لماذا لا نستغرب الآن من قلة اهتمام نسبة كبيرة من المواطنين بما يجري من مفاوضات تشكيل الحكومة؟ لم تعد هناك ثقة تربط الطرفين، ولا يوجد أمل بعودتها فالفرص التي أتيحت للمنظومة الحاكمة افلتت منها والشعب يراقب فشلها المتكرر في أكثر الملفات ارتباطاً بحياته اليومية بينما الهم الأكبر للمنظومة الحاكمة هو تقاسم المناصب...
في السابع عشر من كانون الأول عام 1955 قدم رئيس الوزراء في حينها نوري السعيد استقالته من الحكومة ليوحي بأنه يقوم بإصلاحات استجابة للأصوات الشعبية والسياسية المطالبة بتغيير الواقع العراقي الذي وصل في ذلك الوقت إلى حالة من الغليان وعدم الثقة في النظام الحاكم.
وكعادة المنظومة الحاكمة في تلك المدة، فقد كانت تعتمد على تدوير نفس الشخصيات، مرة يقوم نوري السعيد بتشكيل الوزارة ومرة أرشد العمري، ومرة ياسين الهاشمي، وصالح جبر، وغيرهم.
في نفس يوم الاستقالة-الذي ذكرته في مقدمة المقال-عاد السعيد وشكل حكومة جديدة، أبقى فيها جميع الوزراء السابقين، وتم تغيير ثلاثة وزراء فقط، فما الذي تغير حتى تستقيل الحكومة ويعاد تشكيلها؟ إنها اللعبة المفضلة في العهد الملكي، استقالة وتشكيل للوزارة كلما حدثت أزمة معينة.
يلاحظ في العهد الملكي سهولة استقالة الحكومة وسهولة تشكيلها، مع كل تظاهرة شعبية أو حركة سياسية رافضة لسياسات الحكومة، تستقيل الحكومة وتجرى الانتخابات وتتشكل حكومة جديدة في غضون أيام، لتُقَدّم على أنها المُنقِذ والمُخَلّص للبلد من مشكلاته، وفي الحقيقة لا يتغير شيء سوى اسم رئيس الوزراء ووزرائه الذين كانوا قد شاركوا في حكومات سابقة.
يَعرف الملك والحاشية السياسية بعدم حدوث التغيير في واقع العراق، لكنهم يعملون هذه التبديلات في الوزراء ورؤساء الوزراء من أجل توفير مادة للحديث، وخيط أمل لمن يعانون من عقدة التفاؤل في عراق ولد معاقاً ولا يستطيع الحركة باستقلالية تامة.
وبمرور السنوات وُلدت طبقة عبارة عن خليط من الطامحين والمتضررين والوصوليين ومعهم المستفيدين من تبدل موازين القوى الدولية، وتنامت بشكل جعلها قادرة على التأثير في جسد السلطة الحاكمة التي ما تزال في حينها تعيش أجواء الأيام الأولى لنهاية الحكم العثماني، بينما تغيرت طموحات الناس بالتطورات الجديدة وصعود قوى لم تكن موجودة سابقاً.
هذه القوى لم يعد يهمها التغيير الشكلي في الحكومات، ولا تغريها بعض الإصلاحات الشكلية، بدأت تطمح باقتلاع النظام من جذوره، لا سيما مع ضعف الداعم الأول له بريطانيا، ورفع الولايات المتحدة الأميركية الضوء الأخضر من أجل للسماح بتغيير الواقع العراقي بأي طريقة كانت شريطة إضعاف أو إنهاء النفوذ البريطاني.
تجتمع مجموعة من المسببات الداخلية والخارجية، وإخفاقات النظام المتكررة لتجعل الناس لا تطمح بإصلاح النظام القائم إنما اقتلاعه من جذوره واستبداله بنظام آخر، لا يهم الناس من يأتي لرئاسة الوزراء، نوري السعيد المزمن، أو أي شخصية بعده، ما يهم الناس والفاعلين السياسيين وأصحاب المصالح الجدد هو قلب النظام كلياً بعدما استنفد كل فرص إصلاحه.
حدثت الكارثة بحق النظام الذي استهان بالتيارات الجديدة الجارفة، واعتقد أنه يستطيع السيطرة على كل تحرك ضده لا سيما مع نجاحاته السابقة في استعادة زمام الأمور عام 1936 مع انقلاب بكر صدقي، وعام 1941 مع حركة العقداء الأربعة وعام 1948 خلال الاحتجاجات ضد معاهدة بورتسموث.
لكن عام 1958 كان مختلفاً، لأن القوى الجديدة جهزت نفسها جيداً وامتلكت تجربة كافية للإطاحة بالنظام الذي أثبت نفسه عاماً بعد آخر باستهانته بحياة الناس ومطالب القوى الجديدة الصاعدة السياسية والعسكرية والاجتماعية.
قد لا يتشابه الوضع العراقي الراهن مع أوضاع العهد الملكي، فإذا كانت عملية استقالة الحكومة وعودة تشكيلها لا تستغرق سوى أيام معدود، فالعكس هو الصحيح، من الصعب استقالة الحكومة حالياً، وإن حدثت الاستقالة تزداد الصعوبة في عملية تشكيل الحكومة، وما نعيشه من أزمة سياسية منذ ستة أشهر شاهد على تعقيدات تشكيل الحكومة.
وإذا اختلفت علمية الاستقالة والتشكيل لا يعني هذه غياب التشابه في مواضع أخرى، فالمنظومة الحاكمة خلال العهد الملكي كانت منفصلة عن الشعب ولا تهتم بما يجري من نقاشات ومطالبات وطنية، يجري فرض الإرادات من الأعلى بغض النظر عن وجهة نظر الشعب والقوى الفاعلة الأخرى، وهو ما يتشابه تماماً مع المنظومة الحاكمة حالياً.
وبسبب هذا الأسلوب في فرض القرارات من الأعلى تبرز فجوة بين الشعب وقادته السياسيين، تتسع مع كل قرار جديد لا يحقق مرضاة الشعب، حتى تنقطع آخر حلقات الثقة، يبتعد الشعب وينتهي اهتمامه بالتغييرات التي تطرأ على الحكومة لأن أمله الوحيد هو قلب النظام رأساً على عقب.
لماذا لا نستغرب الآن من قلة اهتمام نسبة كبيرة من المواطنين بما يجري من مفاوضات تشكيل الحكومة؟
لم تعد هناك ثقة تربط الطرفين، ولا يوجد أمل بعودتها فالفرص التي أتيحت للمنظومة الحاكمة افلتت منها والشعب يراقب فشلها المتكرر في أكثر الملفات ارتباطاً بحياته اليومية بينما الهم الأكبر للمنظومة الحاكمة هو تقاسم المناصب.
ربما من الصعب إعادة الثقة بين منظومة الحكم والشعب، ومن الصعب استمرار نظام للحكم فوق شعب لا يثق به، وهنا تكمن الخطورة التي لا تستطيع أي جماعة سياسية معالجتها، حيث تكتفي بإلقاء اللوم على غيرها.
اضف تعليق