وإذا كانت البُنيةُ الاجتماعيةُ مُوحِشَةً، فإنَّها سَتُنتج فَرْدًا مُتَوَحِّشًا، لأنَّ الفراغ الرُّوحي يُؤَدِّي إلى اشتعال الرَّغَبَات وتأجُّج الغرائز. وبما أنَّ المُجتمعات تختلف مِن حَيث طبيعة الظواهر الثقافية التي تنتشر فيها، فإنَّ ماهيَّة السُّلطة المعرفية ستختلف تَبَعًا لإفرازاتِ الظواهر الثقافية وانعكاساتِ المعايير الأخلاقية. وكما أنَّ الإنسان يَصنع الثقافةَ...

(1)

العلاقةُ المُتبادلةُ بين السُّلوكِ الاجتماعي وثقافةِ الحياة اليوميَّة، تحتاج إلى تفسيرٍ معرفي مُتجدِّد، وتحليلٍ نقدي مُستمر، مِن أجل تطويرِ الوَعْي الإنساني بالنظام الاجتماعي، وتحويلِ التَّصَوُّرات الذهنيَّة إلى سياسات إبداعية فاعلة في مجالات النشاط الواقعي، الذي يَتَأثَّر بالتحولات اللغوية والثقافية، النَّوعية والكَمِّية.

وهذا التأثُّر لَيس رَدَّةَ فِعْل، وإنَّما هو منهج فِكري يُولِّد فلسفةً تأويليَّةً للوجود الإنساني ضِمن وَعْي الفرد وشُعوره تجاه المجتمع. والوعيُ والشُّعورُ يَصنعان تاريخًا جديدًا للتفسيرِ المعرفي لأنساق المجتمع، ويُكوِّنان صِياغةً عِلْمِيَّة للتحليل النَّقْدي للعَالَم الذي يتحوَّل إلى شبكة مُتكاملة ومُترابطة، في حِين تُصبح حياةُ الأفراد أكثر فرديةً وانعزالًا.

وإذا كانت البُنيةُ الاجتماعيةُ مُوحِشَةً، فإنَّها سَتُنتج فَرْدًا مُتَوَحِّشًا، لأنَّ الفراغ الرُّوحي يُؤَدِّي إلى اشتعال الرَّغَبَات وتأجُّج الغرائز. وبما أنَّ المُجتمعات تختلف مِن حَيث طبيعة الظواهر الثقافية التي تنتشر فيها، فإنَّ ماهيَّة السُّلطة المعرفية ستختلف تَبَعًا لإفرازاتِ الظواهر الثقافية وانعكاساتِ المعايير الأخلاقية.

وكما أنَّ الإنسان يَصنع الثقافةَ، كذلك الثقافة تَصنعه. وكما أنَّ الإنسان يتحكَّم باللغة، كذلك اللغة تتحكَّم به. والإشكاليةُ لا تَكمُن في التأثير المُتبادَل بَين الذات والموضوع، والسلوك والثقافة، والثقافة واللغة، وإنَّما تَكمُن في التَّحَدِّيات المصيرية أمام قُدرة الإنسان على صَهْرِ الثقافات المُتَعَدِّدة، واستيعابِ الأنساق المركزية في الوجود الحُر (العَالَم الخيالي) والوجودِ المُقيَّد (العَالَم الواقعي).

هل يَستطيع الإنسانُ أن يُطوِّر أدوات فِكرية لتحويل التناقض إلى تجانس باستخدام رمزية اللغة المُتَأصِّلة في الظواهر الثقافية؟. هَل يَستطيع الإنسانُ أن يُكوِّن آلِيَّات معرفية لتحويل التَّلْفِيق إلى تَوفيق باستخدام دَلالات الثقافة العميقة المُتَجَذِّرَة في القِيَم والأفكار؟. إنَّ هَذَين السُّؤَالَيْن يُحدِّدان طريقةَ تفاعل الأفراد مع بعضهم البعض، ويُوضِّحان كَيْفِيَّةَ تعامُل الأفراد معَ النظام الاجتماعي المُسيطر على السلوك الإنساني والأحداثِ اليوميَّة.

