يراقب المتخصصون بإدارة الأزمات بشغف شديد المباراة الروسية الأمريكية في التعامل مع ما يجري في أوكرانيا، فبالرغم من ان القوات الروسية والاوكرانية تخوضان حربا، الا ان هذه الحرب بالمنظور الأمريكي الروسي ليست سوى أزمة حادة مازالت تحت السيطرة ولم تصل الى حافة الهاوية، فالهاوية ان يتصاعد لهيبها الى حرب عالمية...
يراقب المتخصصون بإدارة الأزمات بشغف شديد المباراة الروسية الأمريكية في التعامل مع ما يجري في أوكرانيا، فبالرغم من ان القوات الروسية والاوكرانية تخوضان حربا، الا ان هذه الحرب بالمنظور الأمريكي الروسي ليست سوى أزمة حادة مازالت تحت السيطرة ولم تصل الى حافة الهاوية، فالهاوية ان يتصاعد لهيبها الى حرب عالمية، وهو احتمال بعيد.
لقد وضعت هذه الأزمة التراث النظري لإدارة الأزمات بدءا من الأزمة الكوبية وما تلاها من أزمات دولية أمام اختبار جديد للتيقن من كون معطياته حقائق راسخة، وتفترض دلالات الرسوخ التزام طرفي الأزمة الأساسيين أمريكا وروسيا بالمبادئ والمتطلبات والأساليب التي يفترض أن تُدار على وفقها الأزمات.
ومع انه من المبكر تقييم حدود نجاح ادارة كل طرف للأزمة، فمازالت في بدايتها، ولدى أطرافها المزيد من الخيارات، لكن التقييم المرحلي قد يعطي تصورات تنبؤية لما ستؤول اليه مستقبلا، ففي حدود ما مر من وقت يبدو ان الروس أقرب الى تحقيق أهدافهم الاستراتيجية: تحييد اوكرانيا وتدمير عناصر قوتها العسكرية ومنعها من الانضمام لحلف الناتو، وبالتالي تخلصها من أن تكون تحت الرحمة الأمريكية.
بمعنى آخر ان اتخاذ أوكرانيا قاعدة غربية لتهديد روسيا وتحجيم أدوارها صار هدفا بعيد المنال لأمريكا وحلفائها، وان الاصرار عليه يستدعي الدخول في مغامرة عسكرية، وهو خيار مستبعد امريكيا، ومن المتعذر رضوخ الحلفاء في حال حصولها، وبالتالي لابد من الانتقال لبديل آخر وان كان أقل أهمية من الأول، وهو محاولة دفع الروس بأي ثمن لاحتلال اوكرانيا واسقاط حكومتها، وذلك بإطالة أمد الحرب، ودعم المقاومة الاوكرانية لاستنزاف روسيا، ما يضطرها مع قساوة العقوبات الاقتصادية لحسم الأمر والدخول الى كييف التي لا تبعد عن قواتها سوى كيلو مترات معدودة.
الا ان الذكاء الروسي جعل من كييف هدفا على مرمى بصر، ومن الخيارات الممسوكة، بحيث يدرك الجميع انها قادرة على دخولها خلال ساعات، لكنها استثمرت ذلك وسيلة ضغط على الحكومة الاوكرانية، وعنصر قوة في المساومة التي تجريها مع الفريق المفاوض، بحيث تكتسب فيه الاتفاقات التي ستعقدها معهم صفة الشرعية الدولية بوصف حكومة زيلنسكي منتخبة بإرادة شعبية، في حين لا يتحقق ذلك مع حكومة موالية لها عند اسقاط الحكومة.
وهذا تحديدا ما منع الروس من حسم المعركة في أيامها الأولى، وهو أيضا ما تدركه حكومة زيلنسكي الراغبة بالانضمام الى الاتحاد الأوربي، والمتيقنة حاليا باستحالة تحقيقه، وما تفاوضها مع الروس الذين لم يغلقوا قنوات الاتصال معها، الا دليل على ذلك، ساعية للوصول الى اتفاق بأقل الخسائر الممكنة وفي مقدمتها تجنب سقوطها وتدمير البنى التحتية للبلاد، مقابل أوكرانيا محايدة.
ومثل هذا الاتفاق يقتضي أسبابا وجيهة شعبيا لإبرامه، ولا أكثر اقناعا من الحديث عن غياب الدعم الغربي الحقيقي لأوكرانيا، وتركها وحيدة تصارع الدب الروسي، ولذلك طالب زيلنسكي مرارا واشنطن والعواصم الاوربية بتوفير غطاء جوي لبلاده، بالمقابل اعتذرت اوربا وامريكا عن تلبيته، لأنه يضع الأزمة في مفترق طرق حاسمة، وبالتالي أمسك زيلنسكي بالحجة التي تحفظ ماء وجه الأوكرانيين، والمقبولة لدى الرأي العام المحلي والعالمي فيما اذا رضخ لإرادة موسكو.
ان بوادر الاتفاق تلوح بالأفق، وما التصريحات الايجابية التي خرجت بها مفاوضات اسطنبول، وانسحاب جزء من القوات الروسية، وانخفاض مستوى العمليات العسكرية، والموقف الاوربي الواقعي حيال امدادات الطاقة الروسية، ما دفع بعض دوله الى التمرد على مخططات واشنطن الأقل تضررا من تلك الامدادات، الا مؤشرات على ذلك، لكن الأزمة لن تتوقف بعقد الاتفاق، لأن الامريكان لن يرضوا بانتصار روسي، واستعادة مكانة مفقودة، وعليه قد يغيرون في الأهداف وفقا للواقع الجديد ليتقدم هدف اضعاف القدرات الاقتصادية الروسية، بمعنى تعزيز العقوبات، فهل ستصمد روسيا اقتصاديا؟ الاجابة رهن بحسن ادارة الأزمة.
اضف تعليق