استمرت المنافسة العالمية وسباق التسلح مع الولايات المتحدة تحت حكم بوتين على الرغم من الفوارق الاقتصادية. نعلم في الوقت الحالي لروسيا عدد من الحلفاء والعملاء أقل بكثير مما كان مع الاتحاد السوفيتي، وبالتالي تنفق روسيا أموالًا أقل بكثير من الاتحاد السوفيتي. النخب الروسية الجديدة (بوتين) ليست مهتمة بالمنافسة الأيديولوجية...
في أعقاب مؤتمري يالطا وبوتسدام في نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبح الاحتواء ركيزة مهمة لاستراتيجية السياسة الخارجية للولايات المتحدة. كان الغرض من الاحتواء هو الحد من نفوذ وتوسع الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة من خلال الوسائل الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والعسكرية. وصفها جورج كينان بأنها "الاحتواء طويل الأمد والصبور واليقظ للتوسع الروسي". الاحتواء هو حل وسط "بين التهدئة والانفصال"، والأكثر دقة هو "سياسة إنشاء تحالف استراتيجي لكبح توسع قوة أو أيديولوجية معادية أو لإجبارها على التفاوض سلميا". ولكن بعد أن تحدى الاتحاد السوفيتي مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، انخرطت القوتان العظميان في صراعات غير مباشرة بالوكالة، بما في ذلك حروب شاملة في كوريا وفيتنام، مما يشير إلى عسكرة الاحتواء.
بعد الحرب العالمية الثانية، برزت الولايات المتحدة كواحدة من أهم القوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية. حاول الغرب (بريطانيا العظمى) والأمريكيون إجبار السوفييت على تقديم تنازلات، لكن الاتحاد السوفيتي رفض. وأصر على حماية حدوده بمنطقة عازلة خاضعة للرقابة (أوروبا الشرقية). حينها استخدمت الولايات المتحدة المساعدة الاقتصادية كعنصر استراتيجي في سياستها الخارجية، ونجحت من خلال خطة جورج مارشال، وشكلت تحالفًا غربيًا عام 1949 (الناتو) هذا ساعدها على مسك زمام المبادرات الدولية وفرضت هيمنتها على عدد من الدول، وكذا فرضت هيمنتها على مؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد وفرضت عملتها الخاصة، الدولار، والتي أصبحت ثابتة للجميع.
في ذلك الوقت، كان الاقتصاد السوفييتي إما متعثرًا أو متخلفًا من الناحية التكنولوجية أو في حاجة ماسة إلى التحديث. علاوة على ذلك، لم يتمكن من إيجاد نموذج اقتصادي قادر على تعزيز التنمية الاقتصادية واستمرارية النمو. لقد فهمت القيادة السوفيتية في ذلك الوقت هذا الوضع، والذي بموجبه الضعف الاقتصادي والمالي يحد من حرية العمل لأي دولة على المسرح الدولي. وعليه وصل آخر زعيم للنظام الشيوعي السوفيتي، غورباتشوف، إلى السلطة في عام 1985، وورث اقتصادًا محتضرًا ونظامًا سياسيًا مدمرًا. أهدر سلفه، منهم ليونيد بريجنيف، أرباح طفرة النفط التي دامت عقدين من الزمن على سباق تسلح مع الولايات المتحدة، بالإضافة إلى العبء العسكري، وكذا مولت الدولة السوفيتية سياسة خارجية باهظة التكلفة، متنافسة على قيادة العالم الاشتراكي مع الصين في مواجهة العالم الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة. ودعمت موسكو مستوى المعيشة لشعوب أوروبا الشرقية، مع العلم أن مستوى معيشة الشعب السوفيتي منخفضة، ومولت موسكو البلدان التي تسير في فلكها في جميع انحاء العالم. ومع ذلك، ظهرت اضطرابات في دول "أوروبا الشرقية" المثقلة بالديون تجاه الغرب. لم تتمكن موسكو من تهدئة اضطرابات شعوب دول "أوروبا الشرقية" أو دعم الاقتصادات المتعثرة لأنظمتها الشيوعية.
