من أهم معالم الإعلام الحضاري أن يسلّط الضوء على الخبرات الناجحة والجهود المميزة لبعض المؤسسات والبرامج والمبادرات الإعلامية في مختلف المجالات؛ إذ هي في عدد من تجلياتها تمثل لبعض النظريات الإسلامية حول الاتصال والإعلام، وكشف عن دور الإعلام في الحياة المعاصرة في المجتمعات العربية والإسلامية، وما يمثله...
لقد أصبح الإعلام السمة المميزة للعصر الحديث، وأضحى تأثيره في حياتنا طاغيًا لا يستطيع معه أي فرد في أي ركن من أركان الدنيا أن يتجنبه، إنه يصنع العقول ويحركها، يغير اتجاهات الأفراد ويوجههم إلى حيث يشاء، يخطو بالشعوب والدول ويتقدم بها إلى الأمام، تلك مهمة الإعلام الهادف القائم على منظومة إعلامية استراتيجية وفق تخطيط دقيق هادف يؤدي الأهداف المنشودة ويحقق مجالات التنمية، إن الإعلام هو الذي يرسم اليوم ما يمكن أن نطلق عليها الخريطة الإدراكية الوجدانية أمام ضغوط توجهات إعلامية تسعى إلى تجريد الأفراد من هويتهم وانتماءاتهم وقيمهم ومعتقداتهم وثقافتهم الذاتية.
وقد أظهرت نتائج الدراسات والواقع الذي نحياه الدور التأثيري الممتد لوسائل الإعلام في تشكيل وعي الشعوب، ومن ثمَ توجيه تلك الشعوب صوْب قيم بعينها، سواء كانت سلبية أو إيجابية. وفي ضوء ذلك كانت وسائل الإعلام ميدانًا خصبًا للترويج لمنظومة القيم الغربية التحررية داخل المجتمعات الإسلامية، وقد ساعد على هذا الترويج وجود كوادر بشرية من أوساط المسلمين تأثرت بالغرب وانبهرت به، ورأت ذلك من باب «المدنية الحديثة»، فصبغوا ووجهوا الوسائل الإعلامية التي يملكونها أو يديرونها أو يعملون في قطاعاتها المتعددة وفق ما يطرحه الغرب من قيم تحررية، فكانوا بذلك أحد أدوات الصراع القيمي، وفي المقابل حملت وسائل الإعلام الهادفة على عاتقها مسئولية ترسيخ القيم والمبادئ، ومحاولة مواجهة الهجمة التغريبية في وسائل الإعلام المروجة للقيم الغربية في المجتمعات الإسلامية.
وتميزت رسالة الإسلام بأنها منهج شامل للحياة، رسم للإنسان معالم لنظمه الاجتماعية المختلفة، وذلك حتى تتوافق هذه النظم مع الغاية الأسمى لوجود الإنسان، وهي استخلاف الله تعالى له في الأرض وعمارتها وفق منهج الله تعالى وتحقيق عبادته وحده، وهذه الغاية لابد أن تتوافر لها المبررات القوية والمقنعة التي تدفع بهذه الغاية وتقوي العزائم في سبيل تحقيقها في الواقع الإنساني.
لذلك كان لابد من صياغة هذه النظم والمعارف صياغة إسلامية تربط الجانب العلمي والواقعي بالجانب العقائدي والروحي في الإسلام، ويعتبر الإسلام أصل ومصدر للمعرفة العلمية والتطبيقية، ولذلك كان للإعلام مكانة هامة في الإسلام على الرغم من أنه لم يكن معروفا في وقت نزول الوحي على رسولنا صلى الله عليه وسلم، فالمتأمل للدور الملقي على عاتق الدعاة يجد أن مفهوم الإعلام يكاد يكون مطابقا لمفهوم الدعوة، فالدعوة عمل إعلامي تخاطب العقل وتستند إلى المنطق والبرهان، وتعمل على كشف الحقائق.
من المؤكد أن الحاجة إلى الإسهام الحضاري الإسلامي مُلحّة في هذا الوقت أكثر من غيره، ولعل من أهم معالم الإعلام الحضاري أن يسلّط الضوء على الخبرات الناجحة والجهود المميزة لبعض المؤسسات والبرامج والمبادرات الإعلامية في مختلف المجالات؛ إذ هي في عدد من تجلياتها تمثل لبعض النظريات الإسلامية حول الاتصال والإعلام، وكشف عن دور الإعلام في الحياة المعاصرة في المجتمعات العربية والإسلامية، وما يمثله هذا الدور من إمكانيات هائلة تستطيع أن تسهم في برامج التنمية في هذه المجتمعات، وتعين الوسائل الأخرى للتنشئة والتوجيه والتربية والتعليم في تحقيق أهداف المجتمع وطموحاته في النهوض الحضاري المنشود.
