ان المقترحات والافكار الاصلاحية التي ينادي بها الكثيرون يجب ان تكون شرعية، اي متوافقة مع الدستور، لضمان استمرارية الاستقرار الدستوري حيث لا يصح ان يبدأ المجتمع العراقي من نقطة شروع جديدة في كل مرة. تؤدي البدايات الكثيرة الى فقدان خاصية التراكم التقدمي في حركة المجتمع العراقي. وهذا ما نعاني منه...
من الضروري جدا التحلي بالحساسية الفائقة ازاء "الشرعية" فيما يتعلق بمؤسسات الدولة وقراراتها. وتشكل هذه الحساسية احدى الضمانات المهمة لعدم ظهور مؤسسات غير شرعية او اتخاذ قرارات غير شرعية. والشرعية هي وصف يمنح لفعل أو شخص على أنه ضمن إطار الدستور او القانون النافذ. فالشرعي هو ما كان موافقا للدستور او القانون، وغير الشرعي هو ما كان مخالفًا للدستور او القانون.
وتعني "الحساسية" رفض الشعب لاية مؤسسة او قرار لا يتصف بهذا الوصف. وهذه الحساسية احدى ضمانات عدم خروج الحاكم او صاحب السلطة والقرار على الشرعية، باي شكل من الاشكال.
وتحرص المجتمعات على ترسيخ الشرعية لضمان استقرارها ومنع الهزات الداخلية. فتصبح الشرعية قاعدة اساسية من قواعد بناء الدولة، وضبط سلوك الحكام والمحكومين معا.
ويساعد "الاستقرار الدستوري" على ترسيخ الشرعية وارساء القواعد الثابتة لها، ومن ثم استقرار الحياة السياسية و ثبات الدولة. وهذا ما تحرص عليه الدول الديمقراطية العريقة. ومثال ذلك دستور الولايات المتحدة الذي مازال ساريا ونافذا منذ دخولهِ حيز التنفيذ سنة 1789. وقد كُتبت الوثيقة في اجتماع فيلادلفيا عام 1787 وحظيت بالتصديق عبر سلسلة من مؤتمرات الولاية التي عُقدت في عامي 1787 و1788. ولا يعني هذا ان الدستور كان كاملا ومبرأً من النواقص في صيغته الاولى، بل كان نصا ناقصا تعوزه الكثير من التفاصيل ولهذا اضطر الاميركيون الى تعديله 27 مرة.
لم يعرف العراق دستورا دائما منذ عام ١٩٥٨، حيث الغت سلطات الجمهورية الاولى دستور عام ١٩٢٥ ولم يتم وضع دستور دائم الا في عام ٢٠٠٥. وكانت بعض قوى المعارضة العراقية اقترحت العمل بدستور عام ١٩٢٥ بعد الغاء المواد المتعلقة بالملكية.
وقد ارسى الدستور الجديد اسس الشرعية حين نصت المادة (5) على ان "السيادة للقانون، والشعب مصدر السلطات وشرعيتها".
وقد اكدت المحكمة الاتحادية، برئاسة جاسم محمود عبود، هذا المبدأ الاساسي حين قالت في فقرة مهمة وردت في القرار رقم ٢٣ لسنة ٢٠٢٢:
"اصبح اليوم انشاء البرلمانات ركنا جوهريا في الحياة الديمقراطية" …" وان كل ذلك يفترض الالتزام باحكام الدستور باعتبار ان الدستور هو الذي يعطي الشرعية لمؤسسات الدولة الاتحادية والاقليمية، وبخلافه تفتقد تلك المؤسسات شرعيتها".
وهذا ما عبرت عنه المادة ١٣/ اولاً من الدستور التي تقول: "يُعدُ هذا الدستور القانون الاسمى والاعلى في العراق، ويكون ملزماً في انحائه كافة، وبدون استثناء".
وعلى هذا فان الشعب مصدر الشرعية والالتزام التام بالدستور شرطها.
يمثل هذا الحد الادنى من الشرعية التي يجب ان تتوفر وتترسخ في المجتمع العراقي. وهي شرعية حازت على قبول اغلبية الشعب بها باستفتاء عام، وعلى قبول المرجعية الدينية العليا.
وبناء على ذلك، فاني اقول ان المقترحات والافكار الاصلاحية التي ينادي بها الكثيرون يجب ان تكون شرعية، اي متوافقة مع الدستور، لضمان استمرارية الاستقرار الدستوري حيث لا يصح ان يبدأ المجتمع العراقي من نقطة شروع جديدة في كل مرة. تؤدي البدايات الكثيرة الى فقدان خاصية التراكم التقدمي في حركة المجتمع العراقي. وهذا ما نعاني منه منذ ولادة العراق المعاصر الى اليوم.
لكن هذا لا يمنع ان يكون ضمن الاجندة الاصلاحية تعديل الدستور، لمعالجة ما حصل فيه من ثغرات ونواقص، ومواد لا تناسب حركة المجتمع العراقي نحو الدولة الحضارية الحديثة.
اضف تعليق