في النهاية تمردت تلك الأنظمة الموالية لموسكو على غورباتشوف، مستغلة الثغرات وإساءة تطبيق برنامجه الإصلاحي لإنقاذ النظام الاشتراكي الأممي المتعثر. يقول المؤرخ ستيفن كوتكين، غورباتشوف يؤمن بإمكانية بناء ما أسماه الزعيم التشيكي ألكسندر دوبتشيك "اشتراكية بوجه إنساني". اعتقد غورباتشوف ومن حوله أن "الاقتصاد المخطط يمكن إصلاحه بشكل أساسي دون إدخال الملكية الخاصة الكاملة أو أسعار السوق". كانوا يعتقدون أن تخفيف الرقابة سيزيد من ولاء السكان للاشتراكية. كانوا يعتقدون أنه يمكن إضفاء الطابع الديمقراطي على الحزب الشيوعي.
مجموعة غورباتشوف مخطئين. يعتقدون ان منح حرية أكبر للمواطنين للتعبير عن آرائهم، سوف يساعد المواطنين السوفييت في قضية الإصلاح من خلال التنفيس عن إحباطهم تجاه القادة والمسؤولين غير الأكفاء. وبدلاً من ذلك، بدأوا في استخدام الحرية فيما أسماه كارل ماركس "النقد القاسي لكل شيء موجود". تضاعفت المنافذ الإعلامية وتعددت عبارات الاستياء. لقد تحدى النقاد الأيديولوجية الماركسية اللينينية. في النهاية أدت هذه الإصلاحات إلى انهيار الاتحاد السوفيتي في 25 ديسمبر 1991.
المرحلة الثانية من تطور روسيا، دولة بوريس يلتسين
كانت هذه الفترة (1991-1999) من عهد يلتسين مضطربة وفوضوية في كثير من الأحيان. تميزت بظهور دولة ضعيفة للغاية في فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي، مع ظهور اقتصاد السوق، وبداية حركة أقرب إلى الديمقراطية، أي شكل جديد من الاستبداد الضعيف. أتيحت الفرصة ليلتسين لهدم جميع مؤسسات الحقبة السوفيتية المتبقية وبناء هياكل دولة جديدة تمامًا مكانها. يقول مايكل ماكفول أن يلتسين حصل على "فرصة" لـ "إقامة دولة استبدادية جامدة... أو... بناء دولة ديمقراطية". في هذه الحالة، لم يعمل يلتسين مع أي منهما. في محاولة لتجنب ما اعتبروه خطأ غورباتشوف بالتركيز على السياسة على حساب الاقتصاد، ارتكب يلتسين وفريقه الخطأ المعاكس، ارجاء التصميم المؤسسي والتركيز بدلاً من ذلك على تنفيذ أجندة الاصلاحات الاقتصادية الراديكالية.
ومع ذلك، نظرًا لأن روسيا الحديثة (بوتين) بعيدة عن أن تكون على وشك الانهيار كما كان الاتحاد السوفيتي في أواخر الثمانينيات. فقط يجب على قيادتها كما أشار إيغور جايدار معالجة التحديات التي تواجهها الدولة الروسية قبل أن تضعف البلاد بشكل كبير. أما أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي قد حددها رئيس الوزراء الروسي الراحل والاقتصادي إيغور جايدار في كتابه "انهيار إمبراطورية: دروس لروسيا الحديثة"، قال ان النظام السوفييتي لم يتابع إصلاحاته بشكل جدي حتى عندما أدرك قادته أن هذه الإصلاحات أصبحت مسألة حياة أو موت وتتطلب تدابير فعالة من الحكومة السوفيتية لمواجهة الاقتصاد السوفيتي المتعثر. توقف غورباتشوف في اتخاذ اي إجراءات بسبب القلق الذي اصابه من أن السكان وأجزاء من النخبة لن يقبلوا التضحيات المؤلمة المطلوبة لمثل هذه الإصلاحات، والتي حسب قوله، قد تؤدي إلى عدم الاستقرار السياسي.