إنَّ الحاجة ماسّة اليوم لرسم سياسة ثقافية إعلامية تهدف إلى تطوير خطاب إعلامي ينطلق من جملة من المبادئ النفسية والتربوية والاجتماعية والسياسية؛ سياسة تتصف المرونة والتجدد للاستجابة للوقائع المتغيرة، والحاجات المتجددة، وتتوجه بصورة مباشرة إلى إصلاح المجتمع وتنميته، وضمان التماسك في نسيجه المجتمعي، والتخطيط الهادف إلى الإسهام الفاعل في بناء الحضارة الإنسانية، والحضور في ساحة العالم.
وقد يكون تخطيطاً فكرياً ثقافياً لكنه يؤدي إلى إنجاز مجتمعي وإبداع حضاري، وعند الحديث عن رؤية إسلامية للإعلام المعاصر فإنه لا ينبغي أن ننسى ضرورة إسهام هذا الإعلام في تطوير الخطاب الإسلامي الذي يكرّس معاني الوحدة والتكامل، وروح الأخوة والتراحم والتآلف بين أبناء المجتمع، وينقل إلى الناس في المجتمعات الأخرى، مقاصد الإسلام برسالته السمحة ومضامينه الخيّرة، ودعوته بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن. وإذا كان الإعلام هو العِلّة التي أسهمت في إفساد كثير من هذه المعاني وتشويه حقيقة المقاصد، فإن الإعلام الحضاري هو الوسيلة الناجعة لمعالجة هذه العِلّة.
إن استثمار خطابنا الإعلامي للبُعد القيمي سيمكّنه من تنظيم المجتمع أخلاقياً؛ أي إدماج المفاهيم الأخلاقية في الحياة العامة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأكاديمية؛ إذ سيسهم الإعلام الحضاري في إنتاج القيم وإشاعتها في المجتمع من خلال البرامج الثقافية؛ بجميع تمثلاتها، مما سيؤثر بعد ذلك في التنشئة الاجتماعية؛ فيتأسس الفرد على مبادئ وقيم نابعة من هوية المجتمع، فيصبح هذا الفعل مقابلاً منطقياً للتحللّ الاجتماعي الذي تتجلى مظاهره في الجوانب السياسية والاقتصادية والقانونية والتربوية والثقافية.
ومع تسارع جذب المنصات الإعلامية التفاعلية وبروز أدوات مؤثرة للإعلام الجديد، يظهر جلياً أن الإعلام من أهم أدوات العصر المؤثرة والأكثر بروزاً وحضوراً، إنه منبر مفتوح على الجميع، يؤدي دوراً استراتيجياً في المجتمعات، والإسهام في مسيرة التنمية والازدهار ومواجهة التحديات، ووضع المؤثرات الإيجابية في مختلف مجالات الحياة، إن حرية التعبير تمثل اليوم واحدةً من أثمن الحقوق، لأنها تعتبر الركيزة التي تقوم عليها كل حرية أخرى، وهي أساسٌ لكرامة البشرية.
إن وعينا بأهمية الإعلام وجميع أشكال التواصل في صياغة شخصية الإنسان وتربيته، وفي تشكيل الرأي العام وتوجهاته، يفرض علينا تطوير استراتيجيات إعلامية جديدة، تسهم في حركة الإنتاج العلمي والفكري والاقتصادي، ومعالجة مشكلات الأمة وتلبية متطلبات النهوض الحضاري الذي ينبغي أن تسعى إليه، وتوقف الهدر الكبير في حياة الناس وأوقاتهم، والتوظيف العبثي لإمكانيات المجتمع ومقدراته، بإشغال المساحة الأكبر من برامج الإعلام في وسائله المختلفة في مجالات الحياة الاستهلاكية الرخيصة، وتكريس مظاهر الاستلاب والتبعية.
فالمستقبل المستدام يتطلب من القائمين على وسائل الإعلام بمنظور قيادتها والتمايز المؤسسي لديها أن يكون لها تأثير إيجابي عميق على من حولها في المجتمعات العربية والإسلامية من خلال تعزيز الأداء والتحسين المستمر والابتكار المنهجي عن طريق تسخير الإبداع من أصحاب المصلحة، حيث أن المؤسسات المتميزة لديها قيادة تشكل المستقبل وتحقق ذلك بوصفها قدوة مؤثرة من خلال قيمها وأخلاقها ونظام عملها.
اضف تعليق