إن أزمة الحكم اللبناني ليست أزمة عابرة، بل هي أزمة وجود طالت جميع مقوّمات الحياة اللبنانية اليومية التي جرى تخريبها في إطار متعمّد وعضوي للبنية الديمغرافية، وذلك باختلاط التوجّه الطائفي – الديني بالتوجه السياسي ليشكّل المشهد الثقافي الأكثر تأثيراً، خصوصاً في ظلّ ضعف المواطنة وغياب الشعور بالهوية الموحّدة المتعدّدة...
استعاد اللبنانيون ذكريات الحرب الأهلية المؤلمة التي اندلعت في 13 إبريل / نيسان 1975، حيث أُزهقت فيها أرواح أكثر من 100 ألف إنسان وضعفهم من الجرحى والمعوّقين ونحو 700 ألف مهجّر.
وتأتي الذكرى اﻟ 47 لبدء شرارة الحرب التي استمرّت 15 عاماً والبلاد تعيش أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية غير مسبوقة، لم تشهدها حتى خلال الحرب، الأمر الذي جعل اللبنانيين يستذكرون تلك الأيام، وكأنهم يعيشون حرباً أخرى، ربما لا تقل ضراوة عن مآسي الحرب الأهلية وويلاتها، خصوصاً وأنها حرب فتكت بالجميع دون استثناء لدرجة جعلت الفقراء وذوي الدخل المحدود وهم الغالبية الساحقة من السكان غير قادرين على تأمين لقمة العيش وحبّة الدواء، حيث يتهدّد الجوع والموت الآلاف من الناس باستمرار حجز الودائع في البنوك وانحدار سعر صرف الليرة اللبنانية قياساً بالدولار، ناهيك عن أزمة المحروقات المستفحلة وارتفاع أسعارها الجنونية، إضافة إلى انقطاع التيّار الكهربائي وتردّي الخدمات البلدية، في حين يناقش أمراء الحرب الانتخابات القادمة والتحالفات السياسية وحصص هذا الفريق أو ذاك، في الوقت الذي لا يزال مجهولاً مصير نحو 17 ألف «مختفٍ قسرياً» حسب مصطلح الأمم المتحدة.
ويكاد المراقبون يجمعون على أن الحرب لم تنته، بل هي مستمرة بأشكال جديدة، فلبنان لا يزال مشرّعاً لحروب بالوكالة على أرضه، طالما بقي النظام الطائفي قائماً، فضلاً عن عدم معالجة نتائج حرب العام 1975 بإنصاف الضحايا ومساءلة المتسببين فيها والمرتكبين، وكشف الحقيقة كاملة وجبر الضرر وتعويض الضحايا وإصلاح النظام القانوني والقضائي وأجهزة إنفاذ القانون، في إطار نظام للعدالة الانتقالية حسب المواصفات الدولية وصولاً إلى المصالحة الوطنية.
وإذا كان اتفاق الطائف عام 1989 أجّل الانهيار وأوقف الحرب وأحدث انفراجاً، فإن الأزمة استمرّت لأنه لم يتمكّن من أن يضع حدّاً لها ويعالج أسبابها وجذورها، فضلاً عن عدم تنفيذ ما ورد فيه من إنهاء الطائفية السياسية، حتى جاء اتفاق الدوحة عام 2008 الذي نزع فتيل الحرب مؤقتاً وأبقى على جوهر الأزمة، خصوصاً بتسويف إيجابيات اتفاق الطائف، الأمر الذي فاقم الأزمة وجعلها أزمة مستعصية ومركبة وشاملة في ظلّ التداخل الإقليمي والدولي، ناهيك عن العدوان الإسرائيلي المتكرّر.
لعلّ المحرّضات المشجّعة لاستمرار الحرب وتفاقم الأزمة اللبنانية لا تزال تفعل فعلها في رحم النظام اللبناني الطائفي والذي سبق للرئيس بشارة الخوري أن كتب في مذكّراته واصفاً إيّاه ﺒ «جمهورية اتحاد الطوائف». وهذا الواقع سيكون مولّداً لأيديولوجيا العنف والإقصاء والإلغاء والتهميش، خصوصاً في ظل استشراء ظاهرة التعصّب، وهذا الأخير حين يتحوّل إلى سلوك يصبح تطرّفاً والتطرّف إذا ما صار فعلاً ينتج عنفاً والعنف حين يضرب عشوائياً يغدو إرهاباً وإذا ما استهدف الأخير إضعاف ثقة الدولة بنفسها والمجتمع والفرد بالدولة فإنه يمسي إرهاباً دولياً حين يكون عابراً للحدود.
ولعلّ «السلام البارد» حسب وصف وضّاح شرارة، أصبح مثلّجاً بعد وصول الأمور إلى طريق مسدود وترافق ذلك باندلاع احتجاجات تشرين الأول / أكتوبر 2019 العارمة والتي زادها اجتياح وباء كورونا ربيع العام 2020 والذي كشف هشاشة النظام الصحّي اللبناني المتداعي الأركان.
الحرب ليست مطاولة بالسلاح، بل هي ممارسة بالفكر أيضاً تسبق قرقعته، فما بالك حين تتسم الثقافة السياسية بالطائفية ويتم توظيف الدين لأغراض سياسية أنانية ضيقة باسم الطائفة والطائفية، وهكذا يسير الثلاثة في موكب واحد بقيادة الأيديولوجيا وتحت لوائها بزعم ادعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة.
إن أزمة الحكم اللبناني ليست أزمة عابرة، بل هي أزمة وجود طالت جميع مقوّمات الحياة اللبنانية اليومية التي جرى تخريبها في إطار متعمّد وعضوي للبنية الديمغرافية، وذلك باختلاط التوجّه الطائفي – الديني بالتوجه السياسي ليشكّل المشهد الثقافي الأكثر تأثيراً، خصوصاً في ظلّ ضعف المواطنة وغياب الشعور بالهوية الموحّدة المتعدّدة.
منذ اتفاق الطائف أصبحت الحرب مضمرة بعد أن كانت معلنة حسب تعبير عاطف عطية في كتابه المتميّز «من أحوال الثقافة والسياسة في لبنان زمن الحرب». وهذه قادت إلى أزمات واغتيالات وتهديدات وتعطيل الدولة ومؤسساتها، وصولًا إلى حالة الشلل التي تعيشها.
هكذا تتحول مصادر القوة والمنعة في لبنان والمقصود بذلك التنوّع والتعدّدية الثقافية إلى عناصر ضعف وتشتت بسبب نظام الزبائنية الطائفية والمغانم السياسية، وفي ذلك لا تكمن ذاكرة الحرب، بل حاضرها وتحدّياته الراهنة والمستقبلية.
اضف تعليق