وبما أن الأسئلة الوجودية لا تنتهي، ولا يُمكن حَصْرُها، فلا بُد مِن إيجاد منهج فِكري قادر على تحليلِ مُكوِّنات البُنية الوظيفية للثقافة، وبيانِ دَورها في تحديد نِقاط القُوَّة ونِقاط الضعف في مصادر المعرفة الفرديَّة (الجُزئية) والجَمَاعِيَّةِ (الكُلِّية)، وتنظيمِ الطاقة الرمزية في التفاعلات الاجتماعية، مِن أجل التَّعَرُّفِ على جَوهرها، وأُسُسِ تَكوينها، وكَيْفِيَّةِ تأثيرها، وأسبابِ تغيُّرها في المراحل الزمنية المُختلفة.

(2)

النظامُ الاجتماعي كُلٌّ لا يتجزَّأ، والمَاهِيَّةُ الثقافية هي جَوهر إنساني حقيقي، ولَيست عَرَضًا زائلًا وتابعًا للمصالح الشخصية والمنافع الفئوية، وهذا يعني أن المعايير الأخلاقية مُطْلَقَة لا نِسْبِيَّة. والإنسانُ لا يَخترع منظومةً أخلاقيةً لتتلاءم معَ مسار حياته، وإنَّما يَرسُم مسارَ حياته وَفْق المنظومة الأخلاقية.

وكما أنَّ ثقافة الأحداث اليوميَّة تَلعب دَوْرًا جوهريًّا في تنمية وَعْي الإنسان بذاته، ووَعْيِه بموضوعات حياته، كذلك المنظومة الأخلاقية، مِمَّا يعني أنَّ الهيكل الأخلاقي للمجتمع هو المُحَرِّكُ الأساسي للفِكر الإبداعي، والمُؤَثِّرُ الحقيقي على العملية الإنتاجية التي ترتفع بمستوى الإنسان، ولا تَستهلك إنسانيته، والمُسَيْطِرُ على حركة الوَعْي مِن البيئة الخارجية إلى البيئة الداخلية للنظام الاجتماعي.

وإذا صارت إنسانيةُ الإنسان إطارًا معرفيًّا، ونسيجًا لُغويًّا، وتنظيمًا للقواعد السلوكية التي تتحكَّم بطريقة بناء التفاعلات الاجتماعية، فإنَّ هُوِيَّة المُجتمع سَوْفَ تتكرَّس كتاريخٍ قائم بذاته، وسياسةٍ عقلانية تتحمَّل مسؤوليةَ السُّلطة، وتتجذَّر في أشكال التأثير الاجتماعي النابع مِن إتاحة الفُرصة للأفراد كَي يُعبِّروا عن ذَوَاتهم وَفْق خِبراتهم الخَاصَّة، بِدُون قلق داخلي، ولا ضَغْط خارجي.

(3)

وظيفةُ الوَعْي الإنساني أن يُلاحِق آثارَ السُّلوك الاجتماعي في ثقافة الحياة اليوميَّة، وهذه الآثارُ تُمثِّل تجارب مَوضوعية في غاية الأهمية، لأنَّها تعبيرٌ عن الحرية المُنْضَبِطَة بالمسؤولية التي تَمنع الفِكْرَ الاجتماعي مِن التَّحَوُّل إلى أداة قَمْع، وتعبيرٌ عن المفاهيم الأخلاقية التي تَحْمي الفردَ والجماعةَ مِن التهميش والإقصاء، وتَحُول دُون تمزيق نظام العلاقات الاجتماعية في الشعور الباطني والإدراك الظاهري.

وإذا كان الوَعْي لا يَقُوم إلا على السُّلوك والثقافة معًا، فإنَّ هُوِيَّة المُجتمع لا تَقُوم إلا على العقلانيَّة والعدالة معًا. وهذا يُؤَدِّي إلى تحقيقِ التجانس في بُنية الفِعل الاجتماعي، وتفعيلِ التفكير الناقد في كَينونة المسار التاريخي الحقيقي للفرد والجماعة.

* كاتب من الأردن

اضف تعليق