء المنصوبة في وسائل الإعلام العراقية لتأبين البحيرة الفقيدة، تحدث وزير الموارد المائية مهدي رشيد الحمداني لقناة العراقية الرسمية عن إجراءات غير قانونية تسببت بوفاة البحيرة، فقد أتخذت محافظة المثنى قراراً بجعلها عاصمة العراق الزراعية.
ولتحقيق غايتها قامت المحافظة بحفر أكثر من ألف بئر بالقرب من محيط بحيرة ساوة عن طريق شركات استثمارية، ما أدى الى استنزاف المياه الجوفية وجفاف البحيرة.
ولم تسلم المناطق المجاورة للبحيرة من مخاطر الجفاف، فهناك 6 الاف كيلو متر مربع من بادية السماوة جفت نتيجة استنزاف المياه الجوفية ضمن طبقة الدمام.
إحياء الموتى
القاعدة المنطقية للموت أن من يموت تصعب عودته للحياة، والحال نفسه ينطبق على حالة وفاة بحيرة ساوة، لكن وزير الموارد المائية العراقي له رأي متفائل على طريقة أي حكومة في العالم، نحن نحتاج إلى قرار ثنائي من الطبيعة والبشر.
مسؤولية الطبيعة أن تمطر السماء لمدة ثلاث سنوات، وهذه ليست عملية سهلة، فقد انخفض معدل الأمطار في المنطقة القريبة للبحيرة إلى 30 بالمئة عن معدلاتها السابقة.
أما مسؤولية البشر فتقع عليهم مسؤولية ردم أكثر من ألف بئر حتى لا يجففوا مصادر الحياة المائية للبحيرة، وتلك مهمة أصعب من استرضاء السحاب من أجل إسقاط أمطارها في هذه الأرض الجرداء.
مشكلة أكبر
عند مشاهدة حالات الحزن البادية على المعلقين العراقيين بشأن موت بحيرة ساوة، لا بد من طرح سؤال غاية في الأهمية، هل فقدنا هذه البحيرة فقط أم أن هنالك موارد أخرى فرطنا بها سابقاً؟ وهل هناك موارد أخرى في طريقها للفناء؟
الإجابة بكل سهولة، نعم، فقدنا موارد سابقة غير البحيرة، ولدينا موارد أخرى في طريقها نحو الرحيل عن عالمنا وإلى الأبد.
كل ما نفقده يدور حول شيء واحد، لقد فقد أول شيء القدرة على إدارة موارد العراق الطبيعية والاقتصادية والبشرية.
نحن لا نستطيع خلق موارد جديدة من خلال استثمار القطاعات الثلاثة (الطبيعية والاقتصادية والبشرية).
ومن يفشل في الإدارة ينجح في الهدر، وقد حققنا نجاحات كبيرة في مجال هدر البساتين التي تم تجريفها وتحويلها إلى مساكن هي أقرب لمقابر الأحياء.
ونجح العراق في تجفيف الأنهار القريبة من المدن، بينما تم تحويل الأنهار البعيدة إلى مساحات قاحلة.
إنها سوء الإدارة وسوء توظيف من يجب أن تقع عليهم مسؤولية إدارة موارد البلد في جميع القطاعات الحيوية.
مشكلتنا تبدأ من رأس الحكم، وتنتهي عند أبسط موظف في مؤسسات الدولة، كل شيء تقريباً خرج عن الخدمة ولم يتبق منه سوى إعلان حالة الوفاة على الطريقة التي أعلن فيها موت بحيرة ساوة.
نظام الحكم ميت وغير قادرة على الحركة، إلا عبر أجهزة التنفس الاصطناعي المستوردة من الخارج.
والجهاز الإداري المترهل لمؤسسات الدولة لا يؤدي إلا نسبة بسيطة من وظيفيته الأساسية المتمثلة بتسيير أحوال المواطنين والحفاظ على النظام العام وضمان استمرارية الحياة في روح الإدارة، وانعكاس هذه الفعالية على حياة الدولة ككل. وهو لا يستطيع أداء هذا الدور.
وكما أن المشكلة معقدة، فالمسؤولية معقدة أكثر، لكن المتهم الأبرز هو الرئيس القائد حفظه الله ورعاه، ولا أقصد هنا أي رئيس ولا أي قائد، إنما كل من يدعي الزعامة والرئاسة تقع عليه مسؤولية تحمل ما يجري في بلد تائه ضيع بوصلة المسير.
زعماء البلاد عليهم مسؤولية كبرى في تصحيح مسار البلد قبل إعلان موت بحيراته وأنهاره ومناطقه الخضراء، ومن ثم يكون التصحر وانتشار المجاعة والحرب على مصادر المياه نتيجة طبيعية.
وفيما يخص الأكاديميين والصحفيين والفئات المتعلمة، فتقع عليهم مسؤولية الضغط على الزعماء بمختلف الوسائل، والتوقف عن أخذ موقف المتفرج على المصائب المتتالية التي تضرب البلاد طولاً وعرضاً.
لم تمت بحيرة ساوة إلا لتقول لنا، لست أول ضحايا سوء إدارتكم لمواردكم، ولست آخر ضحية، أنتم بلد الخير والموارد الطبيعية، لكن أنتم أيضاً بلد موت البحيرات وجفاف الأنهار، وهذه وصمة علينا وضع حد لها، أو انتظار مصيرنا المحتوم.
اضف تعليق