يتمتع بوتين بسلطة أكبر من غورباتشوف في التعامل مع الكوادر الحكومية ويمكنه إعادة تشكيل كبار المسؤولين والتأثير على قرارات الحكومة، على سبيل المثال: اللوبي العسكري الصناعي معروف بصلابته ومعارضته لأي تخفيضات كبيرة في الانفاق الدفاعي. نعلم في عهد غورباتشوف "الاتحاد السوفيتي" كان الانفاق الدفاعي عبئًا لا يطاق على الميزانية، خاصة في الأيام الأخيرة للاتحاد السوفيتي، غورباتشوف كان عاجز في اتخاذ أي قرار. لكن في ظل حكم بوتين مع انكماش الاقتصاد في 2015-2016، حددت الميزانية الحكومية للفترة 2017-2019 تخفيضًا بنسبة 6٪ على الإنفاق الدفاعي، على الرغم من أن حصة الانفاق الدفاعي في الاتحاد السوفيتي تحت حكم جورباتشوف كانت 18-23٪.
استمرت المنافسة العالمية وسباق التسلح مع الولايات المتحدة تحت حكم بوتين على الرغم من الفوارق الاقتصادية. نعلم في الوقت الحالي لروسيا عدد من الحلفاء والعملاء أقل بكثير مما كان مع الاتحاد السوفيتي، وبالتالي تنفق روسيا أموالًا أقل بكثير من الاتحاد السوفيتي. علاوة على ذلك، نظر الاتحاد السوفيتي إلى العالم بأسره على أنه ساحة صراع محصلتها صفر مع الولايات المتحدة، لكن بوتين فضل التدخل فقط عندما يرى تهديدًا لمصالح روسيا الحيوية. بدأت روسيا بالفعل حملات عسكرية في سوريا والآن في أوكرانيا، تحت إشراف بوتين. الزعيم الروسي حريص على إبقاء الإنفاق على تلك الحملات تحت السيطرة. وبحسب ما ورد كلفت الحملة في سوريا أقل من 3٪ من ميزانية الدفاع في البلاد.
الخلاصة
استوعب صُنّاع السياسة الروس الجدد (بوتين) دروساً كثيرة من تجربة الاتحاد السوفيتي السابق، درسوا اسباب الاختلالات والاضطرابات الاقتصادية في التسعينيات. بوتين فور توليه منصبه في عام 2000، أنشأ صناديق استقرار جديدة كاستجابة مباشرة لهذه المخاوف. مكّنت هذه الأموال روسيا من تكوين احتياطيات من عائدات التصدير لمساعدتها على مقاومة الآثار الاقتصادية الكلية لصدمات أسعار النفط وانخفاض عائدات الصادرات. على الرغم من الانخفاض الكبير في أسعار النفط، تمكنت موسكو من إعادة بناء احتياطياتها من العملات الأجنبية، مع جعل الأصول المالية أقل عرضة للعقوبات الأمريكية المستقبلية. نتيجة لذلك، تكيفت روسيا مع انخفاض أسعار النفط وبنت ممتصات للصدمات من شأنها أن تجعل الاعتماد على صادرات الطاقة أقل عرضة للخطر.
النخب الروسية الجديدة اليوم (بوتين) ليست مهتمة بالمنافسة الأيديولوجية، بل بفرص تحقيق المكاسب المادية. في الواقع، ركزت روسيا على المكانة العالمية أكثر من القيادة العالمية وأبقت مصالحها الحيوية أقرب إلى الوطن الروسي، مع الأخذ في الاعتبار جيرانها والفضاء السوفيتي السابق.
اضف تعليق